كم من أحبةٍ رحلوا عنكِ ... وكم من تشييع شهيدٍ شهِدتِ ... وأنتِ مازلتِ صلبة ثابتة . إيّاكِ أعني يا حلّةَ الأتقياء.. كأنكِ ثكلى خَفِرةٌ .. باكية فَخِرةٌ.. لابدّ وأنّ رحيل أبناءك يحزّ في قلبك ..أولئك الذين كانوا يملؤون أجوائك طِيبة وسكينة.. أستَميح جرحَكِ عذرا إن تغلغل سؤالي أعماقكِ الضاجة أليهم شوقاً.. قيلَ إن في أزقتكِ كان يخطو الشيخ مقصد خطواته جيئة وذهاب .. يخدم الأيتام من نسل محمد ومن غيرهم .. يتفقد أحوالهم يعايش أوجاعهم ليرمم بحنوه انكساراتهم .. فرَمّمي انكسار أبنائه اليوم ..لا أعني الذين من صلبه فقط بل كل من جلس عند منبره الذي صدح منه صوت الحق .. قيل انكِ تعلمين كيف كان يقهر جلاوزة الطاغية .. كيف ودّع أخوه الصغير شهيدا ولم يثني هذا لا هو ولا أخيه الثالث عزيمتهم .. قيلَ انّ ترتيله لآيات الله بصوتٍ شجي كانَ يُعانق نسمات سمائك ويروي عطش من أحب كتابه المقدس  .. وقيل أيضا انّه ترككِ قاصداً سوح القتال معاهدا الله ليعود لكِ بالنصر أو يعود أليك شهيدا .. يُنعشُ فيكِ ذاكرة الأولياء يُعيد لكِ مع صحبهِ الحياة بدمائهم الزاكية .. أعلم انّ مرارة الفراق ترهق ذاكرتكِ ورحيلُ أحبتكِ يجعل الديار موحشة .. واعلم أيضا انّ غربتك بعدَهم تستشعرها حتى الأزقة وحيطان المنازل والانتظار لا يفارق أبوابكِ.. لكنني اعلم أيضا انّ هذا ليس دأبكِ لأنهم عاهدوا الله وتركوكِ لأجله.. فأنتِ مازالت تحيى فيكِ روح الحوراء زينب فقد رأت الموت في سبيل الله جميلا ..  حلّتنا .. دعيني أخبركِ انّ مجاهدكِ الشهيد لم يبرح مكانه ولا نأى عن واجبه.. مازال يرسل المعتدين إلى جهنم برميتِه التي أنا على يقين انّها كانت مسددة كرمية المجاهدين أجمع فما رموا إذ رموا لكنّ الله رمى.. أخبروني انّ ابنكِ كان مغواراً عظيماً مقداماً .. يعلو قسماته إيمانا وثباتا.. حاكى بذلكَ قلوب وأرواح المقاتلين ..ووهج الشمس يلفح وجوههم يشحذ همم رجال الله يشدّ أزرهم.. يُذكّرهم بنعيم الجنة.. ذاك القرب المقدّس .. قرب الحسين سيد الثوار.. اخبروني انّ الميدان سادَه هدوء.. وخفتت أصوات الأعداء ..هربوا بخذلانهم كعادتهم.. وتحرّر جزء من المنطقة .. كلّف الشيخ نفسه مع عدةٍ من المقاتلين بتمشيط المنطقة .. كان الخان قديما، وبيتٌ قديمٌ لاح فيه ،تقدموا وعلى حذَرٍ دخلوا واحدا تلو الآخر.. تخطّت أرجلهم مرحلة الخطر ..تلك الخطوات التي كانت ملؤها الثبات.. كانت رحمة الله تحفهم.. ما شدّ انتباههم عتبة الباب التي كانت تبدو انّها قد تمّ الانتهاء من بنائها حديثا.. الّا ان الريبة زالت حينما دخلوا بسلام.. اسند الشهيد ظهره إلى جدار يستذكر أخر شهيد ودّعوه وشيعوه قبل يومين.. يبدو انّه كان يتمنى حضور رفيقهم الشهيد معهم ليشهد لذة الانتصار.. كان الهواء ثقيلا نوعا ما، راكدٌ والنسيم لا يبارح مكانه وقد أثقل قلب الشيخ مقصد تأخر استجابة الدعوة التي طلب من الشهيد الذي شيّعه قبل يومين بأن يشفع له بها عند الله حين أوصاه بترجٍّ بأن يكون أول من يلحق به.. نعم مازال منذ يومين الجو هادئا ولم يسقط أي شهيد .. في أفق ذاكرة الشيخ مقصد جالت الخواطر وقاطع أفكاره صوتٌ من احدهم: -لا تسحب شيئاً .. توقف توقف…!! ولم تستطع ذبذبات الصوت الوصول أسرع .. فعمّ المكان دويّ انفجار.. تجلّت الغبرة عن سقوط الجميع شهداء.. وأولهم الشيخ مقصد.. واستجيبت الدعوة.. ورحلَ ابنكِ يا حلة شهيدا .. سقط جثمانه مدمّىً .. وعمامته تخضبت بالدم الذي خالط التراب . ولا تحسبنّ الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا.. بل أحياء عند ربهم يرزقون.. نعم هم أحياء وما ان سقط الشيخ مقصد حتى رثاه ابن عمه في تلك اللحظة قائلا:  الموت في حب الحسين حياة أبدية .. فاطمئني وقرّي عينا يا حلة.. ويا عراق ..نلتما الحياة بدماء الشهداء.

 

مريم الخفاجي / مركز الحوراء