الحلقة الأولى
لم تفرز ثورة أو حركة عبر التأريخ من الشخصيات التي تكاملت فيها العظمة بمنتهى غايتها كما أفرزتها ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، فقد تبلورت الأهداف السامية التي نهض من أجلها (عليه السلام) في النفوس النقية الطاهرة لتخرجهم من ظلمات الجور الأموي إلى معاني الحرية والكرامة فأشرقت تلك الأرواح الكبيرة حول موكبه العظيم وهي على أتم الاستعداد لرسم معنى الشهادة بأعمق وأكمل صورها.
أحاطت تلك النفوس العظيمة به وهي تقطع الصحراء حاملة القيم الثورية لتجسدها بأبهى صورة في كربلاء ولتخطّ بدمائها فجراً أزلياً مطرزاً بالتضحية والفداء في الوقت الذي تألبت عليه نفوس أذلتها أموال السلطة فبيعت بأثمان بخسة واختفت نفوس أخرى فضلت الهوان والذل على حياة الخلود والكرامة.
تلك القوى الثورية من الرجال الذين مثلوا الصفوة من المسلمين المؤمنين فتجلى بهم الإسلام بأروع صوره ليقدموا أرواحهم من أجل الحرية والعدالة في كربلاء كانت تؤازرهم قوى من النساء لا تقل تضحياتها عن قوى الشهادة فأدت دورها العظيم والمهم في رفد الثورة الحسينية بكل ما تستطيع من جهد وتضحية وكان على رأس هذه القوى عقيلة الطالبيين وسيدة البيت الهاشمي وسليلة النبوة ووريثة الإمامة السيدة زينب الحوراء (عليها السلام) التي تكفلت بوصايا أخيها سيد الشهداء وزلزلت العرش الأموي بخطبها حتى أدهشت العقول بصلابتها وثباتها ورباطة جأشها وردفتها في مواقفها السيدة أم كلثوم بنت أمير المؤمنين والسيدة سكينة بنت الحسين والسيدة أم البنين والسيدة الرباب.
وإضافة إلى هذا الدور العظيم الذي مثلته السيدة الحوراء وسيدات بيت النبوة فقد كانت هناك أدوار نسائية عظيمة معطاء ومواقف مشرقة أخرى في سجل التأريخ في رفد الثورة الحسينية من نساء مثلن في نصرتهنّ للإمام الحسين (عليه السلام) قمة الوفاء والتضحية فضحين بكل غالٍ ونفيس فقدمن أبنائهن وأزواجهن وأخوتهن في نصرة الحسين فكنّ مثلا أعلى للصبر واليقين والإيمان والكمال وبرزت اسماؤهنّ في التاريخ بأرقى دور وأنقى صفحة فأشرقت في سماء الثورة أسماء دلهم بنت عمرو زوجة الشهيد زهير بن القين التي كانت السبب الرئيسي في التحاقه بمعسكر الحسين وشهادته بين يديه، والسيدة طوعة التي آوت مسلم بن عقيل حينما تخلى عنه أهل الكوفة وخذلوه والسيدة أم وهب التي قدمت ابنها الوحيد لينال شرف الشهادة بين يدي الحسين و.... مارية بنت منقذ العبدي التي قدمت زوجها وأولادها شهداء بين يدي أمير المؤمنين (عليه السلام) في معركة الجمل وقدمت كل ما تملك من أموال في تعبئة قومها للالتحاق بسيد الشهداء في كربلاء.
مارية القبطية من نساء الشيعة الفاضلات ومن كرائم نساء البصرة أسلم أبوها وكان نصرانياً فولدت مسلمة، استشهد زوجها وأولادها في معركة الجمل وهم يقاتلون الناكثين مع سيدهم أمير المؤمنين (عليه السلام) فزادها فقدهم إيماناً ويقيناً ورسوخاً بقضية أهل البيت (عليهم السلام) ودعوتهم الحقة وصممت على المضي على نهج أهل البيت.
فحينما أرسل الإمام الحسين (عليه السلام) رسائل إلى رؤساء الأخماس في البصرة وأعيانها وأشرافها يدعوهم فيها إلى النهضة معه في ثورته الإصلاحية المباركة لم يجبه منهم إلا القليل وتخلف عن دعوته جل قومها ولما سمعت بذلك دعت أشراف قومها جلست تبكي ولما سألوها عن سبب بكائها وهل أغضبها أحدهم ؟ قالت لهم: (ويلكم ما أغضبني أحد، ولكن أنا امرأة ما أصنع ؟ سمعت أن الحسين ابن بنت نبيكم استنصركم وأنتم لا تنصرونه)..!
الله أكبر هذه المرأة العظيمة دلت قومها على الرشد وهي حبيسة بيتها!! وإذا كانت زرقاء اليمامة كانت تريد إنقاذ قومها من الموت فإن هذه المرأة كانت تريد لهم الخلود في الدنيا والآخرة ولكن لا حياة لمن تنادي !!
لما سمع قومها كلامها ظلوا يحدقون ببعضهم وكل ينتظر من صاحبه الجواب المتخاذل ليكون له ذريعة بالانصراف والهروب من هذا التقريع!! ألا شاهت الوجوه.. (مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ ۚ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ ۚ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) إي والله لقد رضيتم بحياة الذل بتخاذلكم والموت في زوايا العبودية والخنوع..
لم يجدوا جواباً ووجمت نفوسهم الخانعة فتذرّع بعضهم بعدم امتلاكه السلاح والراحلة ونفقة السفر إلى الحسين، ولكن السيدة مارية كانت تتوقع هذا التبرير الواهي كما كانت مستعدة لإزالته في نفس الوقت فقد كانت امرأة غنية فجمعت كل ما تملك من أموال وهيّأته لهذه اللحظة فما إن اعتذر قومها بهذا العذر حتى جاءت بكيس مليئ بالدنانير الذهبية والدراهم الفضية وأفرغته أمامهم وقالت: (فليأخذ كل منكم ما يحتاجه وينطلق إلى نصرة سيدي ومولاي الحسين)!!.
هذا هو الحب وهذا هو التفاني في التضحية من أجل الدين وأهله إن هذه المرأة قد فقدت زوجها وأولادها وليس لديها من يعيلها أو ما تقتات منه سوى أموالها وها هي تقدمها كلها في خدمة سيد الشهداء.. فأي روح عظيمة هذه ؟ وأي قلب مطمئن بالإيمان تحمله ؟


محمد طاهر الصفار