الإنسان المؤمن مهما عمل من أعمالٍ عباديّة وأعمالٍ صالحة يخشى من التقصير في حقّ الله تعالى
المتّقي يصمد ويصبر ويتحمّل الظروف الصعبة وإن طالت عليه سنين طوالاً
لابُدّ أن تكون عنايتكم واهتمامكم بمجاهدة أهواء أنفسكم أكثر من اهتمامكم بمجاهدة أعدائكم
النص الكامل للخطبة الاولى
أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان اللعين الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله خير من دعاه الداعون، وأقرب من لجأ اليه المضطرّون، وأجود من أمّله الراغبون، ذي الجلال والإكرام والأسماء العظام، وأشهد أن لا إله إلّا الله وحده لا شريك له وأشهد أنّ محمداً(صلّى الله عليه وآله) عبده ورسوله، ختم به الأنبياء وبعثه بالحنيفية البيضاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله سادات الأوصياء.. أوصيكم عباد الله تعالى وقبل ذلك أوصي نفسي الأمّارة بالسوء بتقوى الله تعالى، فخير ما يُوصي به المسلمُ أخاه أن يتّقي الله ويخشاه، وجاهدوا أهواءكم كما تُجاهدون أعداءكم، ولا تبحثوا عن عيوب إخوانكم قبل أن تبحثوا عن عيوبكم، وأصلحوا أنفسكم قبل أن تأمروا بإصلاح غيركم، وهذه مواعظ تُلقى اليكم فتلقّوها بحسن الاستماع ثمّ انفذوها في قلوبكم لتتدبّروها، وبعدها اجعلوها نبراساً لحياتكم لتنالوا بذلك آمالكم في سعادة الدنيا والآخرة..
أيّها الإخوة والأخوات ما زلنا في بيان أوصاف المتّقين التي بيّنها أميرُ المؤمنين(عليه السلام) في كلامه لهمام فقال(عليه السلام) مبيّناً لعلاماتهم وأوصافهم: (فَمِنْ عَلاَمَةِ أَحَدِهِمْ أَنَّكَ تَرَى لَهُ قُوَّةً فِي دِين، وَحَزْماً فِي لِين، وَإِيمَاناً فِي يَقِين، وَحِرْصاً فِي عِلْم..) ثمّ وصلنا الى بيان أوصافٍ أخرى فيقول(عليه السلام) من جملة علاماتهم وأوصافهم (...وَطَلَباً فِي حَلَالٍ وَنَشَاطاً فِي هُدًى وَتَحَرُّجاً عَنْ طَمَعٍ يَعْمَلُ الْأَعْمَالَ الصَّالِحَةَ وَهُوَ عَلَى وَجَلٍ يُمْسِي وَهَمُّهُ الشُّكْرُ وَيُصْبِحُ وَهَمُّهُ الذِّكْرُ يَبِيتُ حَذِراً وَيُصْبِحُ فَرِحاً...) الى آخر هذه الأوصاف التي ذكرها أميرُ المؤمنين(عليه السلام)، ونتعرّض هنا الى بيان بعض هذه الأوصاف فيقول(عليه السلام): (وطلباً في حلال) أي أنّ من صفات المتّقين أنّه يطلب الكسب والعيش من مصادر المال الحلال، ما الفرق بين أهل التقوى وأهل الدنيا؟؟ أهل الدنيا يبحثون عن المال ويبحثون عن متاع الدنيا، ويحاولون الحصول عليه من أيّ مصدرٍ كان سواءً أكان حلالاً أم حراماً، لا يهتمّون ولا يبالون بمصدر المال، على عكس أهل التقوى فإنّهم يطلبون ويتكسّبون من المال الحلال وإن ضغطت عليهم ظروف الدنيا، -هنا إخواني نلتفت الى هذا الفرق- الإنسان طبعاً بحاجة الى المال وبحاجة الى التكسّب وفي بعض الأحيان يتعرّض الى ضغوط لا يصمد أمامها فيقع في الحرام، من جملة ذلك ربّما ضغط الظروف الصعبة من الحياة من الفقر والمرض أو ضغط الحاجة أو ضغط النفس أو ضغط الزوجة أو الأولاد أو الضغط الاجتماعيّ، كأن يكونَ له موقفٌ أو جاهٌ أو منصب أو ظروف اجتماعيّة تضغط عليه لكي يحصل على المال الحلال حتّى يُشبع حاجته من هذه الأمور ويُحافظ على موقعه، فتراه لا يصمد ولا يتحمّل ولا يصبر ولا يقنع بما رزقه اللهُ تعالى، حينما يضعف ويُهزم أمام هذه الضغوط سوف لا يُبالي لأيّ مكسبٍ سواء كان من الحلال او كان من الحرام إضافةً الى تعلّقه بالدنيا، أمّا المتّقي ليس كذلك مهما كانت ضغوط الحياة عليه، سواءً كانت الظروف التي يمرّ بها من فقرٍ أو مرضٍ أو حاجة أو ضغط الزوجة أو ضغط الأولاد أو ضغط الموقع الاجتماعيّ، ربّما يكون له جاه، له شهرة، له منصب، له موقع اجتماعيّ رفيع، وهذا يقتضي منه أن يكون على حالٍ من الوجاهة والتمكّن والغنى، والصّرف يضغط عليه لكي يحصل على المال من أيّ مصدرٍ كان.
المتّقي يصمد ويصبر ويتحمّل هذه الظروف الصعبة وإن طالت عليه سنين طوالاً، يقول: المهمّ عندي هو أن أكسب المال الحلال وأقنع بما قدّره الله تعالى لي، لماذا؟ يقول: لأنّي يوم القيامة سأُسال –كما ورد في الروايات- (لا تزولُ قَدَما ابن آدم يوم القيامة حتّى يُسأل عن أربع، عمره فيما أفناه وشبابه فيمَ أبلاه وماله من أين اكتسبه وفيمَ أنفقه) وفي بعض الروايات يُسأل عن ولاية أهل البيت(عليهم السلام)، لذلك فإنّ خوف المتّقي من الله تعالى يجعله يصمد ويصبر أمام هذه الظروف الصعبة والضغوط الاجتماعيّة والنفسيّة، وبالتالي لا يطلب الكسب والمال إلّا من الحلال، لذلك يقول الإمام(عليه السلام) في وصفهم (وطلباً في حلال) يُضاف الى هذا أنّ الإنسان المتّقي ينظر الى طلب المال على أنّه عبادة، لاحظوا إخواني ما هي منزلة طلب الحلال عند الله تعالى؟ عندنا الصلاة عبادة والصوم عبادة والحجّ عبادة، هل طلبُ الحلال عبادة يُتقرّب بها الى الله تعالى؟ التفتوا إخواني إذا أردتم الثواب والأجر كما تنالونه بالصلاة والصوم تنالونه بطلب الكسب الحلال فهو إضافةً الى كونه مصدراً للعيش عبادةٌ لها أجرٌ وثواب عند الله تعالى، ثانياً ما هي منزلة طلب الحلال عند الله تعالى؟ التفتوا الى هذا الحديث (العبادة سبعون جزءً...) أيّ شيءٍ من العبادات أفضل هذه الأجزاء السبعين؟ يقول (...أفضلها طلب الحلال) العبادة سبعون جزءً أفضلها طلب الحلال ثمّ يوم القيامة يقول: عبدي أنت صبرت وتحمّلت وقنعت بالرزق البسيط وعشت الفقر والظروف الصعبة ولم تُهزمْ أمام هذه الضغوط، أنا سأجازيك بأفضل الجزاء، ورد في الحديث (من أكل من كدّ يده حلالاً فتح الله له أبواب الجنّة يدخل من أيّها شاء) يقول لأنّك تحمّلت هذه الظروف وهذه الضغوط وقنعت بما قسمت لك ورزقتك حينئذٍ تفتح لك هذه الأبواب وتدخل من أيّها تشاء أنت -لاحظوا هذه الأمور-، في قبال ذلك أصحاب الدنيا حينما يتكسّبون من الحرام سيُسألون ويُعاقبون، وأيُّ عقاب؟! لا يُعلم! ثمّ بعد ذلك يترك هذا المال الحرام لغيره ولا يتمتّع به بل عليه حسابُهُ ووزرُه.
ثم يقول(عليه السلام): (ونشاطاً في هدى) النشاط من نَشَطَ باب (فَعَلَ) عكس تعب، هنا معناه الخفّة والسرعة والسهولة، يعني الآن فلنعرضْ -إخواني وأخواتي- صفاتنا مواصفاتنا على هذه الصفات للمتقين، نشاطنا تسابقنا سرعتنا خفّة الواحد منّا لأيّ شيءٍ هل هو للهداية والأعمال الصالحة أو لأمور الدنيا؟! الإمام(عليه السلام) يقول: من صفات المتقين نشاطٌ في هدى، أي أنّه خفيفٌ سريعٌ يتسابق مع الآخرين في الأعمال العباديّة في الأعمال الصالحة في أعمال الخير وفيما يوجب له الهداية والابتعاد عن الضلال، مثلاً تجده في صلاة الصبح - وهذه الصفة حتّى نطبّقها في حياتنا- هو لا يكون في حال التثاقل والكسل والخمول للنهوض لصلاة الصبح أبداً نشيط عنده خفة سرعة للنهوض لصلاة الصبح، يتسابق مع الآخرين لحضور صلاة الجماعة يتسابق مع الآخرين في أعمال الخير وأعمال البرّ وبقيّة الأعمال الاجتماعيّة، وكذلك عند حلول صلاة الظهرين هل هو نشط في أمور الدنيا؟ هل هو نشط في أمور اللهو واللّعب؟ أم هو نشط إذا حان الموعد تجد نشاطه وخفّته وسرعته وتسابقه لأداء صلاة الظهرين؟ ولأداء صلاة العشاءين يتسابق مع الآخرين في إعانة الآخرين وفي القيام بأعمال البرّ والخير، فيقول(عليه السلام) ونشاطاً في هدى، لذلك لابُدّ أن يكون نشاطنا في هذه الأمور التي تقرّبنا من الله تعالى وتهدينا، في الأعمال العباديّة في أعمال الخير لا أن يكون نشاطنا في أمور اللّهو واللّعب وأمور الدنيا وغير ذلك من الأمور.
ثم يقول: (وتحرّجاً عن طمع) تحرّج هو تجنّب الأمور التي تسبّب الحرج، الإنسان المؤمن لا يكون طمّاعاً عكس أهل الدنيا هؤلاء الذين تعلّقوا بالدنيا وتعلّقوا بالمال وتعلّقوا بالأمور الأخرى، هذا التعلّق الشديد ولّد لديهم الطمع والحرص والجشع الذي يؤدّي الى مفاسد كثيرة سنذكرها، المؤمن ليس لديه طمع، ليس لديه جشع وحرص بل لديه قناعة ولديه رضا بما قدّره الله تعالى له، سواءً كان من المال أم بقيّة الأرزاق الماديّة والمعنويّة، بعكس الإنسان الذي يكون طمّاعاً، ولاحظوا إخواني ما هي المفاسد؟ الطمع مراتب فلا يقلْ أحدنا أنا خالٍ من الطمع فهذا غير معلوم، فقد يكون الإنسان له طمعٌ شديد وقد يكون إنسانٌ لديه طمعٌ متوسّط وقد يكون إنسانٌ لديه طمعٌ في مرتبة أدنى، فكلّ واحدٍ منّا ربّما لديه شيءٌ من الطمع ليس بالضرورة أن يكون بالمال ربّما طمعٌ بجاه، طمعٌ بمنصب، طمعٌ بأمورٍ أخرى من الشهرة والمدح والثناء من أمور الدنيا، الإنسان المتّقي يكون خالياً من ذلك، لاحظوا إخواني ما هي المفاسد؟ الطمع يؤدّي به الى مزاحمة الآخرين، طمعٌ بالمال أو طمعٌ بما في أيدي الناس يؤدّي الى منافسة الآخرين والتزاحم معهم على المال وعلى الأمور الأخرى، وقد يدخله في الغيبة أو في النميمة أو في البهتان أو في الافتراء، وقد يدخله في أخذ المال من الآخرين بدون وجه حقّ هذا أوّلاً، الشيء الآخر قد يعرّضه للذلّ والهوان، -لاحظ- أحياناً إنسانٌ عنده رغبة وعنده طمع في شيءٍ يعرّضه الى الذلّ والهوان من قبل الآخرين والى الاستخفاف، فيُفقده كرامته واحترامه ومنزلته بين الناس ويجعله أسيراً لهذه الرغبة ولهذه الحاجة للمال ولأمور الدنيا، لذلك الأئمّة(عليهم السلام) بيّنوا في الأحاديث الشريفة هذه التبعات وهذه المفاسد الخطيرة، مثلاً في هذا الحديث (الطمع رقٌّ مؤبّد) هذا الإنسانُ الطمّاع جشعٌ حريصٌ أسيرٌ أينما يدور المال والحاجة والرغبة التي له، وأمور الدنيا الأخرى تقوده حتى وإن أوقعتهُ في الحرام أو أوقعته في الهلاك، لأنّ ينسى ويعمى عن أيّ شيءٍ لا يرى إلّا الذي أمامه من الدنيا والمال والمنصب والكرسي وغير ذلك من هذه الأمور الدنيويّة، لذلك يقول(عليه السلام): (الطمع رقٌّ مؤبّد)، وفي حديثٍ آخر: (رأيت الخير كلّه قد اجتمع...) في أيّ شيء اجتمع؟ (...في قطع الطمع عمّا في أيدي الناس) اي ما عند الناس من مال أو جاه أو منصب أو حاجة أخرى، رأيت الخير كلّه قد اجتمع في قطع الطمع عمّا فيما أيدي الناس، و(بئس العبد عبدٌ له طمعٌ يقوده، وبئس العبد عبدٌ له رغبةٌ تذلّه) مرّةً طمعٌ في مال ومرّةً رغبةٌ في شيء من هذه الأمور الدنيويّة، وأنا أسير وأركض وراءها، ألهث وراءها، لا أبُالي أيّ طريقٍ يوصلني الى هذه الرغبة وفي حديث آخر(بئس العبد عبدٌ له طمعٌ يقوده، وبئس العبد عبدٌ له رغبةٌ تذلّه)، ثم بعد ذلك الذلّ والهوان وفقدان المكانة والمهابة والاحترام بالطمع، والعزّ أن يستغني الإنسان عمّا في أيدي الناس، ويكون غناه بالله تعالى وبخيار المؤمنين، يقول في الحديث: (شرف المؤمن قيام اللّيل...) سبق أن نبّهنا على أهمّية قيام اللّيل (...وعزّه استغناؤه عن الناس).
ثم يقول(عليه السلام) في بقيّة المواصفات: (يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل) إخواني مهما عملتم من أعمالٍ عباديّة وصالحة وأعمال خير ومهما قدّمتم من أعمالٍ اجتماعيّة وغير ذلك من النفع للناس كونوا على خوف، لا تُصبْكم حالةُ الرضا عن أنفسكم، الواحد يقول: نعم.. أنا أصلّي وأصوم كثيراً وأعمل أعمال الخير فتُصيبه حالةُ الرضا وحالةُ الاعتداد بالنفس وحالةُ العُجْب فهذا فيه الكثير من المضارّ، المؤمن المتّقي مهما عمل من أعمالٍ عباديّة صالحة وأعمال خير وبرّ هو خائف، لماذا يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل؟ لهذه الأسباب:
أوّلاً: يشعر أنّه مهما أتى من عبادات وأعمال خير فهو مقصّر في حقّ العبوديّة لله تعالى.
ثانياً: إخواني أنا أسألكم هل الواحد منكم ضامن أن يقبل الله تعالى صلاته وصيامه وعباداته؟ هل هناك مَنْ يقول أنا أضمن أنّ الله تعالى قَبِل صلاتي وصومي وعباداتي؟!! هل لدينا شخصٌ واحد؟!! أبداً، لا أحد منّا لديه ضمانٌ بأنّ الله تعالى قبل صلاته وسائر عباداته، لماذا؟ ربّما يقول: أنا لا أعلم.. الله تعالى وحده يعلم هل أنّي جئت بالعبادات بشرائطها وأجزائها الصحيحة وبأركانها لا أعلم!! ربّما فيها خلل فلم تُقبلْ بسبب هذا الخلل في هذه العبادة.
ثالثاً: هل أنا أعلم أنّني جئت بهذا العمل خالصاً لوجه الله تعالى حتّى يُقبل منّي؟ لا أدري.. لذلك ليس الواحدُ منّا ضامناً، نعم.. رحمة الله تعالى يطلبها حتّى الأنبياء إخواني وبرحمة الله تعالى يحظى المؤمن بالجنّة والثواب والأجر، لذلك الإنسان المتّقي والمؤمن مهما عمل من أعمالٍ عباديّة وأعمالٍ صالحة يخاف ويخشى من التقصير في حقّ الله تعالى وفي حقّ العباد، يخشى من عدم قبول العبادات ويخشى من أن تشوب العبادات شائبة الرياء أو البحث عن المدح أو عن الشهرة أو عن المنزلة عند الناس، يخشى من شائبة المنّ والأذى في بقيّة أموره الأخرى، لذلك ان المؤمن المتّقي يعمل الأعمال الصالحة وهو على وجل.
ثمّ يقول(عليه السلام) - نلتفت الى هذا القول-: (يُمسي وهمّه الشكر ويُصبح وهمّه الذكر) يعني الإنسان المتّقي يدخل عليه المساء إذا جنّ عليه اللّيل تراه في حال الشكر لله تعالى وهمّه شكر الله تعالى، وإذا دخل عليه الصباح همّه ذكر الله تعالى، الآن ليعرض كلُّ واحدٍ منّا نفسه وهمّه على هذه الصفة، أوّلاً من أين أتت قضيّة همّ الشكر لهؤلاء المتّقين؟ هؤلاء طبعاً أثناء النهار يخرجون للتكسّب والعمل، يأتيهم رزق أو لا يأتيهم رزق، في حال صحّةٍ أو في حال مرض، في حال بلاءٍ أو في حال عافية، في حال شدّةٍ أو في حال رخاء، هم إذا جنّ عليهم الليل وانتهى النهار يقولون الشكر لك يا ربّنا على ما قدّرت لنا، رزقتنا ما رزقتنا من صحّة أو مرض أو عافية أو رخاء أو شدّة، أبداً هم في حال القناعة والرضا بما قدّر الله تعالى لهم، فيُمسون وهمّهم الشكر، ربّما نحن أحدُنا إذا رجع الى البيت يصبّ جام غضبه وسخطه وتذمّره وتأفّفه ممّا تعرّض له أثناء النهار، لا يكون قانعاً بما قدّر الله تعالى له، أو لا.. يكون همّه في أمورٍ ملهية وفي أمورٍ تشغله عن ذكر الله تعالى خصوصاً في الوقت الحاضر من هذه المواقع الإلكترونية والأنترنت وغير ذلك التي أصبحت تلاحق الإنسان ليس كملاحقة الظلّ، ملاحقة الظلّ ربّما أثناء النهار بل هي أصبحت قريناً له في كلّ لحظة من اللّحظات تلاحقه، فيكون همّه عند المساء أن يكون في هذه الأمور أو همّه الحديث أو اللّهو أو اللّعب أو الأمور الأخرى الملهية التي تشغله عن ذكر الله تعالى، بينما الإنسان المؤمن المتّقي يُمسي وهمّه الشكر ويُصبح وهمّه الذكر كما ذكر الإمام، الآن أيضاً الواحد منّا ليكُنْ منصفاً مع نفسه ويجعلْ له ميزاناً ويحاكم نفسه بهذه الصفة، همّنا عند الصباح ما هو؟ ربّما البعض منّا يقوم الى صلاة الصبح متثاقلاً متكاسلاً همّه أن يفرغ من صلاة الصبح ليعود الى النوم مرّةً أخرى وليذوق لذّة الراحة والنوم، لا يكون همّه الذكر، المؤمن المتّقي ينهض -كما ذكرنا سابقاً- نشيطاً قبل صلاة الفجر ليؤدّي شيئاً من صلاة اللّيل وقيام اللّيل، ثمّ بعد ذلك همّه أن يشغل نفسه بذكر الله تعالى بعد أن يفرغ من أداء صلاة الصبح خاشعاً ذليلاً خاضعاً لله تعالى، حاضراً قلبه في أثناء الصلاة لكي يؤدّي صلاةً مقبولةً، ثمّ بعد ذلك يجلس في مصلّاه لكي يذكر الله تعالى، إخواني أيضاً حتّى يكون لكم الدافع أن تجلسوا للذكر بعد صلاة الصبح الى أن تطلع الشمس لنحسب حساب التجارة، الذي يكون همّه العودة الى الفراش أو يكون مهموماً في الرزق وهموم الدنيا بعد الانتهاء من صلاة الصبح كم سيخسر إن لم يكنْ همّه الذكر لله تعالى؟؟!! تعالوا معي أقرأ عليكم بعض الأحاديث لنعرف كم سنخسر إن لم يكنْ حالُنا حال هذه الصفة "يصبح وهمّه الذكر"، يقول(عليه السلام) وهذا الحديث عن رسول الله(صلّى الله عليه وآله) في الحقيقة هناك ثلاث خسائر متعدّدة، أوّلاً يخسر ثواباً، وثانياً يخسر نجاةً من العذاب والنجاةُ من العذاب مربحة، وثالثاً يخسر أنّ هذا الذكر سيوفّر له شيئاً من الرزق الذي يبحث عنه من دون تعب ومشقّة، أنا سأذكر لكم ثلاثة أحاديث وشاهدوا الخسائر الثلاث التي نخسرها حينما نركن الى ضغط النفس في البحث عن لذّة النوم والراحة، ماذا يقول الحديث؟ (أيّما امرئٍ جلس في مصلّاه الذي صلّى فيه الفجر يذكر الله حتى تطلع الشمس...) شاهدوا الثواب إخواني (...كان له من الأجر كحجّاج بيت الله وغُفِرَ له) هذا أوّل ربح.
ثمّ الربح الثاني ونحنُ مليؤون بالذنوب والمعاصي ولا نعلم كم من العقاب والحساب والعذاب ينتظرنا، لاحظوا ثواب هذا الجالس في مصلّاه الذي يصلّي فيه الفجر يذكر الله تعالى فيه شاهدوا الربح الثاني، يقول(عليه السلام): (من صلّى الفجر ثمّ جلس في مجلسه يذكر الله حتى تطلع الشمس ستره اللهُ من النار...) لاحظوا الحديث (...ستره الله من النار، ستره الله من النار) كرّر "ستره الله من النار" ثلاث مرّات، الآن اعلم أخي وأختي كم من الذنوب والمعاصي التي تنتظر الإنسان بحسابٍ وعقابٍ ربّما في النار وسجن في النار كم سيسقط منها عند هذا الجلوس في المصلّى بعد انتهاء الصلاة؟! ثلاث مرّات "ستره الله من النار ستره الله من النار ستره الله من النار".
إضافةً الى هذا يوفّر لك الذكرُ رزقاً من دون أن تتعب وتُعاني في طلب الرزق، فقد ورد في الحديث (الجلوس بعد صلاة الغداة –يعني صلاة الفجر- في التعقيب والدعاء حتى تطلع الشمس أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض) يعني هذا يوصلك الى الرزق، والإنسان يخرج في النهار يطلب الرزق والمال ويتعب ليحصل على الرزق ويحصل على المال، في هذا الحديث الله تعالى يقول أنا سأوفّر لك رزقاً ومالاً من هذا الدعاء والتعقيب من دون حاجةٍ الى تعبٍ منك فلا تشغلْ بالك ولا تكن مهموماً، اجلسْ في مصلّاك تذكر الله تعالى سيكون هذا أبلغ في طلب الرزق من الضرب في الأرض، ثمّ بعد ذلك إخواني الوقت فيه ملائكةُ النهار وملائكةُ الليل، يعني الحسنةُ في الليل بواحدة مثلاً والحسنة في النهار بواحدة، في هذا الوقت ملكان اثنان يسجّلان الحسنات فيكون هذا الذكر مضاعفاً في حسناته بخلاف اللّيل والنهار، لذلك إخواني من الآن فصاعداً بعد أن استمعتم الى هذه الصفة امتحنوا أنفسكم كم ستكونُ منكم الاستجابة لهذه المواصفات، وبعد أن استمعتم الى هذه المنافع والمعطيات الدنيويّة والأخرويّة من خلال ذكر الله تعالى، لذلك يقول: (يُمسي وهمّه الشكر ويُصبح وهمّه الذكر).
ثمّ يقول(عليه السلام): (إِنِ اسْتَصْعَبَتْ عَلَيْهِ نَفْسُهُ فِيمَا تَكْرَهُ لَمْ يُعْطِهَا سُؤْلَهَا فِيمَا تُحِبُّ) هذه النفسُ دائماً إخواني في القرآن الكريم أو في مقدّمة الخطبة نقول (النفس أمّارة بالسوء)، الإنسان بطبيعته يميلُ الى الدِّعَة الى الراحة الى السكون، والعبادات والطاعات فيها مشقّة وفيها ثقل وفيها تعب على الإنسان، والمعصية فيها لذّة لذلك تميلُ النفس الى المعصية والذنب أكثر ممّا تميل الى الطاعة، ويجد الإنسان أحياناً نفسه لا تُطاوعه في أعمال الطاعة والعبادة بل تميل به الى المنكر والى الذنب والى المعصية، الإمام(عليه السلام) يقول: "إن وجد نفسه قد استصعبت عليه فيما تكره لم يعطها سؤلها فيما تحبّ" وهو الذي يُعبَّر عنه بجهاد النفس، التفتوا إخواني جهاد القتال الذي يسبّب القتل والجراح والعوق والألم للمقاتلين تسمّيه الشريعة الإسلاميّة الجهاد الأصغر، أمّا جهاد النفس فتسمّيه الجهاد الأكبر، لذلك لابُدّ أن تكون عنايتكم واهتمامكم بمجاهدة أهواء أنفسكم أكثر من اهتمامكم بمجاهدة أعدائكم، فأيّ نوعٍ من أنواع الجهاد هو الأفضل؟ ورد في الحديث الشريف: (أفضل الجهاد مَنْ جاهد نفسه التي بين جنبَيْه)، لذلك حينما كان بعضُ أصحاب رسول الله وبعض المسلمين قد خرجوا للقتال قال لهم النبيّ(صلّى الله عليه وآله) حينما رجعوا نبّههم: (مرحباً بقومٍ قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر) فقيل: يا رسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال: (جهاد النفس). لذلك إخواني عليكم دائماً أن تراقبوا أنفسكم ماذا يصدر منها من أفعال من مشاعر من عواطف من أمور أخرى، ثمّ اعرضوها على ميزان العقل والشرع، فإذا مالت الى المعصية انتبهوا ولا تعطوها سؤلها فتوقعكم في الهلاك، بل عاتبوها ووبّخوها وحاولوا أن تحملوا هذه النفس على فعل الخير وأعمال الطاعات.
ثم يقول(عليه السلام): (قُرَّةُ عَيْنِهِ فِيمَا لَا يَزُولُ وَزَهَادَتُهُ فِيمَا لَا يَبْقَى، يَمْزُجُ الْحِلْمَ بِالْعِلْمِ وَالْقَوْلَ بِالْعَمَلِ) إن شاء الله نكمل هذا في الخطبة اللاحقة. بسم الله الرحمن الرحيم (قل هو الله أحد الله الصمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد)
صدق الله العلي العظيم
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق