مما لاشك فيه ان الفنان المسلم قد وجد في فضاءات اللوحة عالماً زاخراً بالجمال كما وجد فيه ارتباطاً بالروح العليا وقدسيتها ، فهو حيز التقوى والخلود ، والملاذ الامثل لصفاء النفس والتأمل في المطلق .
وحين يتصل الفضاء بالرؤية البصرية من خلال المساحة والتكوين تكون دلالاتها الروحية والجمالية مرتبطة بصيغة التسطيح ببعديها من جهة ، وبالحدس والروح من جهة أخرى ، بحيث تفقد الأشكال واقعيتها باعتمادها على السطوح التي تتوزع عليها رغم تنوع المساحة الصورية المراد تنفيذها .
ولا ريب ان الزخارف الإسلامية خير ما يشغل الفضاء الصوري، فهي تفصح عن حيوية خيال الفنان المسلم المتولدة من الخبرة الروحية ، فالبلاط المزجج وتصاميمه المختلفة مثلاً يتألف من العديد من الوحدات أو الأشكال التي تترابط وتتداخل معاً ، على نحو من شأنه أن يحمل الناظر على أن يتحرك متنقلاً في كل الاتجاهات من شكل أو وحدة الى شكل آخر أو وحدة أخرى ، وفي الحقيقة يكون الشكل أو الوحدة تامة ومستقلة بذاتها ، إلا أنها موصلة بالشكل أو الوحدة التالية إليها ، وكلما ترابطت الأشكال فان ذلك يفرض الحركة والوضوح والإيقاع حتى ليخيل أنها غارقة في التسبيح ، وكأنها تحاكي قوله جل وعلا في الآية الكريمة ( يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) .
وإن الزخرفة الإسلامية تجعل الناظر إليها يعيش في مناخات يشعر خلالها أن الروابط التي تجمع بين مختلف عناصر التكوين هي روابط حسن جوار وألفة ، وهي ليست علاقة احتدام وصراع ، فعناصر التكوين في الخط العربي أو الزخرفة الهندسية أو النباتية تجعل الناظر يعيش في أجواء المستوى الذي تسبح فيه هذه العناصر المعروضة أمامه بوضوح كامل في جوٍ سامٍ من الألفة .
كما يحكم عناصر الشكل نظام صارم من العلاقات تبين أحاسيس الفنان المسلم واختلاجاته وقدراته العقلية المتحررة من كل معوق مادي ، بل قد تكون وراء قدراته محفزات وجدانية ذوقية ودينية خالصة .
فإذا تأملنا الاشكال الزخرفية وأمعنا النظر في تفاصيلها وتعانقها وتقاطعها المنتظمة في الفضاء الزخرفي ، لوجدنا انها تبدو قد أخذت سماتها من ترديد الصوت بين الهمس والخفوت والرنين والوضوح في الشعر العربي ذي الأوزان والقوافي ، وكذلك النثر المسجوع فالموسيقى الرتيبة ذات التقابل أو التناظر تجمع بينهما .
أما الحركة الداخلية في التكوينات الزخرفية التي تنتج بواسطة الخطوط المتحركة أو من خلال كثرة الألوان المستخدمة ، أو من تبادل الشكل الزخرفي مع الفضاء ، فهي تتيح حيّزاً واسعاً لخلق الأشكال من الأشكال والألوان من الألوان ، وهذا الخلق الذاتي يكون بمثابة موسيقى بصرية يستوعبها الناظر بادراك ذهني يكشف عن جمال المضمون وأصالة تراكيبه .
علماً ان وراء هذا الخلق غاية أساسية في إحداث كثرة شكلية وموضوعية متنوعة تنتمي إلى نسغ واحد يتألف من نسيج تلك الأوراق والأغصان والتلافيف اللامادية أو النباتية ، لتنمو دون حيز مادي أو معنوي محمول عليها ، وكأن مبدعها الفنان المسلم أراد لها أن تتحرك كأشكال وخطوط وألوان خارج الحدود الزمانية ، أو تنطلق كالروح في عالم الأبدية السامي، الذي يضمن لها البقاء الدائم كما يتجلى تعبيرها الروحي النابع من اتصال قلب المؤمن بخالقه.
فالارتباط بالله ومحبة الخالق عز وجل أكده الفكر الإسلامي الذي ألقى بظلاله على تفكير الفنان المسلم بشكل عام والمزخرف وسلوكه بشكل خاص من خلال الحركة اللانهائية للأشكال التي تعطي العمل الزخرفي طابعاً زمانياً ومكانياً يجعل منه موجوداً حياً تشع فيه ومنه الروح .
سامر قحطان القيسي
الموقع الرسمي للعتبة الحسينية المقدسة
اترك تعليق