الخطبة الدينية بإمامة الشيخ عبد المهدي الكربلائي بتاريخ (26 جمادي الاول 1438 هـ الموافق 24 /02 /2017 م)

المتقي يتعامل برزانة وكياسة مع الأحداث المضطربة التي ربّما تشكّل خطراً على حاضرنا ومستقبلنا

الإنسان المتقي يكون منصفاً وعادلاً مع الجميع

من خصال المتقي الحفاظ على الأمانات الماليّة وكذلك الأسرار والأحاديث

النص الكامل للخطبة الاولى  

أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللّعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي كرّم بني آدم ورزقهم من الطيّبات، وفضّلهم على كثيرٍ ممّن خلق تفضيلاً، وخلق له ما في الأرض جميعاً وأحلّه ما بين موجوداتها مقاماً رفيعاً، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبدُهُ وسيّدُ رسله وداعيتُه الى أقوم سبله، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله مصابيح الظلام وقادة الإسلام، أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي بتقوى الله تعالى، وانتفعوا بهذه المواعظ ولا تهملوها وخذوا بمناهج الإصلاح التي وضعها الله تعالى ولا تبخلوا عنها وأمُرُوا بالمعروف وانهوا عن المنكر، ومُرُوا بها كلّ مؤمنٍ يسمع قولكم، وحثّوا عليها كلّ أحدٍ يتفيّأ بظلّكم، واحذروا غضب الله عليكم إذا أنتم تركتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. أيّها الإخوة والأخوات سلامٌ عليكم جميعاً من ربٍّ رحيم غفور ورحمة منه وبركات.

ما زلنا في مواصفات المتّقين التي بيّنها الإمام أمير المؤمنين(عليه السلام)، وها نحن ذا في فصلٍ آخر من هذه الفصول التي يصف فيها الإمام(عليه السلام) المتّقين بهذه الأوصاف فيقول: (...يَعْفُو عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِي مَنْ حَرَمَهُ وَيَصِلُ مَنْ قَطَعَهُ، بَعِيداً فُحْشُهُ لَيِّناً قَوْلُهُ غَائِباً مُنْكَرُهُ حَاضِراً مَعْرُوفُهُ مُقْبِلًا خَيْرُهُ مُدْبِراً شَرُّهُ، فِي الزَّلَازِلِ وَقُورٌ وَفِي الْمَكَارِهِ صَبُورٌ وَفِي الرَّخَاءِ شَكُورٌ، لَا يَحِيفُ عَلَى مَنْ يُبْغِضُ وَلَا يَأْثَمُ فِيمَنْ يُحِبُّ، يَعْتَرِفُ بِالْحَقِّ قَبْلَ أَنْ يُشْهَدَ عَلَيْهِ، لَا يُضِيعُ مَا اسْتُحْفِظَ وَلَا يَنْسَى مَا ذُكِّرَ) في هذه الخطبة نذكر شرحاً لهذه المواصفات التي ذكرها أميرُ المؤمنين(عليه السلام) فنبتدئ بهذه الصفات الثلاث التي اعتبرتها الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة من مكارم الأخلاق ومحامد الصفات وخيرها، التفتوا أيّها الإخوة والأخوات الى هذه الصفات وما هي منزلتها ومقامها عند الله تعالى، اعتبرتها الأحاديث الشريفة من خير أخلاق الدنيا والآخرة وهي أن تعفو عمّن ظلمك وتُعطي من حرمك وتصل من قطعك، في البداية نذكر بعض الآيات القرآنيّة والأحاديث الشريفة التي بيّنت منزلة هذه الأخلاق، تعلمون إخواني وأخواتي الأخلاق الإسلاميّة لها مفردات كثيرة ولكن لبعض هذه الأخلاق مرتبة ومنزلة عالية ألا وهي هذه الصفات الثلاث، لاحظوا في هذا الحديث الشريف عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) ماذا يقول: (ألا أُخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة) يعني خير الأخلاق في الدنيا والآخرة، قيل: ما هي يا رسول الله؟ هذه الأخلاق التي تعتبر أفضل وأكرم الأخلاق وخير الأخلاق في الدنيا والآخرة، يقول(صلّى الله عليه وآله): (العفو عمّن ظلمك وصلة من قطعك والإحسان الى من أساء اليك وإعطاء من حرمك)، ولاحظوا أيضاً في الآية القرآنيّة الكريمة أنّ من ينال هذه الصفات فهو ذو الحظّ العظيم، فكيف تكون منزلة هذه الأخلاق؟ (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا...) من هم هؤلاء الذين يدفعون السيّئة بالحسنة ويتمتّعون بهذه الأخلاق (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).

ثمّ تذكّروا أيّها الإخوة والأخوات هذا الحديث، يوم القيامة في هذا الجمع المبارك وجمع من الأوّلين والآخرين تأتي الملائكة وتسأل أين هم أهلُ الفضل؟ لا شكّ أنّ الكثير منكم يتمنّى أن يكون من أهل الفضل والإحسان والكرم، فهل نتصوّر أنّ الملائكة تسأل عن أهل الفضل المادّي والإحسان الماليّ؟!! لا.. لاحظوا الجواب في هذا الحديث، الذين سيقومون مَنْ هم؟ أصحابُ الإحسان والكرم المعنويّ والأخلاقيّ فيخرج عنقٌ من الناس – أيْ جماعةٌ من الناس- فتسأل الملائكةُ ما هو فضلكم الذي من أجله قمتم الآن وأصبحتم من أهل الفضل الذين برزتم في هذا الحشر الكبير، فيأتي هنا الجواب منهم، يقولون: (كنّا نعفو عمّن ظلمنا ونصل من قطعنا ونعطي من حرمنا) ثلاث صفات فماذا تُجيبهم الملائكة، هل أنتم -الذين تدّعون هذه الصفات أنّكم من أهل الفضل- صادقون أم كاذبون؟! يقولون لهم: صدقتم ادخلوا الجنّة. فإن أحببتم أيّها الإخوة والأخوات أن تكونوا من هؤلاء -أهل الفضل- الذين يصفونكم الملائكة بأنّكم صدقتم أنّكم من أهل الفضل وتُفتح لكم أبواب الجنان مباشرةً تخلّقوا بهذه الأخلاق الثلاثة -العفو عمّن يُسيء اليكم وتصلون من يقاطعكم وكذلك تُعطون من حرمكم.

أيضاً في حديثٍ آخر عن النبيّ(صلّى الله عليه وآله) أنّه قال: (ثلاثٌ والذي نفسي بيده إن كنت حالفاً لحلفتُ عليهنّ...) يقول هناك ثلاثة أمور إذا أردت أن أحلف وأقسم أقسم على هذه الأمور لتوكيدها وبيان مصداقيّتها التامّة، ما هي هذه الثلاث؟ (...ما أنقصت صدقةٌ من مال فتصدّقوا...) أيْ لا تخافوا من أنّ الصدقة تُنقِص من أموالكم أبداً، بل هي تزيد في ذلك (...ولا عفا رجلٌ عن مظلمةٍ يبتغي بها وجه الله تعالى إلّا زاده الله تعالى بها عزّاً يوم القيامة...) يقول إن أنت تعفو عن المسيء لا تتصوّر أنّ في ذلك إذلالاً لك أو إنقاصاً من منزلتك ومكانتك وإذهاباً لعزّتك، بل أبداً الله تعالى هو بيده العزّةُ للإنسان والله تعالى سيزيدك بهذا العفو عزّاً في الدنيا والآخرة، وهكذا أحاديث كثيرة تتحدّث عن هذه الصفات، وطبعاً هذه الصفات تحتاج الى شيء من المجاهدات النفسانيّة، لذلك قد يسأل سائل هذا الذي هو ذو حظٍّ عظيم الذي يدفع السيّئة بالحسنة لماذا هو ذو حظّ عظيم؟ (وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، أوضّح ذلك أيّها الإخوة والأخوات.. من طبع الإنسان إذا أُسيء اليه أنّه يريد أن يثأر لنفسه وينتقم فيردّ الإساءة بإساءة، ومن طبعه إذا ظُلم يردّ الظلم بظلم، من طبيعته إذا قوطع من أرحامه أو أصدقائه أيضاً يواجههم بالقطيعة ويواجههم بالمثل، كذلك إذا كان يستحقّ على أحدٍ بذل وعطاء فحرمه من البذل هو أيضاً إذا تمكّن في يومٍ من الأيّام يحرمه وهذا من طبيعة النفس الإنسانيّة، إلّا الذين يمتلكون المجاهدات النفسانيّة والقدرة على السيطرة وملكة السيطرة على الانفعالات والعواطف والمشاعر، فيكبتون هذه المشاعر وهذه الانفعالات وحبّ النفس للانتقام والتشفّي بالآخر فلا يفعل مثل فعله، هؤلاء فقط الذين لديهم هذه المجاهدات لديهم صبر لديهم نفس كريمة لديهم شجاعة يواجهون هذه الإساءة بالإحسان ويواجهون القطيعة بالصلة ويواجهون الحرمان بالبذل والعطاء، هؤلاء فقط وأنتم إن شاء الله تعالى بهذه المجاهدات النفسانيّة بما تمتلكونه من إيمان بالله تعالى وتنتظرون من جزيل الأجر والثواب تتحلّون بهذه الصفات، لذلك ورد في الحديث (ألا أخبركم بخير أخلاق الدنيا والآخرة...) فوُصفت بأنّها خير الأخلاق، وإنّ الذي يُواجه السيّئة بالحسنة هم الصابرون الذين لهم حظٌّ عظيم عند الله تعالى في الدنيا والآخرة.

لذلك الإمام(عليه السلام) يبيّن هنا من خلال هذه المواصفات من أوصاف المتقين (يعفو عمّن ظلمه يعطي من حرمه يصل من قطعه) لذلك إخواني من الآن أنتم إن شاء الله تستمعون الى هذه المواعظ فتتّبعونها وتقتدون بسيرة أمير المؤمنين(عليه السلام)، أيّها الإخوة والأخوات من له رحم قاطعه بادرْ الى صلة رحمك، من لديه أخٌ مؤمن قاطعه بادرْ الى صلة أخيك المؤمن، من كان هناك إنسانٌ قطَعَ عنه ما يستحقّه من بذل والآن مكّنه الله تعالى فليبادرْ الى أن يبذل له، وكذلك من أساء إليه شخص بادرْ اليه بالاعتذار منه، لذلك ورد في التربية الأخلاقيّة للأئمّة(عليهم السلام) وكرّرنا هذا الحديث بما مضمونه: (إذا تهاجر مسلمان فمكثا ثلاثاً لا يصطلحان إلّا كان أحدهما أو كلاهما خارجان من ولاية الله) بهذا المضمون فقيل للإمام: هذا الظالم فما بالُ المظلوم؟ يعني هناك شخصٌ ظالم أساء وهناك شخصٌ مظلوم أُسيء اليه، فقال الإمام(عليه السلام): (لأنّه لا يتعامس له عن كلام أخيه ولا يدعوه الى صلته، فإنّ الله حكمٌ عدلٌ يأخذ للمظلوم من الظالم) يقول الإمام كأنّه يربّينا يقول: تغافلْ كأنّك لم تسمعْ هذه الإساءة من أخيك واذهب أنت وقل: أي أخي أنا الظالم، صحيح أنت ظلمت لكن أنا أعتبر نفسي أنا الظالم، ويدعوه ويزوره ويتواصل معه، لذلك أيّها الإخوة والأخوات مَنْ أحبّ منكم أن يكون من أهل الفضل يوم القيامة إذا نودي أين أهل الفضل وأحبّ أن يقوم ويفتخر بهذه المنزلة، فعليه بهذه الخصال، إذا أحدٌ من أرحامك قاطع اذهب الآن الى صلته، أو أخٌ مؤمن لك أساء اليك اذهب الى مصالحته ومُدّ له يد المصافحة والأخوّة، وكذلك إذا حُرِمت من بذلٍ بادرْ أنت الى البذل والعطاء بالمال وبأمورٍ أخرى تكنْ من أهل الفضل وتكنْ من أهل الصبر ومن ذوي الحظ العظيم.

ثمّ يقول الإمام(عليه السلام): (بعيداً فحشُه ليّناً قولُه..) الفحشُ هو ما يُستقبح من القول والكلام البذيء الذي يُستقبح ذكرُه من السبّ والشتم وغير ذلك من الأمور، الإنسان المؤمن المتّقي دائماً يُراقب لسانه ويُراقب ما يصدر منه من قول، فأيّ كلامٍ بذيء مستقبح من القول يتجنّبه وكذلك الكلام الذي ليس فيه فائدة، وأذكر لكم أيّها الإخوة والأخوات ما ورد في الأحاديث (انتبهوا الى ما يصدر من ألسنتكم، إنّ الله حرّم الجنّة على كلّ فحّاش بذيء قليل الحياء لا يُبالي بما قال ولا ما قيل فيه) يعني الإنسان الذي لا يُبالي بما يصدر ولا يكترث ولا يهتم بما يصدر منه من كلام سواءً كان كلاماً حسناً مقبولاً أو كان كلاماً فاحشاً بذيئاً غير مقبول شرعاً ولا أخلاقاً ولا بما يُقال فيه، يسمع من الآخرين كلاماً وطعناً فيه ولا يهتمّ لمنشأ ذلك الطعن وليس له حياء فهذا محرّمٌ عليه دخول الجنّة، لم يأتِ الحديث بسيرة الصلاة أو الصوم فربّما الإنسان أحياناً يقوم بهذه العبادات -صلاة أو صوم- وغير ذلك لكنّه في نفس الوقت بذيء اللّسان بذيء في ألفاظه، لذا ورد في الحديث أنّ الله حرّم الجنة على مثل هذا الإنسان، وقوله: (ليّناً قولُه) الإنسان المؤمن لا يكون خشناً حادّاً في كلامه بل يكون رفيقاً ليّناً لطيفاً في كلامه خصوصاً في موارد معيّنة، أيّها الإخوة والأخوات أنت أيّها المؤمن أيّتها المؤمنة إذا دعوتم إنساناً آخر الى طاعة الله تعالى أو أمرتم بالمعروف ونهيتم عن المنكر لا يكن كلامكم خشناً مع الآخرين، حادّاً فيه غلظة وخشونة وقسوة، بل لابُدّ أن يكون كلاماً لطيفاً رقيقاً ليّناً، أيضاً إذا نصحتم ووعظتم أو أحببتم أن توجّهوا إنساناً في موقع المسؤوليّة، يتعامل مع الآخرين حتى مع أبنائه أو أصدقائه أو إخوانه لابُدّ أن يكون ليّناً لطيفاً في كلامه يبتعد عن الخشونة والغلظة في الألفاظ، ولاحظوا الأسلوب القرآنيّ إخواني في تربيتنا على نمط الكلام ونمط القول لا نوع القول، بل نمط هذا الكلام والقول الذي يصدر منّا، فرعون هذا الطاغية المتجبّر حينما أمر اللهُ تعالى موسى وأخاه هارون(على نبيّنا وآله وعليهما أفضل التحيّة والسلام) كيف وجّههما بأيّ نمطٍ من القول والكلام: (اذْهَبَا إِلَىٰ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَىٰ * فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ)، إخواني إذا كان هذا مع الكافر مع الطاغية مع المتجبّر القرآن الكريم يربّي أنبياءه وعباده على القول الليّن فكيف بنا نحن إذا الواحد منّا رأى شخصاً لا يصلّي أو يرتكب منكراً هل يأتي له بألفاظٍ شديدة قاسية مؤلمة جارحة للمشاعر؟ أم يأتي له بكلامٍ ليّنٍ لطيف، يأتي له بهذا النمط من الكلام ما هي الحكمة؟ لماذا؟ لأنّ هذا الكلام الليّن يجذب القلوب ويفتح القلوب، الإنسان الكافر حينما تأتي وتنصحه وتعظه بكلامٍ ليّن ولطيف ينفتح القلب ينجذب اليك يستمع اليك فيكون ذلك أدعى للإجابة، بعكس الكلام الخشن القاسي الشديد فإنّه ينفّر القلوب ويبعد القلوب ويولّد النفرة بين المؤمن وبين إخوانه ولا يكون ذلك مدعاةً للإجابة، لذلك إخواني في كلامكم في نصائحكم ومواعظكم بل في طبيعة كلامكم بينكم وبين أحدكم الآخر على الواحد منكم أن يكون ليّناً في قوله كما أدّبنا بذلك أمير المؤمنين(عليه السلام).

ثمّ يقول: (غائباً منكرُه حاضراً معروفُه) المنكر هو الأمور المستقبحة غير المقبولة شرعاً، يعني أنّ الإنسان المؤمن تغيب عنه مثل هذه الأفعال، (حاضراً معروفه) هذه الأمور المحبوبة المستحسنة شرعاً تكون حاضرة عند الإنسان المؤمن، (مقبلاً خيرُه مدبراً شرُّه) معنى "مقبلاً خيره" أي أنّ هذا الإنسان المؤمن خيره وبركاته في ازدياد يوماً بعد يوم لا في تناقص، وشرّه بالعكس يوماً بعد يوم في تناقص، لذلك إخواني المؤمنين أخواتي المؤمنات راقبوا أنفسكم لابُدّ أن يكون الإنسان المؤمن دائماً خيرُه يزداد ومنفعتُه وبركته تزداد يوماً بعد يوم، وشرُّه ينقص يوماً بعد يوم، (مقبلاً خيرُه) يعني يزداد ودائماً في إقبال وفي ازدياد، (مدبراً شرُّه) يعني في إدبار يتناقص يوماً بعد يوم، ثمّ يصف أمير المؤمنين(عليه السلام) بقوله: (في الزلازل وقورٌ وفي المكاره صبورٌ وفي الرّخاء شكور) ما معنى في الزلازل؟ تمرّ علينا –إخواني- أحداثٌ صعبة وفتنٌ عظيمة، مواقف أو أحداث أو ظروف أو ملابسات تمرّ بنا فتضطرب لها القلوب وتهتزّ ، ما هو موقف المؤمن؟ كيف يتصرّف المؤمن مع مثل هذه الأحداث؟ الإمام(عليه السلام) يقول (في الزلازل وقور) يعني تجد فيه الطمأنينة والسكينة والثبات والهدوء، يتعامل برزانة وكياسة مع هذه الأحداث الصعبة المضطربة التي ربّما تشكّل خطراً على حاضرنا ومستقبلنا، لا يكون الإنسان المؤمن مهتزّاً مضطرباً ضعيفاً تصيبه الخفّة والطيش والتسرّع ولا يعرف كيف يتصرّف، الإنسان المؤمن من أين يأتي بهذه الصفة وبقيّة الصفات؟ كيف نحصل؟ مررنا الآن في بلدنا بأحداث كثيرة من هذا القبيل، الإنسان إنّما يحصل على هذه الصفات من قوّة إيمانه بالله تعالى، الإنسان المؤمن دائماً يستشعر أنّ الله تعالى معه ينظر اليه ومطّلع على أحواله وما يمرّ به من ظروف، سيكون معه ناصره يؤيّده ويُلهمه الطرق لكيفيّة مواجهة هذه الأحداث الصعبة، وكذلك (في المكاره صبور) هناك حوادث أليمة الإنسان يفقد فيها أحد الأحبّة أحد الأعزّاء عليه أو يمرّ ببعض المشاكل والصعوبات والظروف المعقّدة في حياته، يواجهها بصبرٍ وثبات ويتعامل معها بحكمة يتعامل معها بإيمان، وتارةً الإنسان يجزع لأنّ الإنسان ضعيف الإيمان يجزع لا يتحمّل مثل هذه الظروف، بينما الإنسان المؤمن يستذكر دائماً بعض الأحاديث ومنها ما ورد في حديثٍ عن أمير المؤمنين(عليه السلام): (...فإنّك إن صبرت جرت عليك المقاديرُ وأنت مأجور، وإن جزعت جرت عليك المقادير وأنت موزور) هذا الحدث الأليم من فقدان أحد الأحبّة أو أحد الأعزّة وهذه المشاكل هي قدرٌ من الله تعالى فلابُدّ أن يجري عليك لا محالة، ليس بيدي أن أدفع هذا القدر فكيف أواجهه؟ إن واجهته بعدم الصبر والجزع ربّما أقع في المعصية والقدر يجري عليّ ولا أحصل على شيء، بل ربّما يحبط أجري ولا أحصل على الثواب، ولكن إن واجهته بالصبر جرى عليّ هذا القدر أو أقدار مختلفة، ربّما إنسان يواجه حاكماً ظالماً متعسّفاً يسجن ويظلم ويبطش، يصبر الإنسان ويواجه ذلك ويحصل على الأجر من الله تعالى لأنّ هذه المقادير تجري عليه ولابُدّ ولا محالة من جريانها عليه.

هذا الإنسان قويّ الإيمان يكون (في المكاره صبور وفي الرخاء شكور) الإنسان –إخواني- الذي ينعم عليه الله تعالى بالمال بالنعمة بالجاه بالمنصب وأمور أخرى كثيرة من هذه النعم، هذا الإنسان متواضع يشعر دائماً أنّ هذه النعم من الله تعالى لا من عنده، هذه المشكلة أحياناً عند الكثير التي تولّد التكبّر والبطر والغرور والعجب، يشعر أنّ هذه الأمور إنّما هي من ذكائه من شطارته من قدرته العلميّة، ومن مواصفات ومقوّمات موجودة فيه هي التي جلبت اليه هذه الأمور، الإنسان المؤمن يقول: لا.. مهما بلغت مهما كانت هذه النعم لديّ فهي ليست منّي هي من الله تعالى، فيتواضع للناس يتواضع لله تعالى ويشكر الله تعالى على هذه النعمة، وأنتم أيّها الإخوة والأخوات النعم متفاوتة عليكم منهم من أغدق الله تعالى عليه نعماً كثيرة ومنهم من ابتلاه الله تعالى بفقرٍ أو مرض أو مشكلة أو أزمة حتّى في هذه الحالات الإنسان المؤمن يشكر الله تعالى، لماذا؟ لأنّه يعتقد أنّ هذه الأمور إنما هي لمصلحته وفيها خيره، الإنسان المؤمن يعتقد أنّ الله تعالى لا يقدّر له إلّا ما فيه مصلحته وخيره في الدنيا الآخرة، لذلك هو في جميع الأحوال يشكر الله تعالى.

ثم يقول(عليه السلام): (ولا يَحِيفُ على من يُبغِض ولا يأثم فيمن يُحِبّ) في مسألة الحبّ الإنسان يحبّ أولاده يحبّ بعض أقربائه يحبّ أشخاصاً آخرين يشاركونه في العقيدة في الولاء في التوجّه، وكذلك يبغض العدوّ ويبغض من أساء اليه، مسألة الحبّ والبغض مسألةٌ طبيعيّة عند الإنسان في جبلّته، لكن المشكلة أين؟ الإمام يوجّهنا الى أيّ صفة؟ أحياناً هذا الحبّ والبغض يتجاوز حدّه حدّ الاعتدال ويصل الى حدّ الإفراط، فيوقع الإنسان المحبّ الذي يغالي في حبّ الآخرين يوقعه في الإثم وفي المعصية، مثلاً إنسان -أب أو أم- يحبّ بعض أولاده حبّاً شديداً فيؤثر هذا البعض على البعض الآخر في العطاء وغير ذلك من الأمور، ممّا يتسبّب في وقوع الفتنة والفساد والتباغض بين الأولاد فهذا ربّما يوقعه في الإثم والمعصية فعليه أن ينتبه، أو يحبّ بعض أصدقائه أو إخوانه أو أرحامه أو بعض الأشخاص الذين يشتركون معه في الفكرة أو الأفكار في الولاء في التوجّه فيقع في المعصية بأن يضيّع حقوق الآخرين، أو أنّه أحياناً إنسان له عدوّ لا يحبّه فيوقع عليه الظلم والحيف، الإنسان المؤمن عكس ذلك دائماً يُسيطر على عواطف الحبّ والبغض التي لديه، البغض للآخرين لا يوقعه في الظلم بل يكون دائماً منصفاً وعادلاً مع الجميع وفي نفس الوقت مع من يحبّهم لا يوقعه هذا الحبّ الشديد ولا يغالي في حبّه لهم بحيث يوقعه في الإثم والمعصية.

ثمّ قال: (يعترفُ بالحقّ قبل أن يُشهَدَ عليه) هذا الإنسان المؤمن إذا كان هناك حقٌّ ماليّ أو حقّ معنويّ هو يقرّ بهذا الحقّ للآخرين وإن كان فيه ضررٌ عليه وإن كان فيه إنقاصٌ لأموالٍ يبتغيها ويطلبها ربّما، حال المؤمن قبل أن يضطرّ الآخر الى الذهاب الى المحاكم والى القضاة لكي يجلبوا الشهود أو يذهب الى شيخ العشيرة أو يذهب الى الآخرين ممّن لديهم وجاهة عند الشخص الآخر ويأتي بالشهود وتطول القضيّة سنوات وتسبّب الكثير من المشاكل، هو يقول: أنا أعترف أنّ هذا الحقّ عليّ، حتّى وإن كان يسبّب له ضرراً ماليّاً أو معنويّاً، أحياناً الإنسان في مشكلة مع الآخرين لا يقبل أن يعترف لأنّه يعتقد أنّ وجاهته ومكانته ومنزلته الاجتماعيّة تتضرّر، الإنسان المؤمن يقول: لا.. أنا أعترف بهذا الحقّ لأنّه كما ورد في صفات المتّقين وصفات المؤمنين أنّهم يقولون الحقّ حتّى وإن كان مع ذوي القربى، كما ورد في الحديث (أتقى الناس مَنْ قال الحقّ فيما له وعليه) يعني سواءً كان هذا الحقّ له أو كان عليه ويسبّب له ضرراً.

ثمّ قال(عليه السلام): (لا يُضِيع ما استُحفِظ) كلمة "ما استحفظ" هنا تشمل ما ورد في الحفاظ على العبادات والحفاظ على الأمانات الماليّة وكذلك الأسرار والأحاديث، الإنسان المؤمن كما ورد في الآية الكريمة: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَىٰ) يُحافظ على صلاته من حيث إقامتها في أوّل وقتها، وإقامتها بحدودها بشرائطها بآدابها بالحفاظ على الإخلاص فيها، في مقابل التضييع للصلاة التي هي عدم الاهتمام بأدائها في أوّل وقتها، وكذلك الأمانات الماليّة إخواني والأسرار، -إخواني- إذا إنسان مؤمن ائتمنك على سرّ فحافظ عليه وإذا تحدّث معك بحديثٍ خاصّ فحافظ عليه، اضبطْ نفسك واضبط لسانك فيما بعد لا تفشِ هذا السرّ لا تفشِ هذا الحديث الذي ربّما يضرّ أخاك أو يضرّ مجموعةً كبيرة من الناس، أحياناً هذا السرّ أو الحديث إذا أفشاه الإنسان لا يضرّ شخصاً واحداً بل يضرّ مجموعةً كبيرةً من الناس وبالتالي يتحمّل وزر هذا الإفشاء، ثمّ: (لا ينسى ما ذُكّر) إن شاء الله سنكمل ذلك في الخطبة القادمة، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على محمد وآله الطيّبين الطاهرين.

المرفقات