أن ارتباط الاعمال الفنية الشعبية لواقعة الطف بالمعاني والمعتقدات الجمعية من جهة، والحاجات الاجتماعية الروحية والنفسية التي يريد إشباعها الفنان والمجتمع الذي ينتمي أليه من جهة أخرى، هو الذي يبرز قيمها الجمالية، فالخصائص الحضارية والثقافية والتراثية هي التي تقرر التقييم الجمالي لأي عمل فني كائن.
وبما ان القيم الجمالية نسبية في المكان والزمان، فأن أعمال هؤلاء المبدعين تصبح جميلة في عيون منجزيها ومحبيها من المتلقين، على أن هذا الارتباط لا يلغي دور الفنان او الصانع الشعبي في تكوين قيماً جمالية ترسلها إبداعاته.
فعلى الرغم من أن كل أنتاج خاص بملحمة الطف غايته الأساسية هي خدمة تلك الرسالة الخالدة بصيغة أو أخرى ألا أن العمليات التنظيمية البنائية للأعمال وطبيعة انتقاءها قصديا للأشكال التي تتوافق مع المضمون، وما يقوم به من عمليات ترميزية يؤدي الى قيم جمالية أخرى كان قد أصطلح عليها بالقيم الموضوعية.
لقد تنوعت الاعمال والرسوم في كيفية أنشائها وأشكالها ورموزها، باختلاف أسلوب التعبير وكل ما يتضمنه من أيقاع وعلاقات، ولذلك فأن من خصوصية المنجزات الفنية الشعبية هي الاتحاد بالمجموع، فهو الذي من شأنه ادامتها وازدياد تعلق الناس بها باعتبارها رمز ايقوني يرسخ المعتقد والالتزام بقضيتها ومناصرتها، ويقلل في نفس الوقت من أهمية ما يثار من حولها من شبهات، ذلك أنها لا تحاول الاقتراب من الشبه الشكلي قدر اقترابها من تمثيل الجوهر.
الدليل على ذلك، ارتباط رموزها بمجاورات ترتبط فيما بينها بعلاقات وطيدة تؤدي مهمة الفهم والأدراك، (فكل الرموز الاجتماعية والدينية لا تمتلك رابطة ميثاقية مع مدلولها، أي ليس من الضروري أن يكون لكل رمز علاقة أبدية مع مدلوله، وهذا يستدعي ضرورة دخول عنصر آخر ليكتمل الرمز وذلك بوجود شفرة مفهومة ومتعلمة من قبل الأشخاص الذين تتعلق بهم الرموز تحدد العلاقة بين الدال والمدلول.
وعليه فأن عملية الأبداع فيها تؤدي الى أبداع أشكالاً تعبيرية جديدة تؤدي دورها ووظيفتها الأساسية، ومما لا شك فيه في هذا المجال ان الشكل التعبيري المصاغ من قبل الفنان يؤكد التحليل الوظيفي للدلالة المقصودة ليتم ابراز دوره الانفعالي عند المتلقي، فهو يعد أداة أتصال ووسيط تعبيري في نفس الوقت.
فلو دققنا في الاشكال الفنية التي يستخدمها الفنان لتسجيل احداث عاشوراء وتوثيقها لدعم المراسيم والشعائر الحسينية في شهري محرم وصفر الحرام، لوجدنا انها تحمل بين طياتها رموز ودلالات ايحائية تحاكي مأساة الطف وما حل بسيد الشهداء ومن معه من مصائب عظام ، حيث العلاقة بين الدال والمدلول (الطف والاعمال التشبيهية) قائمة على مبدأ الربط بينهما، وحين يوضع الدال فأنه يحمل مشاعر وعواطف وتصورات فكرية محسوبة تقوم على محاكاة متعددة، ومنها المحاكاة البنائية.
وفيها يبنى هيكل الاعمال الفنية أو يعكس بناؤه مراحلها، فيأتي البناء بقالب بصري محسوس، ومن بعد ذلك تكون المحاكاة التعاملية وفيها تتعامل دلالات الرموز بمرموزها، وحين ذاك تؤدي الرموز في مخزونها الدلالي وظيفتها التواصلية وتبقى المحاكاة قائمة سواء ظهر الانسجام كلياً بين الدال والمدلول أو أقتصر على جزء من مركبات الدال فحسب، كما هو الحال في اللوحات الفنية وبعض المصنوعات المعدنية والبنائية كمصغرات القباب الذهبية والمنائر والهودج والسفينة المحملة بالاضواء والمشاعل وغيرها من الاعمال الابداعية الرمزية الاخرى التي تحاكي واقعة الطف واحداثها.
فلو سلطنا الضوء على السفينة التي تتقدم المواكب الحسينية عادة لوجدنا، انها منظومة رمزية شاع استخدامها في أحياء ذكرى عاشوراء السنوية منذ زمن ليس بقليل في محافظات وسط العراق، حيث تشير اغلب الدراسات التراثية والفنية انها مستوحاة من الحديث النبوي الشريف (أن الحسين مصباح الهدى وسفينة النجاة).
يتكون هذا الرمز من هيكل حديدي ضخم يحتوي على مجموعة من الاشكال الدلالية المختلفة تبعا لجغرافية المكان الذي يصنع فيه، وفي بدايات ظهوره كان على اشكال متعددة منها ما تحمل عليه مشاعل النار ومنها ما يحمل في وسطه ريشة كبيرة وعلى جانبيها مجموعة من الحراب والكفوف وهو ما يطلق عليه تسمية (علم زندي)، ولكن بطيعة الحال فهو بأشكاله المختلفة يؤدي دورا وظيفيا عقائديا واحدا وهو التفاف الموالين حول الحسين وذريته سلام الله عليهم والتمسك بهم.
اما الشكل العام لهذه المنظومة الرمزية الجمالية فهو يضم عند نهاياته من الجانبين شكلا نحتيا لراس الحمام الطائر الذي ارتبط أسمه بالإمام الحسين عليه السلام، وتطلى حدوده الخارجية باللون الأزرق المخضر المأخوذ عن ألوان القباب والمآذن آنذاك إضفاء للقدسية لما لهذا اللون من خصوصية في المراقد المقدسة، ونظرا لدموية واقعة ألطف فقد تم طلاء المساحات الجانبية من الشكل باللون الأحمر وطعم من الجانبين بمجموعة من المعينات الزجاجية الناتجة من اتحاد مثلثين ، والتي ترمز عند بعض الباحثين في هذا المجال الى انتقال الروح الى الخالق جل وعلا - وهذا ما يبرر وضع المرايا والاجزاء البلورية في الاماكن المقدسة ايضا حيث تعكس نور الشمس فترجعه إلى مصدره -، وبتكرارها بصورة متتالية تعبيرا عن الكثرة واتحاد المجموع والتفافهم حول رمزهم الذي تحضر إشارته في وسط التكوين عبر أعمدة زجاجية ترتفع فوقها القبة الذهبية التي تشير الى ضريح الأمام الحسين عليه السلام، الذي يحضر روحيا عن طريق الأعمدة والجدران الزجاجية التي تشكل الضريح.
وتعبيرا عن الالتفاف الجماهيري حول الأئمة الأطهار كونهم امتداد للإمام الحسين سلام الله عليه بوحدة الهدف وتعدد الأدوار وكونهم عليهم السلام من أبنائه فقد تم نشر مجموعة من المصابيح التي تضاء على جانبي الضريح (على هيكل السفينة) رمزا لهم وتعبيرا عنهم، فهم من أتموا الهدف في نشر الرسالة المحمدية ونشر نور الاسلام، وهم عليهم السلام من أخبروا وتحدثوا عن ثورة ألطف وأقاموا المأتم وأحياء ذكراها.
كل هذا يؤكَد عند رفع هذا المكون الجمالي العقائدي الرائع بأكمله من قبل أحد الرجال الأقوياء على رأسه وفي وسط المعزين متقدما موكب العزاء الحسيني، ليأخذ بالدوران به وسط جموع الناس المحتشدة فتتعالى اصوات المعزين بالصلاة على محمد واله، تأييدا ومناصرة فيثير الحماس ويعطي المنظر مشهدا جماليا روحانيا عاطفيا يعبر عن جوهر العقيدة وعلاقتها وضواغطها على مخيلة الإبداع الفني.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق