رسم الفنان التشكيلي الراحل إسماعيل الشيخلي هذه الجدارية بمادة الزيت على القماش وبشكل ذي استطالة أفقية كعمل جداري محققاً مناخاً أشبه بالمناخ الترابي أو قريب إلى الصحراوي فالغبار في كل مكان في محاولة لتحقيق ما يصبو إليه الفنان من خلال اللون المائل إلى الحرارة, وقد اقترب الشيخلي في هذا العمل من الفنان الرائد فائق حسن إلا أن هذه اللوحة في جانب منها تحذو حذو المذاهب الشرقية وتكاد تكون ذات صبغة عراقية محضة, وهذا ما يؤكده بناء الأشكال داخل اللوحة.
في هذه اللوحة يلاحظ القارئ عدداً كثيراً من الشخصيات التي رسمت بطريقة اختزالية تعطي طابعاً بالاستطالة العمودية والتجريد في الكثير منها رغم أننا نستشعر حيواتهم, وفي أحيان كثيرة هن نساء وكأنهن اجتمعن لشيء مشترك, ففي الخلفية هناك تلميحات في العمق لتكوينات كأنها قباب ومنائر وكأن المشهد فيه أضرحة وتوجد بعض المباني وبعض الأشكال تشبه الهلال إذن فأنها أضرحة ذات قدسية عند المسلمين حصرياً، وهذا الكم الكبير من النساء يوحي بوجود طقس ديني, فزيارة الأضرحة المقدسة هي من أشكال التراث الديني في العراق حيث يجسد الوحي الديني وزيارة المقامات ويعكس مدى عراقية المشهد وهذه النسوة وهن يرتدين العباءة، في أكثر الأحيان تشخيصاً وتحمل بعض منهنّ أطفالهن, فهذا التنوّع يأخذ بالمتلقي إلى طبيعة المشهد نفسه كونه مشهداً شعبياً فضلاً عن المباني التي نُفذت بطريقة اختزالية, لكن مع المحافظة على روحية منظور المشهد لتؤكد عمق المكان رغم الايحاء بأن التسطيح هو الغالب. فالواقعية هنا هي أساس لنظرة المشهد الحديثة.
إن محاولة الفنان لإخراج شخوص التكوين الفني بهذا الشكل هي من سمات تكويناته الفنية في لوحاته وهو ما جُبل عليه في تجربته التي نهج بها للوصول إلى الغاية التي تلم بتكوينات اللوحة والتي أفرزها تفرده الاسلوبي.
ربما لا يجول بذهن القارئ هنا إلى أن الفنان عانى من مشكلة صياغية وذلك لأن الموضوع عنده هنا محسوم. أذن كيف يحقق عملاً عراقياً حديثاً وفي نفس الوقت متفرِّداً فما كان من الفنان إلا الذهاب إلى فكرة التراث والحداثة, ولكن الفرق كان تقنياً في الدرجة الأولى ولتحقيق رؤية لها طابع خاص بالدرجة الثانية في محاولة للبحث عالمياً عن مداراته العراقية فكانت معماريته الشكلية قائمة على ايجاد صيغة خاصة به في بناء عالمه الفني والذي يخلق جمالياته من خلال خاصية التفرد بالأسلوب مما جعله فردياً وإن انطلق من عدة تأثيرات محلية وعالمية. ورغم صراحة علاماتها إلا أنها عكست نوعاً من تكعيبية ذات طابع لوني أكاديمي في أغلب الأحيان مُظهراً خزينه اللوني في خلق الأجواء التي تعكس طبيعة المشهد.
والذهاب به نحو مسماه الذي يعكس البيئة الشرقية والعراقية خاصة إن إضافة الألوان الصريحة على أجزاء من الشخصيات ما هو إلا تعريف للناظر بطقوس النسوة اللواتي يرتدين الواناً صريحة وذات امتداد موجي عالٍ بما يوحي لنا أننا أمام ما نراه عادة في مجتمعنا وهذه علاقة أخرى تبرز هوية اللوحة.
إذاً فثنائية التراث والحداثة لا زالت فاعلة ولكن بشكلها القريب إلى التشخيص وعدم إغفال المنظور ولو حسياً فأن الفنان الشيخلي ألقى بألوانه وريشته على شواطئ الفرات ليجسد عمق انتمائه والمؤثرات التي تغلغلت في وجدانه من الموروث العراقي.
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق