الحلقة الثانية
لا تقل تضحية وفداء هذه السيدة العظيمة عمّن قدموا دمائهم بين يدي الحسين من الشهداء الأبرار ولو أن الله قد كتب عليها القتال لما تأخرت عن الالتحاق بهم والموت دون الحسين، بل إنها استطاعت أن تجنّد وتعبّئ بعض رجال قومها فكانوا من شهداء الطف فكان موقفها العظيم هذا مصداقاً لحديث النبي (صلى الله عليه وآله): (لئن يهدي الله بك رجلاً أحب إليك مما طلعت عليه الشمس).
فهذا شاهد من عمق التأريخ على يعطي ثمرة موقف السيدة مارية في نصرة الإمام الحسين (عليه السلام) في رفد ثورته المباركة فقد روى الطبري في (تاريخ الأمم والملوك) (ج 4 / ص 263)، وابن الأثير في (الكامل في التاريخ ج 4 / ص 21) هذا الموقف من مارية مع قومها بما نصه: (واجتمع ناس من الشيعة بالبصرة في منزل امرأة من عبد القيس يقال لها مارية بنت منقذ وكانت تتشيّع، وكان منزلها لهم مألفاً يتحدّثون فيه، فعزم يزيد بن نبيط على الخروج إلى الحسين عليه السلام، وهو من عبد القيس، وكان له بنون عشرة، فقال لهم: أيكم يخرج معي ؟ فخرج معه ابنان له: عبد الله وعبيد الله، فساروا فقدموا عليه بمكّة ثمّ ساروا معه فقتلوا معه).
وقد ذكرت التواريخ قصة خروج يزيد بن نبيط بما نصه: (إنها ــ أي مارية ــ لما قالت كلمتها قال يزيد بن نبيط وهو من عبد القيس لأولاده وهم عشرة: أيكم يخرج معي؟ فانتدب منهم اثنان عبد الله وعبيد الله، وقال له أصحابه في بيت تلك المرأة نخاف عليك أصحاب ابن زياد، فقال: والله لو استوت إخفاقها بالجدد لهان علي طلب من طلبني وصحبه مولاه عامر وسيف بن مالك والأدهم بن أمية فوافوا الحسين بمكة وضمّوا رحالهم إلى رحله حتى وردوا كربلاء وقتلوا معه).
ولم يقتصر تأثير موقف السيدة مارية على يزيد بن نبيط وولديه بخروجهم مع الحسين بل هناك شخصيات أخرى أزال موقف مارية وكلماتها الغشاوة عن أعينها فرأت فيها الهداية والسعادة الأبدية التي لا زوال لها فالتحقت بالحسين وكان لها شرف الشهادة بين يديه ومن الأشخاص الذين نالوا شرف الشهادة مع الحسين بفضل موقف السيدة مارية الشهيد عبد الله الفقعسي وأربعة من أولاده وقد ذكرت التواريخ قصة انضمامهم إلى معسكر الحسين (عليه السلام) في ضمن حديث ممن استشهد معه من أهل البصرة بما نصه:
(وأما الذين سعدوا ورزقوا الشهادة ــ من أهل البصرة ــ كما ذكرهم أهل المقاتل: عبدالله الفقعسي, وكان شيخاً كبيراً طاعناً في السن, وولده أربعة: والسادس هو سعيد بن مرة التميمي, أما سبب خروج هذا الشيخ وولده على ما يروى أنه كان امرأة من أهل البصرة تسمى مارية بنت منقذ العبدي , وكانت تتشيّع, وهي من ذوي البيوت والشرف, وقد قتل زوجها وأولادها يوم الجمل مع أمير المؤمنين (عليه السلام), وقد بلغها إن الحسين (عليه السلام) كاتب أشراف أهل البصرة ودعاهم إلى نصرته, وكان عندها نادٍ يجتمع فيه الناس فجاءت وجلست بباب مجلسها وجعلت تبكي, حتى علا صراخها فقام الناس في وجهها وقالوا لها: ما عندك ومن أغضبك ؟ قالت: ويلكم, ما أغضبني أحد, ولكن أنا امرأة ما أصنع, ويلكم سمعت إن الحسين بن بنت نبيّكم استنصركم وأنتم لا تنصروه, فأخذوا يعتذرون منها لعدم السلاح والراحلة, فقالت: أهذا الذي يمنعكم ؟ قالوا : بلى ؛ فالتفتت إلى جاريتها وقالت لها: أنطلقي إلى الحجرة وآتيني بالكيس الفلاني، فانطلقت الجارية وأقبلت بالكيس إلى مولاتها , فأخذت مولاتها الكيس وصبته وإذا هو دنانير ودراهم , وقالت : فليأخذ كل رجل منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين.
فقام عبدالله الفقعسي وهو يبكي ـ وكان عنده أحد عشر ولداً ـ فقاموا في وجهه وقالوا : إلى أين تريد ؟ قال : إلى نصرة ابن بنت رسول الله . ثم التفت إلى من حضر وقال : ويلكم هذه امرأة أخذتها الحمية وأنتم جلوس ؟ ما عذركم عند جده رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يوم القيامة .
ثم خرج من عندها وتبعه من ولده أربعة فأقبلوا يجدون السير , حتى استخبروا بأن الحسين عليه السلام ورد كربلاء , فجاء الشيخ بأولاده إلى كربلاء ورزقوا الشهادة) .
كما تذكر التواريخ أن هناك شهيدا آخر خرج مع الحسين لما رأى خروج الشيخ عبد الله الفقعسي وأولاده لنصرة الحسين وهذا الشهيد سعيد بن عبد الله الحنفي الذي كان جديد العهد بالزواج فترك زوجته ليلتحق بالحسين، وهو الذي وقف بين يدي الحسين يوم العاشر عندما صلى (عليه السلام) بمن بقي من أصحابه فكان يتلقى السهام بصدره فلما سقط قال للحسين: هل وفيت يا أبا عبد الله ؟ فقال له الحسين: نعم أنت أمامي في الجنة
أدت مارية دورها العظيم في حث قومها على نصرة إمامهم ووفقها الله بأن اهتدى بموقفها أولئك الشهداء الذين خرجوا لينضموا إلى معسكر الحق بفضل حثها إياهم وتعبئتها لهم بما يحتاجونه من نفقة السفر وبقيت تنتظر ما ستؤول إليه الأمور وتترقب أخبار إمامها الحسين حتى وصلها خبر مقتله فلم يفارقها الحزن والبكاء حتى فاضت روحها الطاهرة إلى بارئها راضية مرضية.


محمد طاهر الصفار