الحلقة السابعة


لا تزال كثير من حقائق التأريخ الإسلامي مخفية بسبب السياسات المعادية لأهل البيت (عليهم السلام) التي سعت وجهدت على إظهار ما يوافق مصالحها من أكاذيب وإخفاء ما يصطدم مع أهوائها وتوجهاتها من حقائق، كما لا تزال أقلام كثير من الكتاب واقعة تحت تأثير الأهواء الأموية والدسائس العباسية والأكاذيب الزبيرية، فتعبّدوا بما نقلت إليهم من الروايات الموضوعة في المصادر، واعتمدوها، واعتبروها من المسلمات، دون التأمّل فيها، ودون محاكمة العقل، ومراجعة السند والراوي.
فهذه المؤامرة الثلاثية (الأموية والعباسية والزبيرية) جعلت هدفها الأول والأخير النيل من آل علي وحاولت بشتى الوسائل تهميش وطمس الحقائق التاريخية وتشويه السِّيَر لشخصيات إسلامية عظيمة، وتزويق الماضي الوحشي والمخزي لـ (سلفهم) وخلق التبريرات غير المنطقية واعتماد الروايات الموضوعة لتنزيههم، ونحن نعلم دون شك أن أغلب المؤرخين هم من موالي السلطة، وخاصة في العصر الأموي بالذات، حيث راجت أسواق بيع الذمم، وكثر وضع الروايات المكذوبة، العارية من الصحة، والتي تناقض تماماً الحقائق التاريخية.
ومن يسبر غور تاريخ تلك الفترة وما بعدها يجد أن الحقائق قد طُمست، وأن الأكاذيب قد روّجت ودونت، وأصبحت لدى المؤرخين الذين جاءوا بعد تلك الفترة نصوصاً لا تقبل الشك. فدوّنوها دون تمحيص وتدقيق، أو حتى تأمّل. ولكن الحقيقة مهما طال إخفاؤها ومهما تلاعبت بها اليد الآثمة فإنها ستظهر وتسطع كالشمس.
وقد استعرضنا في الحلقات الست السابقة الروايات الموضوعة التي حاولت النيل من قداسة السيدة فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) والتي خالفت الحقائق التاريخية وفنَّدها العقل والمنطق والقرينة والدليل.
كما حاولنا قدر المستطاع ــ في هذه الحلقات ــ تسليط شعاع صغير من نور فاطمة في هذه السطور فهي ــ عليها السلام ــ أكبر من أن تحيط بنورها الدرّي هذه الكلمات وبقي أن نذكر أولادها وهم بقية آل الحسن وما جرى عليهم من قبل المنصور:
عبد الله المحض: سمِّي بالمحض لأنه اجتمعت عليه ولادة الحسن والحسين وكان يشبه رسول الله (صلى الله عليه وآله) وهو شيخ بني هاشم في عصره و كان يتولى صدقات أمير المؤمنين علي (عليه السلام) . وقيل له: بم صرتم أفضل الناس؟ فقال: لأن الناس كلهم يتمنون أن يكونوا منا ولا نتمنى أن نكون من أحد.
وكان نهاية هذا العلوي وأخويه على يد المنصور الدوانيقي، فلما حج المنصور أيام ولايته سنة (145هـ) ودخل المدينة جمع بني الحسن فكانوا أكثر من عشرين رجلاً منهم أولاد السيدة فاطمة وهم: عبد الله المحض، والحسن المثلث، وإبراهيم الغمر وقيدهم بالحديد وقال لعبد الله المحض: اين الفاسقان الكذابان ــ يعني ولديه محمد وابراهيم ــ قال: لا علم لي بهما، فاسمعه كلاماً بذيئاً ثم أوقفه وأخوته وعامة بني الحسن في الشمس مكشوفة رؤوسهم وركب هو في محمل مغطى فناداه عبد الله المحض: أهكذا فعلنا بكم يوم بدر يشير إلى صنع النبي (صلى الله عليه وآله) بالعباس حين بات يئن، قيل له: ما لك يا رسول الله لا تنام، قال: كيف أنام و أنا أسمع أنين عمي العباس في الوثاق.
وكانت طفلة لعبد الله المحض اسمها فاطمة قد وقفت على الطريق لمّا مرّ محمل المنصور ومعه الأسرى من بني الحسن فالتفت اليها المنصور فأنشأت تقول:
ارحمْ كبيراً سِنُّه متهدِّما * في السجنِ بين سلاسلٍ وقيودِ
إن جُدتَ بالرحمِ القريبةِ بيننا * ما جدّنا مـن جدّكم ببـيعدِ
فلم يلتفت المنصور إليها!!
ويرسم الشاعر ابن أبي زناد السعدي صورة مبكية لذلك المشهد الأليم وهو ينظر إلى أكثر من عشرين علوياً من أبناء فاطمة الزهراء وهم مكبلون بالسلاسل مكشوفي الرأس تحت لهيب الشمس وهم يساقون إلى الموت ويرفعون أيديهم رغم ثقل الحديد لتوديع أصحابهم وأهل بيتهم فيقول:
من لنفسٍ كثيرةِ الإشفاقِ * ولعينٍ كثيرةِ الإطراقِ
لفراقِ الذينَ راحوا إلى المــــوتِ عياناً والموتُ مرُّ المذاقِ
ثم ظلوا يسلمونَ علينا * بأكفٍ مشدودةٍ في الوثاقِ
وجاء المنصور ببني الحسن إلى الهاشمية وحبسهم في محبس تحت الأرض فكانوا لا يعرفون ليلاً ولا نهاراً، ومن أجل معرفة أوقات الصلاة فإنهم جزّؤوا القرآن وعند انتهاء كل جزء يصلون وقتاً من الأوقات ثم ردم المنصور عليهم السجن فماتوا!


محمد طاهر الصفار