ما زلتُ أذكر حين أتتني باكية وخصلاتُ شعرها متناثرة خارج شالها الوردي ذو الفراشات البيضاء ... كانت ممسكةً به كمن يتمسّكُ بطوقِ النَّجاة ، أسرعت لغرفتها باكية وأسرعت بخوفً خلفها .

ـــ   ما لذي حدث يا صغيرتي؟!

ـــ   لقد انتزعوا شالي من على راسي بالقّوة !

إنهم أبناء الجيران الّذين كانت تعلو ضحكاتهم معها منذ قليل ، وأنا أراقبهم من شرفتي وهم يلعبون معاً ... وما إن غبتُ للحظاتٍ حتّى حدثَ ما حدث ، لم تكن زينب قد أتمّت عامها التاسع بعد ، لكنّها قد ارتدت الحجاب والتزمت بصلاتها منذ قرابة الستّة أشهر ... كانت تستيقظِ نشطةً لصلاة الفجر وتستعدُ مبكراً لصلاة الظهر ، وتنتظرني لنبدأ صلاتنا معاً .

لطالما كنت أسمع دعائها الهامس عقب صلاتها وهي بكلِّ براءة الطفولة تدعو لكل فرد من عائلتنا ابتداءً بجدِّها ذو (57) عاماْ وانتهاءً بابن خالتها الذي لم يكمل شهرهُ الثانِ بعد .

كنتُ أنظر ُإليها وابتسم وأشعرُ بالفخر وبالكثير الكثير من الحظ ، لأنّ الله حباني بطفلةٍ رائعةً مثلها ، لربّما من الصعب أن يتكيف طفل قد ولد في الغرب مع تعاليم الدين الإسلامي ، خاصةً مع كلِّ المغرياتِ التي يقدمها المجتمع الغربي للأطفال لحثّهم على الابتعاد عن القيمِ والأخلاقِ ، وبطبيعة الحال عن الدّين ...

كنّا نعيش في منطقةٍ أغلبُ قاطنيها من الأوربيين ، لا تكادُ تلمح الزيّ الإسلاميّ بتاتاْ في الطُرقات ... كنت خائفةً جداً من ردّةِ فِعلها بعد أن اُنتزِع من رأسها الحجاب ... بدأت الأفكارُ تتلاطمُ في رأسي ...

هل ستكره الحجاب بعد العنف الذي تعرضت له ؟

هل ستخبرني بأنّها لم تعد تريد ارتداءه ؟

هل ستشعر بأنّ لا أحد يحبها بسببه ؟

قطعت أفكاري صوت شهقاتها ... فاحتضنتها بقوةٍ وضممتُها إلى قلبي الذي لطالما نبض لها وبها ،  قلت بنبرةٍ حانية وانا أعيدُ بهدوءٍ إدخالَ خصلاتِ شعرها البُنيّةَ لداخل حجابها وأعيد ترتيبه ...

ـــ   لا بأس عليكِ يا حلوتي ، هذه الأمور قد تحدث ... هم مجرد أولاد صغار طائشين ظنّوا بأن مزحتهم ستكون ظريفة ! سأكلم والدتهم غداً ...

تابعت بُكائها ولم يُهدئ كلامي من رَوعها شيئاْ فقلت ...

ـــ   أخبريني لمَ تبكين الآن ؟ أ لم نقل بأن الأميرات لا يبيكن ؟

ـــ   أنا خجلةٌ من الله ... من المؤكد بأنّه غاضبٌ منّي الآن ، وقد سجلت الملائكةُ العديد من السيئات في دفتر مذكراتها ـــ هكذا كانت تسميها ـــ ...

فاجأني جوابها ... فلم يخطر ببالي أن تجيبني بهكذا جواب .

ـــ   لا لا ... إياكِ أن تفكري هكذا ... الأمرُ عكس ذلك تماماً ، الله يحبّك و هو يرعاكِ ويحفظكِ من كل من يريد بك شراً ، ولن يعاقبك على خطأ لم تقترفيه ، على العكس ، فقد كُتِبت لكِ المزيد من الحسنات لأنّكِ تعرضت لعنفٍ لارتدائك الحجاب وإتباعك الصراط المستقيم ...

مسحت على رأسها بيدي ثم مسحتُ دموعها من على خدها وأردفتُ قائلةً .

ـــ   عليكِ أن تتعلمي كيف تكوني قويةً وثابتةً أمامَ مبادئك الّتي اخترتِها ... لا تدعي الخوف يسيطرُ عليكِ ولا تدعي الذكور يتغلبون عليك بعنوان القوّة ! كوني ذكيةً ومهذّبةً وواعية ... أليس كذلك تفعل الأميرات ؟

ابتسمت وهي ترتمي بحضني وقالت ...

ـــ   نعم ... نعم . أتمنى ان يقعوا و تكسر أقدامهم .

فضحكت لقولها وقلت ...

ـــ   اطمئني سيعاقبهم الله لفعلتهم وسيعوضك لصبرك خيراً .

وقفت وهي ترتب ملابسها وكأنّ شيئاً لم يكن ، فسألتها بتعجب ...

ـــ   الى أين ؟

ـــ   لأتابع لعبي ... لن أدع هؤلاء الأغبياء يفسدوا يومي ...

ونزلت السلالم مسرعةً لتلعب أمام البيت مجدداً ، نظرت من النافذة لأشاهد اندهاشهم بعد أن رأوها قد عادت مرةً أخرى ، ولتلعب بنفس المكان غير آبهةٍ بهم ... فما كان منهم إلا أن انصرفوا وهم في حيرةٍ من أمرهم تاركين لها المكان لتلعب بهدوءٍ وسلام، نظرت أليَّ وملامح النّصرِ واضحةٌ في عينيها ، وصرخت ...

ـــ   اطمئني يا أمّي ، فأنا أتدبر أمري جيداً .

ابتسمت لها و همست ...

ـــ   لتكوني في رعاية صاحب العصر والزّمان روحي فداه .

بشرى الحسيني