اطلالة الفن الحسيني هدير ابداع يحاكي وجدان المتلقي
نطوف في أروقةِ لَوْحةٍ غنَّاء بالحيوية والتفاعل بالأحاسيس الصادقة والمشاعر الفياضة , المرتسمة على إيقاعِ الواقعية المُعبِّرة , وإيحاءات التناغم الرُّوحي بين المتلقي واللَّوحة التي تشدُ نبضاتِ الماضي الخالد , وَقُدْسيَّة فصُول القِصَّة المُحكَاة ؛ إنها لوحة التقاء الأشواق الوالهة , والحنين الصاخب الذي لا يفتر من التماس كلّ هديرٍ يُطِلُّ بِهَمْسٍ دافئ , وَعَبْير يُنادي بذكرى شُهَدَاء الرِّسَالَة الإلهيَّة , مِمَّن تأسَّرَت القلُوب بُحبِّهم , وملكوا الرُّوحَ والوجدان بولائهم , فكانت لَوحةً ساحِرة بتعبيرها ,مُجَسِّدُة بطبيعة حالها , مشهَد التقاء الفن الناطق , والأبداع الغائب ؛ بِنَسائم الشَّوْق الوَالِهْ, وهدير الفؤاد المنفطِر , وَالعُيون المنقِّبَةِ عما يكون مَرْتعاً تُحَطُّ عِنْدَهُ الرِّكاب , وتُرْمي بَيْنَ ذِراعَيْهِ الأشواق , وَيُباحُ لهُ بالحنين وَطول الأِنتظار لِكُلِّ قادِمٍ جديد وَمنسدِل من غير المألُوف , شادياً بلغتهِ فصُولَ قصَّةٍ شَدَتها الرِّسَالة الإلهية , وأمجاد العِترة المُحَّمدية , لِتَرْنُوْ إلَيْهِ النفُوس الثُكْلى بالحُزْنِ لمُصَابهم , والمُقْتفيَة لِنَهجهم , ليمتزجَ هذا الفيض مكوِّناً بخلجاتهِ ارتسَام لَوْحة لَيْسَ من نسج الخيال , ولا بألوانٍ تُداعبها رِيشة أنامل الفنان , بل ارتسمتها عواطف انتفضت من مرقدها , وأدْمُعٌ تدفَّقَتْ على أوجهٍ عَانقها الْحُزْن الطويل والمصاب البعيد ؛ لِتُناغي مَا وَقعَ عليهِ ناظرها بوجعها الدَّفين , وَشجونها التي تنحَبُ ذِكْرى فاجعة الطفُوف الباقية أبداً , فكانت لوحةً تُفصِحُ عن جوهرِ وَاقعيَّةٍ ناطقةٍ غَنَّاء , امتزَجَت برحيقِ فنٍ ساحِرٍ لتصدحَ ببريقٍ لامعٍ ؛ يُدلي بشخُوصِ مَشْهَدٍ لا يُنتَسَى ؛ امتَزَجَ فيهِ الفن بالواقعيَّةِ الحيَّة , ليُكوِّنَ صَرْحاً يُعْلنُ عن وِلادةِ فنٍّ كمْ طالَ غيابُهُ , وانَتَفتْ مَعَالِمُهُ في عَصْرٍ امْتزجت فيهِ المتغيِّرات وَصِراع التداعيات لبلُوغ جمال الفن المنشود ،فكانت هذه اللّوحة الغناء هي بِحَدِّ ذاتها إكليْل تقييم وَعِرْفان يُتَوِّجُ إطلالَة الفن الحُسَيني ؛ مُتجدِّداً بُمتغيِّرات مَشاهَدِه التي تحكي وَتَرْوِي كلَّ يومٍ صَفحَة جديدة مِنْ وحي الواقع الزاهر , وأحداث هذا التفاعل الإنساني الدَّاعي للوقوف مَعَهُ والتأمُّل فيه ، فكان لإطلالة هذه الأعمال الفنيَّة على مَسْرح وَاقع المتلقي وبكل شرائحه وَأماكن تواجده , انطلاقاً من الطفل الصغير وانتهاءً بالشَيْخ الكبيْر ؛ وَقعٌ كبيرٌ يُعْرِبُ عن وِلادةِ لُغَةٍ نافِذَةٍ الى مَا وَراء الأبصار الشاخصَة إدهاشا وإعجاباً لما تراه , والواقفة مَعَهُ إجلالاً واستشعارا بإفراديته ورونقهِ الوضاء , والتي لم تألف لَهُ مثيلاً في ما ينبثقُ من نفس مُشكَاةِ مصطلح الفنْ , لهذا شَهِدت ساحَة معرض الفن الحُسيني { الدّائم } وَكذلك معارضهِ المُقامة ومُشاركاتهِ في المهرجانات والأنشطة الثقافية الوْاناً من تفاعلاتِ مشاعِر زائريهِ , تجاه هذه الأعمال الفنية التي تستدعي الوقوف معها وَتأمُّلِ ما تعكسهُ من آفاقٍ وَمعنىً يُترجمُ ماهيَّة اللغة الصَّامتة التي توحيها هذه الأعمال الفنيَّة تجاه ناظريها , فما تُظهِرُهُ شُخُوصهم من تعبيراتٍ عفويَّةٍ , وثناء متدفِّق مِنْ وُجْدانهم المُتعطِّش , ودُمُوع صادقة تذرف عند أعتابِ هذه الأعمال , لَهُوَ واجهةٌ ثقافية كبيرة , توثق إبداعات أناملِ الفنان الحُسيني على صفحاتِ واقعنا المُعاصر والساحة الفنية والثقافية , لذا شَهِد معرض الفن الحُسيني حُضُوراً مُلْفِتاً للأنظار , حيث يقْصِدُه فِئامٌ من الزائرين من شتى بقاع العراق وكذلك دول العالم , القادمين لزيارة الإمام الحُسين عليه السلام بل عكس مُرْتادُو معرض الفن الحُسيني اهتماما كبيراً من خلال متابعتهم الدائمة وتكرار السؤال عما هو جديد , وَكان لمطبوعات لوحات الفن الحسيني وَقع كبيرٌ من حيث اجتذاب الحضور والاقتناء , حيث كانت بمثابةِ رسائل تحملُ في طياتها مسحة دافئة عطرة , تروّي عطش النفس الوالهة باللوحات الأصلية التي لا يمكنهم اقتناؤها , بل عُدِّت من قبل الكثيرين تذكاراً مباركاً يصطحِبُونه لبيُوتهم ولبلدانهم من فناء ربوع الإمام الحسين عليه السلام وبذات الوقت يرونهُ هدية نادِرةً تقدَّمُ لإفراح الأحباب .
كما كانت هذه الموضوعات الفنيَّة محط اهتمام مِمَّن لا يفترون مِنْ إضفاء لمسات التغيير الجاذبة والتنويع على بهارج اطلالات المواكب الدينية , التي تحيي ذِكرى عاشوراء وَغيرها من المناسبات الكُبْرى في كل عام , بل أصبحت مطبُوعات الفن الحُسَيْني في هذه الأجواء مادَّة فنية لإضفاء طابع التميُّز على كل مَوْكبٍ من قَبلِ المتعهْدين لاجتذاب الناس نَحْوَهُ في ظلِ التنافس الإعلاني الذي يهيْمن على أجواءِ تلك المناسبات الخالدة , لدرجة أن تصبح هذه المُطبوعات وكذلك المُنْصَهِرة في تصاميم اللافتات الإعلانية للمواكب ؛ محط اهتمام واجتذاب الناس على اختلاف شرائحهم وَجنسياتهم للوقوف أمامها والتأمل فيها وتصويرها والتقاط الصور التذكارية عندها , هذا وَغيرهُ ما كنتُ أرصدهُ خلال تجوالي في أروقةِ هذه المواكب التي تملأ جوانب الطرق في مدينة كربلاء وغيرها أيام هذه المناسبات الكُبرى , بل أزدادُ استشعارا بقيمةِ هذهِ الأعمال الفنية وَمطبُوعاتها التي كوَّنت هذهِ الصُورة البهيَّة والثقافية في تلك المواكب عندما كانت كلمات الحوارات والنقاشات وإبداء الآراء حولها , والتسَاؤل عن مصدرها من قِبَل الوافدِين الجُدد لمدينة كربلاء وَغيرها التي كانت تطرق أُذُني عند مُرُوري أو توقفي في أحضانِ الجمُوع الغفيرة التي تشهدها تلك المناسبات المباركة .
وَمن تجليَّاتِ آثار وَقْع هذهِ الأعمال الفنية وَصداها الثقافي الذي أطلَقَهُ الفن الحُسَيني التأثر الكبير بالأسلوب الفني الذي صيغت بهِ تلك الأعمال الفنيَّة , التي تعكس الروحية العالية في التنفيذ , والأسلوب الحِرَفيّ المُلهِم لذوات الاختصاص والمتذوَّقين للفن الأصيل , مما كان مُدْعاةً لقدوم الكثير من الفنانين ممن يرغْبُون بتطوير مُسْتواهم الفنيّ , وكذلك الهُواة من الموهُوبين بالفطرةِ وَغيرهم , الذين ينشدُونْ التَعلُّم وَيلْتمِسُون الدَّعْم للارتقاء الى تِلْكَ المُسْتويات الرفيعة وَالمُلهِمَة , وَالفاتحة أمامهم أبواب الُّتطلعْ لآِفاق الفن الواسع والرغبة الجادَّة لقصدها وبلُوغها .
وَتمتدُّ خيوط إشعاع هذا الصَّرح الفنِّي الوليد الى مُواطِنَ وبقاعٍ في ما وراء حدود رُبُوع مهدهِ الزَّاهِر لتلُوح الى أفئدةٍ صاخبةٍ بعنفوان الشوق , لتمتزج فيها ومعها شاديةً الواناً وصُوراً من دوام وبقاء ذِكرى عظماء الإسلام والتأريخ وأريجه النابض في فناءِ الخلُود , وَحاملةً إليها بأطيافِ وَهج الأِبداع ؛ الإعلان عن وِلادةِ فنٍ جديد , حيث كشف هذا الالتقاء ما بين إبداعات الفن الحُسيني وجمْهُور البلاد التي زارها ؛ طابعاً وتفاعُلاً يطول المقام بوصفهِ , وكشف النقاب عن جوهر وقِيَم ما يعْكِسَهُ وَيُرَسِّخهُ في وُجدانِ المتلقي المكتظ بالصِّراعات والاندفاع نحو رُؤى تطلعاتهِ , في أي مكانٍ كان , وأجواءٍ متباينة تحيطهُ ومنغمس في كنفها .
بقلم الفنان / حسن حمزة
اترك تعليق