بعد أربعِ سنواتٍ من مقتلِ المتنبي وِلِدَ شاعرٌ لا يقلّ عنه في شاعريته, ولا يقصِّر عنه في مكانته, ولا ينقص عنه في شأوه، ولا ينبو عنه في مضماره, ولو أدركه المتنبي لتحاشاه وحَسِبَ له ألف حساب، وهذا الرأي لم يكن تعصُّباً لهذا الشاعر أو بخساً بحق المتنبي، ومن يجد في هذا الرأي بعض المغالاة فإن هذا الشعور سيزول عنه عندما يقرأ ديوان الشريف الرضي أشعر الطالبيين.
وهذا الرأي ليس بجديد فقد تبنّاه كثيرٌ من أساتذة اللغة والأدب، منهم الدكتور زكي مبارك في كتابه (عبقرية الشريف الرضي) حيث يعتقد هذا الرأي ويبرهن عليه بأكثر من دليل ويقول ما نصه: (طلب إليَّ أن أكتب عن أعظم شاعر أنجبته العربية فكتبتُ عن الشريف الرضي) كما أن ديوان الشريف شاهد عدل على صحة هذا الرأي, هذا الديوان الذي يأخذ بالقارئ إلى ميادين وحروب وغمرات وشعور ملتهب وآلام وآمال ونفس جائشة تتلمظ للوثبة.
ومن (يستقرئ) هذا الديوان ويسبر شعره ليعلم أن الشريف لم (يملأ الدنيا ويشغل الناس) كما فعل المتنبي, بل ملأ النفس وأشغل القلب, فقد كان الشريف أبيَّ النفس عالي الهمّة سمت به عزيمته إلى معالي الأمور لكنه لم يجد من الأيام معيناً.
كان عفيفاً إلى الحدّ الذي أنه لم يقبل من أحد (أي أحد) صلة ولا جائزة, وبلغ من شدّة عفّته أنه ردّ ما كان جارياً على أبيه من صلات الخلفاء والأمراء! وحاول بنو بويه وأصروا عليه قبوله صِلاتهم وعطاياهم فما استطاعوا إلى ذلك سبيلا فما تزلّف لسلطان ولا مدح من لا يستحق.
قال الشعر وهو في العاشرة حتى فاق شعراء عصره على صغر سنه وليس هذا بعجيب على من انحدر من أصلاب الشرف العلوي ودرج في أحضان الإمامة فرضع العلم وغُذِّي بالأدب وكان لنسبه الشريف الأثر البليغ في ترفّعه ومجده فكانت شاعريته طافحة بهذا المجد الذي لا يضاهيه مجد في كل زمان ومكان وإذا كان المتنبي يقول مفتخراً:
وإني لمن قومٍ كأن نفوسَهم *** بها أنفٌ أن تسكن اللحمَ والعظما
فان الشريف يقول وهو في العاشرة من عمره:
إني لمن معشرٍ أن أجمعوا لعلىً *** تفرَّقوا عن نبيٍّ أو وصيِّ نبي
ولسنا هنا بصدد مقارنة الشريف مع المتنبي فلكل منهما أسلوبه وشاعريته ولكن للدلالة على مكانة شاعرنا في عالم الشعر.
في عام (359هـ) كانت بغداد على موعد مع ولادة نجم لامع في سماء الأدب العربي شعَّ على دجلتها فتلألأ ماؤها بنوره وتمايل نخيلها على أنغامه وتنسّم هواؤها بنفحاته فقد احتضنت أرض بغداد مفخرة من مفاخر العترة الطاهرة وإماماً من أئمة العلم والأدب...
إنه السيد أبو الحسن محمد بن الحسين بن موسى بن محمد بن موسى بن إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن ابي طالب (عليه السلام) المُلقب بالشريف الرضي... من هذه الأصلاب الشامخة تسلسل الشريف, والده (الطاهر الأوحد) كما لقبه بهاء الدولة البويهي وُلِي نقابة الطالبيين خمس مرات ومات وهو متقلدها كان عظيم المنزلة جليل القدر في دولتي بني العباس وبني بويه، وكان سفيراً بين الخلفاء العباسيين وبين ملوك بني بويه وأمراء بني حمدان، أمّا أم الشريف فهي السيدة فاطمة بنت الحسين (الناصر) بن الحسن بن علي بن الحسين بن علي بن عمر بن علي بن أبي طالب (عليه السلام) نشأ الشريف الرضي نشأة علمية ودرس النحو والفقه والحديث على يد أساتذة هذه العلوم فتتملذ على كبار العلماء منهم السيرافي وابن نباتة والمرزباني، وغيرهم من الأعلام كما تتلمذ على يد الشيخ الأكبر المفيد محمد بن النعمان الذي كان أستاذه وأستاذ أخيه الشريف المرتضى (علم الهدى).
ورد في (الدرجات الرفيعة) ص(459) ما نصه: (كان المفيد رأى في منامه فاطمة الزهراء بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله) دخلت اليه وهو في مسجد بالكرخ ومعها ولداها الحسن والحسين (عليهما السلام) صغيرين فسلّمتهما اليه وقالت له: علمهما الفقه! فانتبه متعجّباً من ذلك فلما تعالى النهار في صبيحة تلك الليلة التي رأى فيها الرؤيا دخلت اليه المسجد فاطمة بنت الناصر وحولها جواريها وبين يديها ابناها علي المرتضى ومحمد الرضي صغيرين فقام إليها وسلّم عليها فقالت له: أيها الشيخ هذان ولداي قد أحضرتهما إليك لتعلّمهما الفقه فبكى الشيخ وقصّ عليها المنام وتولى تعليمهما وأنعم الله تعالى عليهما وفتح لهما من أبواب العلوم والفضائل ما اشتهر عنهما في آفاق الدنيا وهو باق ما بقي الدهر).
لم يتربع الشريف الرضي على عرش إمارة الشعر فقط, بل حاز على قصب السبق في باقي مضامير التاليف فقد كان عمره خصباً بإنتاجه العلمي والأدبي ويؤدي بنا الحساب الدقيق لسني عمره إلى أن إنتاجه لتلك المؤلفات القيمة التي تحتاج إلى مادة علمية غزيرة واطلاع واسع كان على حدّ الاعجاز، فقد كانت مؤلفاته تتشابه في قوة المنطق وأساليب البيان ولعل أهم مؤلفاته هو جمعه لنهج البلاغة وهو مجموع ما اختاره الشريف من كلام امير المؤمنين وسيد البلغاء والمتكلمين من خطب ورسائل وحكم ومواعظ، ومن مؤلفاته ايضاً (خصائص الأئمة) و(مجازات الآثار النبوية) و(تلخيص البيان عن مجاز القرآن) و(حقائق التأويل في متشابه التنزيل) و(معاني القرآن) و(تعليق خلاف الفقهاء) و(تعليقه على ايضاح أبي علي الفارسي) و(أخبار قضاة بغداد) و(سيرة والده الطاهر) وله كتاب جمع فيه رسائله في ثلاثة مجلدات, كما ألف في الشعر عدة مؤلفات اختار فيها أشعار بعض الشعراء ومما ألف كتاب (الحسن من شعر الحسين) و(الزيادات في شعر أبي تمام) و(مختار شعر أبي إسحق الصابي) و(ما دار بينه وبين أبي إسحق من الرسائل شعراً) و(انشراح الصدر في مختارات من الشعر) و(طيف الخيال).
اجتمعت في الشريف الرضي خصال نادرة قلّما تتجمع عند إفذاذ الرجال ومن يطلع على المناصب التي تولاها في حياته يجد ما تتمتع به شخصيته من المؤهلات العلمية والنفسية الكريمة فقد تولّى نقابة الطالبيين وإمارة الحج والنظر في المظالم وهو في عمر (21) سنة، ومن يقرأ شعره يجد صورة ناطقة عن نفسيته العظيمة ويتجسد له ما تحمل تلك الشخصية الفذة من خصال، فالعلم والفقه والحكم وعزة النفس والعزم والعفة والكرم والإباء قد حُلّيت بالشعر وانتظمت في ديوانه الذي طفح بشاعرية قلّ نظيرها، وقد أجمع أكثر المؤرخين والمؤلفين على أنه (أشعر قريش من مضى منهم ومن غبر) كالخطيب البغدادي في تاريخه (ج2 ص246) والعمري في المجدي (ص126) والثعالبي في اليتيمة (ج3 ص155) وابن الجوزي في المنتظم (ج7 ص279) والباخرزي في دمية القصر (ج1 ص292) والذي يقول عنه:
(له صدر الوسادة بين الأئمة والسادة وأنا إذا مدحته كنت كمن قال لذكاءٍ: ما أنورك! ولخضاره: ما أغزرك وله شعر إذا افتخر به أدرك من المجد أقاصيه وعقد بالنجم نواصيه وإذا نُسِب انتسب رقة الهواء إلى نسيبه وفاز بالقدح المعلى في نصيبه)...
ويقول عنه الرفاعي في صحاح الأخبار ص(61): (كان أشعر قريش وذلك لأن الشاعر المجيد من قريش ليس بمُكثر والمُكثر ليس بمجيد والرضي قد جمع بين فضلي الإكثار والإجادة وكان صاحب ورع وعفة وعدل في الأقضية وهيبة في النفوس).
حفل شعر الشريف بالعديد من الأغراض وتفرّعت أبوابه وسنطرق منه باباً لنختار ما أفاضت قريحته في رثاء جده سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام) فللشريف في هذا الشأن قصائد عديدة التهبت بها زفراته وهاجت بها أحزانه ففي قصيدته الرائية يطلق الشريف الرضي صوته من أعماق قلبه ليملأ الصحراء يتردُّد صداه مع رياحِها ليصل إلى كربلاء وليصبح هذا الصوت انعكاساً لصورة الشهادة بأدق صورها:
يومٌ حدا الظعنُ فيه بابن فاطمةٍ *** سنانَ مطّرد الكعبينِ مطرورِ
وخرّ للموتِ لا كفٌّ تقلّبه *** إلّا بوطئً من الجردِ المحاضيرِ
ظمآنَ سلّى نجيعُ الطعنِ غلّته *** عن باردٍ من عبابِ الماءِ مقرورِ
كأن بيض المواضي وهي تنهبه *** نارٌ تحكّم في جسمٍ من النورِ
لله ملقىً على الرمضاءِ عضَّ به *** فمُ الردى بين إقدامٍ وتشميرِ
تحنو عليه الرُّبى ظلاً وتستره *** عن النواظرِ أذيالُ الأعاصيرِ
تهابه الوحشُ أن تدنو لمصرَعِه *** وقد أقام ثلاثاً غير مقبورِ
ويستبد الحزن بالشريف حتى يصبح هذا الحزن داءً ينهش قلبه ويقرح كبده, فصورة سيد الشهداء وهو ظمآن ولا يسقى بغير الرماح والسيوف تتغلغل في نفسه وتمتزج بدمه لتصبح جذوة من الغضب والحزن ولتنطلق ضاجّة من الوحشية الأموية:
ولي كبدٌ مقروحةٌ لو أضاعها *** من السقم غيري ما بغاها بناشدِ
تأوّبني داءٌ من الهمِّ لم يزل *** بقلبيَ حتى عادني منه عائدي
تذكرتُ يوم السبطِ من آل هاشمٍ *** وما يومنا من آلِ حربٍ بواحدِ
وظامٍ يريغُ الماء قد حيل دونه *** سقوه ذباباتِ الرقاقِ البواردِ
أتاحوا له مرّ المواردِ بالقنا *** على ما أباحوا من عذابِ المواردِ
ويشيع هذا الحزن عند الشريف فيصبح شغله الشاغل وهمه الهائل, فهو حزن الإنسان وثورته اللاهبة:
لم يبقَ ذخرٌ للمدامعِ عنكمُ *** كلا ولا عين جرى لرقادِها
شغل الدموع عن الديارِ بكاؤنا *** لبكاءِ فاطمة على أولادِها
لم يخلفوها في الشهيد وقد رأى *** دفع الفرات يُزادُ عن أورادها
أترى درت أن الحسين طريدة *** لقنا بني الطرداء عند ولادها؟
كانت مآتم بالعراق تعدّها *** أموية بالشامِ من أعيادِها
ما راقبت غضبَ النبيِّ وقد غدا *** زرع النبي مضنّة لحصادِها
نسلُ النبيِّ على صعابِ مَطيِّها *** ودم النبي على رؤوسِ صعادِها
ورغم أن هذا الحزن يطبع على قلب الشاعر والمأساة تقيم في نفسه إلا أن صرخته تنطلق إنسانية واعية كبيرة في عطائها دفيقة بالحزن الشفيف:
يا حساماً فلّت مضاربه الهام وقد فلّه الحسامُ الصقيلُ
ياجواداً أدمى الجواد من الطعن وولي ونحره مبلولُ
حجل الخيل من دماءِ الأعادي يوم يبدو طعنٌ وتخفى حجولُ
أتراني أعير وجهي صوناً وعلى وجهه تجول الخيولُ
أتراني ألذُّ ماءً ولما يروَ من مهجةِ الامامِ الغليلُ
قبلته الرماحُ وانتضلت فيه المنايا وعانقته النصولُ
يا غريب الديار صبري غريبٌ وقتيل الأعداء نومي قتيلُ
بي نزاعٌ يطغى إليك وشوقٌ وغرامٌ وزفرةٌ وعويلُ
ليت أني ضجيع قبرِكَ أو أن ثراه بمدمعي مطلولُ
ويسقط الشاعر عصارة روحه في مقصورته المشهورة التي تأتي بكلمات مباشرة لكنها كالمطر في عطائها الفني معبرة عن الألم والحزن العميقين بروح أكثر أفقاً، فكانت هذه المقصورة عبارة عن لوحة تراجيدية لذلك اليوم المأساوي على إيقاع حزين كان الشاعر أكثر التحاماً وتداخلاً مع صور مشهد الطف، ويمكننا أن نطلق على (مقصورته) اسم نشيد الطف:
كربلا لا زلت كرباً وبلا *** مالقي عندكِ آل المصطفى
كم على تربكِ لما صرِّعوا *** من دمٍ سالَ ومن دمعٍ جرى
كم حَصان الذيل يروي دمعُها *** خدَّها عند قتيلٍ بالظما
تمسحُ التربَ على أعجالِها *** عن طُلى نحرٍ رميلٍ بالدما
وضيوف لفلاةٍ قفرةٍ *** نزلوا فيها على غير قِرى
لم يذوقوا الماء حتى اجتمعوا *** بجدى السيف على ورد الردى
تكسف الشمس شموساً منهم *** لا تدانيها ضياءً وعلا
وتنوش الوحش من أجسادِهم *** أرجل السبق وإيمان الندى
ووجوهاً كالمصابيح فمن *** قمرٍ غابَ ونجمٍ قد هوى
وتتصاعد هذه النبرة الحزينة عند الشاعر فهو هنا يستعين بالخطابية فيراه الطريق المباشر للتعبير عمّا بداخله:
يا رسول الله لو عاينتهم *** وهم ما بين قتلى وسبا
من رميضٍ يمنع الظل ومن *** عاطشٍ يُسقى أنابيبَ القنا
ومسوقٍ عاثرٍ يسعى به *** خلف محمولٍ على غير وطا
لرأت عيناكَ منهم منظراً *** للحشى شجواً وللعين قذى
وتصبح اللوحة ملحمية في استرسال القصيدة المتصاعد حدّة وغضباً وحزناً وألماً فالمشهد يذكي أحاسيس الشاعر ويؤجِّج انفعالاته:
ياقتيلاً قوّض الدهر به *** عمدَ الدين وأعلام الهدى
قتلوه بعد علمٍ منهم *** إنه خامس أصحاب الكسا
وصريعاً عالج الموت بلا *** شد لحيين ولا مد ردى
غسلوه بدم الطعن وما *** كفنوه غير بوغاء الثرى
كيف لم يستعجل الله لهم *** بانقلاب الأرض أو رجم السما
وبقي مشهد يوم الطف يتجلى في إحساس الشريف فيهز كيانه ويملأ عينيه بالدموع وتفيض روحه الماً وحسرة حتى فاضت تلك الروح الطاهرة إلى بارئها في يوم (الأحد 6 محرم سنة 406هـ) وحضر عند وفاته الوزير فخر الدولة وسائر الوزراء والأعيان والأشراف والقضاة حفاة مشاة وصلى عليه الوزير فخر الدولة ودُفن في داره الكائنة في الكرخ قرب مسجد الأنباريين وقد ذكر كثير من المؤرخين نقل جثمانه إلى كربلاء بعد دفنه في داره وذلك ليس ببعيد لأن بني إبراهيم المجاب قطنوا حائر الحسين (عليه السلام) مجاورين لجدهم واتخذوا تربته مدفناً لهم، وأما من قطن في غير الحائر من سائر المدن فإن جثمانه ينقل بعد موته إلى الحائر قرب جده الحسين (ع) وقد نقل جثمان والد الشريف الرضي إلى الحائر بعد وفاته في بغداد سنة (400هـ) ولم يدفن في بغداد وشهد بذلك أبو سعيد علي بن محمد الكاتب عندما رثاه بقوله:
يا برق حامَ على حياكَ وغائرِ *** إن تستهل بغير أرضِ الحائرِ
فلا بدع لو نقل جثمان الشريف الرضي على عادة بني إبراهيم المجاب إلى الحائر الحسيني وقد رثى الشريف كبار الشعراء في عصره منهم مهيار الديلمي بقصيدتيه الدالية والميمية وهما مثبتتان في ديوانه وممن رثاه أيضاً سليمان بن فهد والشريف الرضي الشريف المرتضى (علم الهدى) بقصيدة مطلعها:
ياللرجال لفجعةٍ جذمت يدي *** ووددت لو ذهبت على براسي
ويقول فيها:
لا تنكروا من فيض دمعي عبرة *** فالدمعُ غير مساعدٍ ومواسي
لله عمرك من قصيرٍ طاهرٍ *** ولرب عمرٍ طالَ بالأدناسِ
محمد طاهر الصفار
اترك تعليق