بدا المنظر مهيباً من خلف عدسته التي كانت تصوّر السماء المتأنقة بالغيوم حيث كان يلتقط الصور وكأنه يرسمها أكاليل بيضاء توّجت رأس العراق بفرحة النصر. وبعد طول انتظار تحقق حلمه..، بل أحلامه التي كان مؤمناً بتأويلها إلى واقع جميل. ها هو  يحمل عدسته بصفة مصور حربي ويزاول المهنة التي شغف بها حيث راودته ذكريات الطفولة وهو يصنع من الورق كاميرا فوتوغرافية أقتنع لوهلة أنها تلتقط الصور وكان دائماً يبحث عن المشهد المناسب ويحجز لحظة من الواقع في أرشيف الماضي ويطمح أن تتكرر الالتقاطة ذاتها في مستقبل أجمل.

فرحته ببشائر النصر وتنقية المدن من الشوائب القذرة التي عكرت صفو الحياة جعلته يترصد كل ابتسامة ويتعقب كل منظر فيه روح وأمل, حتى تسرّب إلى قلبه شعور لم يدرك ماهيته ؛ شعور دفعه بأن يطلب من آمر القاطع مرافقة المجاهدين في توغلهم بأرض المعركة، بعد أن سمع أنه منع المراسلين والمصورين من التوغل أكثر في بعض مناطق المدينة كون الحرب مع الجبناء لم تنته بعد، ومازالوا يستخدمون الأطفال والنساء في بعض القرى الحدودية كدروع بشرية ليوصموا أنفسهم بعار الجبن إلى جانب عار الخسة والدناءة.

وبعد أن أصرّ على أن يرافق المجاهدين إلى أوكار الجبناء لينقل بعدسته الصور التي ستحفظ للعراق هيبته والتي ستبقى شاخصة على هذه المعركة التي قدمت شهداء وضحايا وأطفال. وعبر عن رغبته بتوسل وإلحاح بأنه كان يريد أن يصور كل شيء لينقل عبر عدسته مجمل الحقائق التي ربما لم تصل للكثيرين.

دمار وخراب في أغلب المنازل التي كانت في يوم من الأيام عامرة بضحكات الأطفال وبصوت المآذن والتي كانت تفوح منها رائحة الخبز وعطر الياس الذي ملأ حدائقها, معالم تاريخية أزيلت لتمتزج مع تراب الوطن ولتشهده على قسوة المجرمين, مدارس خلت من صوت الجرس ودبَّ فيها الصمت المطبق ليؤسس لجهل أمة أقرأ, بقايا رايات سود ممزّقة وكأنها أفاعٍ ميتة بعد أن أفرغت سمها في جسد الحياة الآمنة خلفت خلفها صرخات أسارى وسبايا تلاشت على حدود الوجع.

لم يكن يدري أن خلف كل صورة التقطها حكاية وأن الصور لا تُظهر سوى جزء من الحقيقة لذا جرفته رغبة مفاجئة بأن يكون جزءاً من الصورة وأن يرى نفسه بعيون عدسته ولو لمرة واحدة وهو يحيا الواقع أمام العدسة وليس خلفها وقد هيَّأ القدر لرغبته فعلا.

ففي أثناء تقدمه مع مجموعة من المجاهدين قرب إحدى المناطق المأهولة بالسكان بدأ تراشق الرصاص بين الغيارى من أبناء الوطن وبين أعداءهم الذين كبدوا الإنسانية جرح موجع وهم يرفعون الأطفال فوق أسيجة المنازل ليجعلوهم دروعاً بشرية فهم يعلمون إنسانية خصمهم ويعملون على أضعافه بوسائلهم الخبيثة والبشعة.

أراد أن يلتقط صورة لطفل يصرخ من شدة الهلع والخوف فحاول أن يقرِّب المشهد بزووم كاميرته لدرجة أن المشهد نفذ لقلبه كرصاصة غادرة أوجعته دون أن تقتله بعد أن سرح للحظات محاولاً أن يستدرك دمعته التي أصرت أن تفلت من عينيه لتصبّره على هول ما يرى أستدار وطلب من أحد الجنود أن يحمل الكاميرا وأن يمنحه بندقيته متوسلا بحق رضيع كربلاء.

لبس خوذة الجندي وحمل السلاح وابتسم بوجع لكاميرته التي تخلى عنها ليحمل ما هو أسمى منها وظل يتقدم مع المجاهدين لتخليص العوائل من هؤلاء الشياطين الذين كانت وجوههم أقرب للمسوخ من وجوه البشر ، وبعد مدة ربما لا تمكن أن تحصيها عقارب الساعة فالدقائق كانت قاسية وكل ثانية كانت بعمر كامل أستطاع أبطال السواتر في إحراز تقدم كبير في بعض المناطق لكن كان لهذا التقدم ضحاياه من المدنيين ومن صفوف المجاهدين الذين سقطوا شهداء مضرجين بدمائهم الطاهرة وبقت كاميرته عاجزة عن تصوير لحظة استشهاده, جثة هامدة مع أنه أبتسم لها قبل أن يغمض عينيه أغماضتها الأخيرة. 

 

إيمان كاظم الحجيمي