رافقت الأحزان والآلام حياة هذه السيدة العظيمة وغمرتها المآسي والمصائب منذ ولادتها وحتى وفاتها صابرة محتسبة في عام (61هـ) وهي السنة التي شهدت فيها فاجعة كربلاء، فواجهت كل تلك المحن والرزايا بنفس ملؤها الصبر واليقين، وجابهتها بروح الإيمان الخالصة المخلصة لله، فأدت مع أختها عقيلة الهاشميين وجبل الصبر السيدة زينب (عليها السلام) دورها العظيم في فضح السياسة الأموية وتحريض الرأي العام ضدها وهي تفرغ عن لسان أبيها سيد البلغاء والمتكلمين أمير المؤمنين (عليه السلام) بروح استمدت منه العزيمة والبطولة ولم يثنها بطش الدولة الأموية من قول كلمة الحق وإبطال الباطل فلاحقت سيرتها العظيمة أيدي المزورين والكذابين ليضعوا رواية زواجها من عمر بن الخطاب!!

ورواية زواجها من عمر موضوعة بلا شك، فكل الدلائل التاريخية والعقلية تشير إلى ذلك، وأول دليل على كونها موضوعة هو أن أول من قال بها كان من المتأخرين جداً عن تلك الفترة ـــ أي الفترة التي عاشت فيها السيدة أم كلثوم وعمر ـــــ ولم يروِها أحد قبله من الذين عايشوا هذه الفترة ولا الفترة التي بعدها، ثم إن الراوي كان من الوضّاعين الكذابين كما أشارت إلى ذلك كل المصادر التاريخية، كما كان متهماً في عقيدته ودينه.

فراوي هذه الرواية أو بالأحرى واضعها هو: (الزبير بن بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير بن العوام) الذي لا يختلف اثنان من المؤرخين وغيرهم على كذبه وتدليسه، ووضعه للحديث والرواية، كما لا يختلف اثنان على أنه كان من أشد الناس عداوة لأهل البيت ـــــ ومتى أحب شخص من آل الزبير أهل البيت ـــــ؟!!

والروايات التي ذكرها المؤرخون حول كذبه ووضعه للحديث كثيرة جداً حتى عدّه الحافظ (أحمد بن علي السليماني) من زمرة من يضعون الحديث في كتابه (الضعفاء)، وليس أدل على هذا الكتاب من اسمه حيث ذكر في ترجمة الزبير بن بكار مجموعة كبيرة من أقوال المؤرخين في كذبه وتدليسه، كما وصفه السليماني بأنه ــــ أي الزبير بن بكار ــــــ (منكر الحديث).

ولم تقتصر حياة هذا الكذّاب على الكذب فقط، بل كان من الذين يبيعون دينهم بدنياهم ـــــ إن كان لهم دين أصلاً ــــ، وممن يتسترون بالدين للحصول على مآربهم فقد كان مرتزقاً بالحديث، ومن وعّاظ السلاطين كما جاء في ترجمته في كتاب (معجم الأدباء) لياقوت الحموي ما نصه: (كان ـــ أي الزبير بن بكار ــــ قد صنّف كتاباً سمّاه بـ (الموفّقيات) نسبة إلى الموفق طلحة بن المتوكل ولي العهد وفيه ما يناقض مذهبه ويخالف عقيدته الزبيرية). هذا كلام الحموي في ابن بكار، فلا نستبعد من هذا الذي يبيع عقيدته ودينه من أجل المال أن يضع ما شاء من الأحاديث.

لكن الغريب أن تجد من يدون مفتريات هذا الكذاب ويتناول رواياته الموضوعة ومنها هذه التي نحن الآن بصدد الحديث عنها دون تمحيص، ولا إسناد صحيح.

ومن أكبر الأدلة التي تنفي رواية زواج السيدة أم كلثوم من عمر هي الطريقة التي رسمها واضعها لهذا الزواج الوهمي، والتي لا يرتضيها أي إنسان غيور فضلاً عن أمير المؤمنين (عليه السلام)... وعلى من؟ على ابنته السيدة الفاضلة أم كلثوم (عليها السلام).

إن الحقيقة مهما طال إخفاؤها ومهما تلاعبت بها اليد الآثمة فإنها ستظهر وتسطع كالشمس. فهذه الرواية المكذوبة تنفي نفسها بنفسها وتفند هذا الزواج من خلال الطريقة التي وضعها الزبير بن بكار الكذّاب، ونسبها إلى أقدس شخص بعد رسول الله وهو أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) وإلى ابنته السيدة الجليلة أم كلثوم (عليها السلام).

لقد وضع هذا الكذّاب في سرد هذه الرواية طريقة تتماهى مع نفسه الدنيئة وأخلاقه الوضيعة، والله إن الإنسان الشريف ليستحي من ذكر تفاصيل هذه الرواية، ويلزم نفسه بعدم ذكرها ولكن لاطلاع القارئ على النفسية الخبيثة التي حملها ابن بكار، واستلزاماً بإعطاء الموضوع الصورة الواضحة على زيف هذا الزواج، سوف أذكرها نصاً كما ذكرتها المصادر وهي موجودة في الاستيعاب (2/773)، والإصابة (4/469)، وأسد الغابة (5/615)، في ترجمة السيدة أم كلثوم (عليها السلام).

تقول هذه الرواية: (خطبها ــــ أي أم كلثوم ــــ عمر بن الخطاب إلى علي بن أبي طالب فقال: إنها صغيرة، فقال له: زوجنيها يا أبا الحسن فإني أرصد من كرامتها ما لا يرصده أحد، فقال له علي: أنا أبعثها إليك فإن رضيتها فقد زوجتكها، فبعثها إليه ببرد، وقال لها قولي له: هذا البرد الذي قلت لك، فقالت ذلك لعمر، فقال: قولي له: قد رضيت، ووضع يده على ساقها فكشفها، فقالت: أتفعل هذا؟! لولا إنك أمير المؤمنين لكسرت أنفك، ثم خرجت حتى جاءت أباها فأخبرته الخبر وقالت: بعثتني إلى شيخ سوء فقال: يا بنية إنه زوجك)!!!!!

والحكم يُترك للقارئ الكريم للتعليق على هذه الرواية، كما يُترك الخيار له كي يسأل نفسه: هل يرتضي هو أو أي إنسان آخر أن يزوج كريمته بهذه الطريقة؟!!!

ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد فقد تخبّط المؤرخون في ظلام الجهل وعموا وصمّوا في تخبّطهم إلى الحد الذي زوّجوا أم كلثوم من الأموات!! أجل زوّجوها من الأموات في قبورهم فنرى ذلك في كلامهم كما في الطبقات الكبرى (8/463)، والبداية والنهاية (5/309) ما نصه: (تزوجها ــــ أي أم كلثوم ــــ عمر بن الخطاب وهي جارية لم تبلغ، فلم تزل عنده إلى أن قتل، وولدت له زيد بن عمر ورقية بنت عمر، ثم خلف على أم كلثوم بعد عمر عون بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، فتوفي عنها، ثم خلف عليها أخوه محمد بن جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب، فتوفي عنها، فخلف عليها أخوه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب بعد أختها زينب بنت علي بن أبي طالب، فقالت أم كلثوم: إني لأستحي من أسماء بنت عميس أن أبنيها ماتا عندي وإني لأتخوف على هذا الثالث، فهلكت عنده ولم تلد لأحد منهم شيئا)!!!!!

إن هذه الرواية لتضحك الثكلى، وتنسيها نفسها ومصيبتها، ولو كان هناك من يحقق تواريخ هؤلاء المؤرخين في زمنهم لأشار عليهم بوضع فصل خاص في تواريخهم اسمه: (زواج الأموات من الأحياء)!!!

إذ أنهم لما لم يستطيعوا أن ينكروا زواج أم كلثوم من ابن عمها عون بن جعفر وهو زوجها الوحيد، وإن رواية زواجها الموضوعة من عمر تتصادم مع هذه الحقيقة، ماذا فعلوا؟ أوقعوا أنفسهم في مأزق من حيث لا يشعرون، فقد جعلوا عوناً زوجاً ثانياً للسيدة أم كلثوم!! فروَوا أنه تزوجها بعد مقتل عمر، وهم أنفسهم وغيرهم وكل المصادر التي ترجمت لعون أشارت إلى أن عون بن جعفر استشهد في يوم (تُستر) سنة (17هـ) في خلافة عمر. وعمر قتل سنة (23هـ) أي بعد استشهاد عون بسبع سنين فكيف يتزوج عون منها بعد عمر؟ هل بُعث من قبره؟ أم تزوجها في قبره؟ لا أدري؟.

وبلغ ولع المؤرخين وهوسهم بالموضوعات والخرافات أن جعلوا لأم كلثوم زوجاً ثالثاً وهو محمد بن جعفر الذي استشهد مع أخيه عون في نفس اليوم (تستر). والطامة الكبرى التي جاء بها هؤلاء أنهم جعلوا لها إبناً وبنتاً من عمر سموهما زيد ورقية!!

ولكي يتفادوا الحديث عن هذين الوليدين الذين هما من نسج الخيال وعن سيرتهما وممن تزوجا؟ وكيف ماتا؟ فماذا فعلوا؟

لقد أعدوا لكل ذلك طريقة على نهج الزبير بن بكار راويتهم الساحر الديدبان، لقد أماتوا زيداً هذا وهو بعمر ست سنوات مع أمه!!! أقول أماتوه لأنه لم يكن موجوداً أصلاً، أما رقية فقد ضاع أثرها، وهي لو كانت حقيقة كما يدعون وليست شخصية خرافية فإنها لن تكون شخصية مغمورة يتغاضى عنها التاريخ الذي رصد حركات وسكنات من هي أقل شأناً منها فهي ستكون ابنة خليفة وحفيدة خليفة ومن بنات النبي والزهراء.

فهل مثل هذه الشخصية لو كانت حقيقية تُخفى على المؤرخين؟ وهل كان سيخفى عليهم ممن تزوجت؟ وكم أنجبت من أحفاد لعمر؟ ومتى توفيت؟ وكيف؟ وأين قبرها؟ كما نرى الآن قبور سيدات بيت النبوة في الشام ومصر.

ثم هناك مغالطة أخرى وقع فيها المؤرخون وما أكثر مغالطاتهم حيث ذكروا في رواية موت أم كلثوم وابنها انه صلى عليهما عبد الله بن عمر وخلفه الحسن والحسين ومحمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر وكبر عليهما ثلاثا!!!

وهذه المغالطات كلها تكشف نفسها أمام الواقع التاريخي فإن أم كلثوم كانت حاضرة يوم كربلاء وقد مضى على وفاة أخيها الحسن (عليه السلام) أكثر من عشر سنين وشهدت مقتل أخيها الحسين (عليه السلام) وذكرت كل المصادر التاريخية حضورها في الكوفة والشام مع السبايا من آل محمد، وماتت بعد رجوعها من الشام، فكيف يصلّي الأموات عليها؟ إذن فهناك اقتراح ثانٍ على المؤرخين، وهو وضع فصل خاص باسم (صلاة الأموات على الأحياء).

ثم هناك مغالطة أخرى، وهي كيف يرضى عبد الله بن عمر لنفسه صلاة يؤم بها الحسن والحسين وهما ابنا رسول الله، وسيدا شباب أهل الجنة؟ نترك الجواب للمؤرخين الذي أساؤوا إلى كل الشخصيات التي أدخلوها في هذه الرواية المكذوبة لعن الله واضعها.

 

محمد طاهر الصفار