لم يحدث أي تغيير في حياتها منذ سنوات . الملل والكآبة لم يتسللا إلى روحها وحسب إنما صار انتزاعهما مستحيلا . مع كل محاولاتها المضنية حد القسوة على نفسها لتحظى بطفل يحرك جمود حياتها التي صارت أقسى وابرد من الصقيع  , بروح ملائكية تزيل نظرة الحزن تلك التي استقرت في مقلتيها وسجنت ابتسامتها خلف قضبان وجه واجم , بعطر براءة تستنشقه رئة صبرها شيء من أوكسجين السعادة , بصرخة أمل تقض مضجع الوحدة وتوقظ الأمومة لتستقبل شمس صباح  الطفولة لتحيا عمرا جديد .

لكن لم تكن محاولاتها تلك سبيلا لتحقيق رغبتها الوحيدة ؛ حتى تمكن اليأس منها وصيرها أسيرة الشعور بالوحشة والألم المزمن الذي لا ينفك عنها سوى في لحظات مناجاتها مع الله ؛ وأحيانا حينما يبصر قلبها منظر يسلبه اتزان النبض لوجه طفل مبتسم يتراقص شقاوة ويقفز في مخيلتها , وربما لدمعة يتيم تنشد الرحمة وتغسل همومها بمسحة حب على رأسه .

حتى ذلك اليوم الذي لم تكن تنتظره لأنها كانت قد فقدت القدرة على الانتظار وسلمت الأمر لله . كانت على موعد مع خيبة أمل جديدة في عيادة الطبيبة فهي لم تشأ زيارتها بعد أن استنفدت كل طاقتها على تحمل ذات العبارة الموجعة في كل مرة . التي كانت تولد لديها ردة فعل بجملة لطالما رددتها على مسمع طبيبتها " أرجوكِ لا تقولي لي لستِ حامل من صمتكِ سأفهم " . هذا الطلب كان نوع من العجز عن الاستمرار في نفس دائرة الأحداث المكررة فهي لم تزر الطبيبة بكامل إرادتها ! كان زوجها يتفوق عليها كثيرا بالثقة المطلقة لقدرة الله وإحسانه على عباده . هو من ألح عليها بصرع يأسها وبمداومة الأمل لعلمه أن لولا الأمل لما كان للانتظار معنى .

وجاءت عبارة الطبيبة هذه المرة مخالفة للعادة بل بكلمات استثنائية وبصوت له إيقاع روحي وربما بعطر الورود ... كانت " مبارك أنتِ حامل " !

لدقائق لا تحصيها الكف الواحدة ظلت شاردة بنظرها لعالم آخر . هو ذلك العالم الذي يجمع الحقيقة بالخيال , التصديق والإنكار , الدهشة والسعادة وربما يجمع الكثير من المتناقضات . حتى داهمتها بذات العبارة مع إضافة أجمل بل لا أجمل منها على الإطلاق " ستكونين أماً " ...

 تلك اللحظة محت من ذاكرتها أحدى عشرة سنة قضتها في الترقب والانتظار والحزن , أحدى عشرة سنة عجاف تتلهف لوفرة تكون مؤونة لبقية الحياة . أحدى عشرة سنة أنقضت ولن تعد تفاصيلها تعني شيئاً منذ تلك اللحظة .

عادت لبيتها بابتسامة لا يمكنها التحكم بها كما لو إنها خُلقت بها . عادت وهي تلهج بالحمد وتخشى أن يكف لسانها عن أذكار قلبها . عادت وسعادتها يحدوها شعور بالأمومة تذوقته أعماق روحها وروى ظمأ سنين طويلة خلت .

جلست قرب الباب تنتظر شريك سعادتها وما أن عاد أطلقت لفرحها الدموع ...

 

إيمان كاظم الحجيمي