الحلقة الثالثة


أظن أن هذه الأدلة القطعية التي ذكرناها في الحلقة الثانية كافية لنفي هذه الرواية الموضوعة وإتماماً للفائدة وبياناً للسبب الذي جعل الزبير بن بكار الكذاب يضع هذه الرواية سنذكر رواية ثانية لأنها ستوضح الكثير من الأمور الخافية وهذه الرواية رواها أبو الفرج الأصفاني في الأغاني (ج1 ص162) عن الزبير بن بكار أيضاً وملخصها هو:
(اجتماع نسوة من أهل المدينة من أهل الشرف فذكرن عمر بن أبي ربيعة وشعره فتشوّقن إليه وتمنينه فقالت سكينة بنت الحسين أنا لكن به فأرسلت اليه رسولاً وواعدت صواحباتها فوافاهن عمر على راحلته فحدثهن حتى أضاء الفجر...).
هذه هي الرواية التي مُلئت إفكاً وزوراً وبهتاناً من قبل لؤم زبيري وحقد أموي وهي والله تقرح القلب...، لعن الله الزبير بن بكار وأبا الفرج الأصفهاني، ولكن الحقيقة يجب أن تظهر مهما طال بها الزمن فستعرف عزيزي القارئ أية سكينة هذه التي واعدت عمر بن أبي ربيعة.
سكينة الزبيرية
فقد ذكر الأصفاني نفس هذه الحادثة في نفس الكتاب (ج1 ص105) ولكنه لم ينسب سكينة إلى الحسين واكتفى باسم سكينة فقط، ولكنه ذكر في (ج1 ص165): (إن عمر بن أبي ربيعة كان يلتقي بـ (سكينة بنت خالد بن مصعب بن الزبير) وذكر نفس الاجتماع معها في (الجنبذ) ــــ أي القبة ــــ ومعهما جاريتان له تغنيان هما (البغوم) و(أسماء). وقد ذكرهما عمر بن أبي ربيعة في شعره بقوله:
صرمت حبلك البغوم وصدت *** عنك في غير ريبة أسماء
وأظن أن الأمر اتضح الآن فقد أراد الزبير بن بكار دفع العار الذي لحق به وإلصاقه بآل النبي.
رد الدكتورة بنت الشاطئ
ونورد هنا رد الدكتورة بنت الشاطئ في كتابها موسوعة آل النبي (ص941) حيث ردت رداً شافياً على هذه الرواية بدأته باستنكار شديد بقولها:
(متى ظهرت سكينة في المجتمع طليقة متحررة وشاركت في التاريخ الأدبي بعصرها؟!...).
ثم تفند هذه الرواية بقولها:
(المؤرخون يقررون أن المدينة كانت في مأتم عام لسيد الشهداء، وأن أمها الرباب قد أمضت عاماً بأكمله حادة حزينة حتى لحقت بزوجها الشهيد، وأن أم البنين بنت حزام بن خالد العامرية زوج الإمام علي بن أبي طالب كانت تخرج الى البقيع كل يوم فتبكي أبناءها الأربعة أعمام سكينة الذين استشهدوا مع أخيهم الحسين في كربلاء: عبد الله وجعفر وعثمان والعباس بني علي بن أبي طالب كرم الله وجهه فتلبث نهارها هناك تندب بنيها أشجى ندبة وأحرقها فيجتمع الناس إليها يسمعون منها فكان مروان يجئ فيمن يجئ لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي.
فهل ترى كان يحدث هذا وسكينة تعقد مجالس الغناء في دارها وتواعد عمر ذات ليلة استجابة لرغبة نسوة شاقهن مجلس ابن أبي ربيعة؟!.
هل كان مروان بن الحكم يسمع أم البنين تندب أعمام سكينة فيبكي لها وسكينة تبكي بدموع ذوارف على الخدين والجلباب لفراق عمر بن أبي ربيعة وتصغي إلى شدو المغنين؟.....
ثم تقول (الذين أرخوا للسيدة زينب ذكروا وفاتها في شهر رجب سنة (62هـ) وقد ثوت في مرقدها الأخير هناك وآبت سكينة من رحلتها مضاعفة اليتم لتشهد بعد ذلك ثورة أهل المدينة على بني أمية وخروجهم على يزيد بن معاوية لقلة دينه، وهي الثورة التي انتهت بموقعة الحرة بظاهر المدينة حيث استشهد من أولاد المهاجرين والأنصار (306) شخصاً وعدد من بقية الصحابة الأولين وهجر المسجد النبوي فلم تقم فيه صلاة الجماعة لمدى أيام....
وشغل العالم الإسلامي بعد ذلك بقيام حركة التوابين في العراق الذين قادهم الندم على عدم نصرة الإمام الحسين الشهيد فلم يروا كفارة دون القتل في الثأر له ولصحبه، فهل يا ترى كانت سكينة تصم أذنيها عن هتاف التوابين لترغيم (ابن سريح) على الغناء في دارها مع عزة الميلاء وتفتنه عن توبته عن الغناء؟)!!!.
هذا رد الدكتورة بنت الشاطئ القاطع على كذب الزبير بن بكار وافتراء أبي الفرج وكل ما وضعاه من مفتريات عن السيدة الطاهرة سكينة، والأسماء التي ذكرتها الدكتورة في نهاية قولها الذي اقتطعناه قد دست في هذه الروايات لتدعيمها ولم نذكر هذه الروايات لأنها والله مما يسخط الله ورسوله، فلو افترى انسان على امرأة عادية كان ذلك مدعاة لغضب الله وملائكته ورسله عليه فكيف بابنة الرسالة وربيبة النبوة وهي التي لم يشغلها مقتل أبيها وأهل بيتها وما جرى عليهم من القتل وما جرى عليها وعلى عماتها وأخواتها من السبي عن الإلتزام بالحجاب والصيانة حيث روت جميع المقاتل والمصادر قولها وهي أسيرة في الشام لسهل بن سعد الساعدي لما رأت الناس يتطاولون في النظر إليها وإلى عماتها وأخواتها:
(قل لصاحب هذا الرأس أن يقدم الرأس أمامنا حتى يشتغل الناس بالنظر إليه ولا ينظروا إلى حرم رسول الله (ص)) ففعل سهل.
الله أكبر حتى في ذلك الموقف الرهيب الذي يفقد أشد الناس فيه إرادته وشعوره فإن هذه السيدة العظيمة بنت الزهراء وخديجة كانت على أروع صورة من العزة والشرف والعفة.
إن العجيب على من يدعي العلم والأدب ويعتمد على هذه الروايات المكذوبة المفترية فيبلغ به هوسه وعماه إلى أن يحولها إلى دراما يتفنن في توسيعها مما تجود له مخيلته الخرفة، وعقليته المريضة كما فعل زكي مبارك الذي يُطلق عليه لقب (دكتور) ـــــ وما أكثر الدكاترة العميان ــــ ولا نحب هنا سرد ما تخبط فيه من تزويق هذه الروايات في كتابه (حب ابن أبي ربيعة) وما دله عليه مجونه وولعه بالمفتريات ونكتفي برد الدكتورة بنت الشاطئ عليه في كتابها موسوعة آل النبي (ص934) الذي أفحمته فيه حيث تقول:
(ولا تسأله أين كان بنوا هاشم وأين الإمام زين العابدين، وعمر يرفع عقيرته بالغزل في سكينة وبيتها قد صار (مألفا للمغنين ملاذا للشعراء المخلصين لما خلقوا من عبادة الطرف الساحر والقد الرشيق ؟
فمثل الإمام زين العابدين من لا يغضب لأخته حتى غضب (ابن أبي عتيق) فيما نقل الدكتور لأبنة عمه زينب بنت موسى الجمحية لما تغزل فيها عمر على السماع...؟ ومثل بني هاشم وآل البيت من لا يغضبون لابنتهم كما غضب بنو تيم بن مرة وولد طلحة بن عبيد الله لأختهم عائشة وتوعدوا عمر إن تغزل بها أن يؤدبوه فأقسم بالله أن لا يذكرها بشعر أبداً؟
مثلهم من لا يغار على سكينة كما غار أبو الأسود الدؤلي على زوجته ؟ أو كما غار الحجاج بن يوسف الثقفي على فاطمة بنت عبد الملك ـــ وليست من ثقيف ـــ فكتب إلى عمر يتوعده بكل مكروه إن ذكرها في شعره ؟
أجل لا تسأل عن هذا فإنما يسأل من يحاسب قلمه وينقي الحق والضمير فيما يكتب ويحترم عقله وعقول الناس).
زادك الله رفعة أيتها السيدة الجليلة أجل لقد ترفعت أيتها الدكتورة الفاضلة عن محاسبة من مات ضميره وسخر قلمه للدس في بنات الرسول والإفتراء عليهن، ولدينا إضافة الى ما ذكرناه الكثير من الأدلة والعديد من الأقوال المعتبرة التي تنفي هذه الروايات ولكن وجدنا في ما ذكرناه كافياً وداحضاً للروايات الفاسدة والكاذبة التي تعرضت إلى السيدة الطاهرة سكينة بنت الحسين في هذا الموضوع.
ولم تكن الدكتورة بنت الشاطئ هي الوحيدة التي فندت هذا الخبر بالأدلة والقرائن والبراهين فقد فنده بما لا يدع مجالاً للشك فيه العلامة المحقق السيد عبد الرزاق المقرم، وأعقبه المحقق الاستاذ توفيق الفكيكي.


محمد طاهر الصفار