مابيننا أكبر من أن تموت بداخلي، ولكني لم أعهدك قاسيَ القلب، وأنتَ الذي كنتَ ترجوني أن لا أبتعد... ماذا حصل ؟ أتُراك تختبرني؟ ألا تثق أنكَ الشمس في نظري وإنك القمر ؟... أكنتَ تعلمُ ماذا يعني إنك راحل؟ لماذا ترحل إذاً ؟ ألم تتعجَّل الرحيل ؟ أتظنُّ أنه من السهل رحيلك ؟ هلا أخبرتني بقرارِك مسبقاً ؟ أم كنتَ تخشى رفقتي إلى حيث أنت ذاهب ؟

لملمت ثيابها من ذلك البيت.. لم تكن تنوي اللحاق به ولكنها ترمّلت وهي عروس، تاركةً البيت ينتحب لرحيلها. هكذا الأقدار تُفرّق أفراداً كانت بيوتهم ملأى بضحكاتهم... فأبدلها القدر بالحزن والألم. لا ليس القدر إنما هم من اختاروا أقدارهم !!!

حين صدرت فتوى الجهاد الكفائي... قرر محمد عدنان الألتحاق بالمجاهدين بمجرد سماعه الفتوى رغم إنه لم يمض على فترة زواجه سوى ستة أشهر وهذا يعني أن يترك عروساً تنشد عودته بسلام، وأن يترك والداً بارك قراره وتعهّد برعاية زوجته بعده... ووالدة راحت تنتحب وترجوه عله يرحم قلبها من فراق أحسّت بلسعات نيرانه قبل أن يكون... محمد كان يمتلك من طيبة القلب والنقاء ما يمتلكه طفل لم تلوّثه الذنوب.. ومن عذوبة الكلام وحلاوة اللسان ما يهدِّئ من روع والدته وزوجته...

وحل يوم الرحيل وبدأت الساعات تدق ناقوس الغياب..  لزمت زوجته السرير عليلة حزينة على رحيله.. ثلاثة أيام وهي تلازم السرير تنتحب تقطع قلبها من ألم البعد، ماذا عن ألم الرحيل إذاً ؟ لايهدأ لها بال ولا يغمض لها جفن سوى الخوف من البعد الذي يسري مسرى الدم في عروقها... تأملت القمر وهو في حالة وجوم وقال كأنها تخاطبه: سيرحل برحيلك ولن تشرق الشمس عليّ ضاحكة كعادتها كل يوم

بدأ البيت يضج من صمت كصمت القبور يتحرك أصحابه لأداء أعمالهم بحركات آلية، كسر حاجز الصمت رنين الهاتف وكأنه إنذار بشيء ما التفت الجميع إلى مصدر الصوت بحركة لا شعورية، انتفضت من السرير مهرولة لتسمع صوته يسأل عنها ويطمئن عليها... هرولت والدته فرحة تهتف لقد اتصل..

صعقت في مكانها حينما رأت عمتها واجمة وعلى وجهها علامات القلق الشديد، سمعتها تمتم .. إنه ليس صوت محمد.. إنه يقول: حدث انفجار لغم وأصاب عدد من المجاهدين ومن بينهم محمد!!! ذهلت من قول المتصل ولكنها لم تصدق إصابته وتيقّنت إنه سقط شهيداً... ما أسرع رحيلك ... وانتِ هل سترحلين أيضاً ؟ عز عليها فراقهما ..

لم يبق من ذكراهما سوى ثياب زفافهما ومجموعة من الصور بقيت محفورة بالذاكرة بقيت وحيدة تصارع الحزن الذي صار أنيسها بعد فراق ولدها وتظل كل صباح تقف أمام باب حجرته تطرقها لعل الذي مضى يكون كابوساً وتصحو منه على صوت مجيب يأذن لها بالدخول ولكن هيهات... فترتعش يدها وهي تدير المقبض لتفتح الباب فتلقي نظرة على آثارهما، بالأمس كانوا يسكنون هنا فتحل لذكراهم رائحة عطرة ويتجدد الشوق ولهفة اللقاء لأشخاص تركوا بصماتهم في أرجاء المكان.

تجلس بين فستان زفاف أبيض وأدوات تجميل حلّ مكانها اللون الأسود، وبدلة عريس رشيق طويل اختار بدلاً عنها كفناً وغيبه التراب. يتراؤون لها حين دخلوا عشهم الصغير متشابكي الأيدي وقد مُلئت قلوبُهم غبطة وفرحة ترجمتها نظرات خجولة... ويظل ديدنها كل صباح دخول ذاك العالم فلا يهدأ روعها ولاتنشف دموعها ولكنها ستظل فخورة بهذا العريس الذي ضحى بنفسه كفخر أم وهب بولدها العريس الذي استشهد في معركة الطف...

 

مروة خالد / مركز الحوراء زينب عليها السلام