لقد تحدث القرآن في الكثير من آياته عن شخصيات نسوية ، تحدث عن  بعضهنّ بتفصيل ، والبعض الآخر بإيجاز ، واشار إلى  بعضهن مجرد إشارة ، ومن الشخصيات النسوية التي ذكرت في القرآن هي السيدة سارة زوجة نبي الله إبراهيم عليه السلام  .

لقد خلّدت الآيات القرآنية السيدة سارة عليها السلام ، كما ذكرتها الروايات وكتب التأريخ ، ووصفت جمالها ، وحكمتها ، ورجاحة عقلها ،  وفصّلت في قصة زواجها من ابن خالتها النبي إبراهيم عليه السلام ، وجهادها معه وهو يقارع طواغيت عصره ، ويحارب لإرساء قاعدة التوحيد ، ثم رحلتها معه إلى مصر ثم إلى فلسطين ، وسوف ننطلق من الآيات القرآنية الكريمة في الوقوف على بعض أحوالها وذلك في قوله تعالى  (( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ * قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ * قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )) ( هود ـ 71 ـ 73 ) .

الملائكة في ضيافة النبي إبراهيم عليه السلام وزوجته ...

تبدأ القصة من قوله تعالى : (( لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ )) (هود ـ 69) ، حيث يصور لنا مشهد مجيء الملائكة إلى بيت النبي إبراهيم عليه السلام في مأمورية إلهية وهي إنزال العذاب بقوم لوط ، ولكن النبي لم يدرك في بداية الأمر أنهم ملائكة ، وأسرع للقيام بواجب الضيافة  ، حيث تبين الآية سرعة انجازه للعمل بتعبير (( فَمَا لَبِثَ )) ، لقد هيأ لهم عجلا مشويا على الصخور المحماة بالنار ، يقطر منه السمن كما يفسر اللغويون كلمة ( حنيذ ) ، ويستفاد من هذه الجملة إنّ من آداب الضيافة أن يعجل للضيف بالطعام، خاصّة إِذا كان الضيف مسافراً، فإنّه غالباً ما يكون متعباً وجائعاً ، فينبغي أن يقدم له الطعام عاجلا ليخلد إِلى الراحة.

لكن إبراهيم عليه السلام لاحظ أن أيدي ضيوفه لا تمتدُّ إلى طعامه ، قال تعالى : (( فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ )) ( هود ـ 70 ) .

عدم أكل الضيوف دليل على العداوة وإضمار الشر ، وهذا من السنن والعادات القديمة التي لا تزال قائمة بين كثير من الناس ؛ ومن هذا المنطلق شك إِبراهيم في نيّاتهم ، وأساء الظن بهم، واحتمل أنّهم يريدون به سوءاً، وقد قيل على سبيل المثل في لغة العرب : ( من لم يأكل طعامك لم يحفظ ذمامك ) ، عندما اطّلع الرسل على ما في نفس إِبراهيم عليه السلام ، بادروا لتبديد مخاوفه :  (( قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ )) ( هود ـ 70 ) ،  شعور إبراهيم عليه السلام بالخوف لا ينافي كونه نبيا معصوما من المعصية ، والرذائل الخلقية ؛ لأن حقيقة الخوف هو تأثر النفس عند مشاهدة أمر مخيف فيدفعها ذلك إلى الحذر والتحرك لدفع الخطر وهذا لا يعتبر رذيلة ؛ بل الرذيلة هو الجبن والهلع الذي يصيب النفس فيجعلها مستسلمة للأخطار والمخاوف ؛ فتأريخ النبي إبراهيم عليه السلام يشهد له بالشجاعة والوقوف في مواجهة طواغيت عصرة بلا خوف أو تردد .

سارة في محضر الملائكة ...

وفي هذه الإثناء  كانت السيدة سارة عليها السلام واقفة هناك فضحكت كما تقول الآية : (( وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ )) ، هذا الضحك من سارة يحتمل أن يكون لأنّها كانت مستاءةً من قوم لوط وأفعالهم  ؛ فهي زوجة نبي صاحب رسالة ودعوة ، ولذا فإن هلاك المفسدين يعني لها الكثير فهو يسعدها حد الضحك فرحا وسرورا  ، أو إنّ ضحكها كان نتيجة لتعجبها لامتناع الضيوف عن الأكل ، وهو دليل الشر والعداوة كما ذكرنا ، فلما عرفت أنهم ملائكة مكرمون نزلوا بيتهم ، وأن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سُرَّت فضحكت .

هل لجملة (( ضحكت )) تفسير آخر ؟

بعض المفسّرين يصرون على أنّ (ضحكت) بمعنى (حاضت ) ، وقالوا: إنّ سارة عليها السلام بعد أن بلغت سنّ اليأس ، بل وبلغت التسعين من عمرها كما تقول الروايات حاضت في هذه اللحظة ، مما يدل على إمكان إِنجاب الولد مستوفيا كامل الشروط الطبيعية للإنجاب .

هؤلاء المفسّرون استندوا في قولهم إِلى لغة العرب ، حيث قالوا : ضحكت الأرنب، أي حاضت ولكن هذا الاحتمال مستبعد من جهات مختلفة :

  1. لأنّه لم يسمع أنّ هذه الكلمة استعملت في الإِنسان بمعنى الحيض في اللغة العربية ، ولهذا فإنّ الراغب حين يذكر هذا المعنى في مفرداته يقول بصراحة : إِنّ هذا ليس تفسير جملة ( فضحكت ) كما تصوّره بعض المفسّرين ، بل معناها هو الضحك المألوف، ولكنّها حاضت وهي في حال الضحك أيضاً ، ولذلك وقع الخلط بينهما .
  2. إِذا كانت هذه الجملة بمعنى حصول العادة النسائية فلا ينبغي لسارة أن تتعجب من البشرى بالولد  حيث تقول الجملة التالية : ((فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ )) ؛ لأنّ الإِنجاب في هذه الحالة لا يعتبر أمرا غريبا  فالملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق وإسحاق سيولد له يعقوب .

وهي لم تتعجب من الإِنجاب فحسب ، بل صرخت وقالت (( يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ )) .

كلمة ( ويل ) تعني كل أمر قبيح أو سيء يوجب التحسر من مصيبة ، أو فضيحة ، ودخول ياء النداء على الكلمة  كناية عن حضوره و حلوله ، وكأن السيدة سارة أخذت تنادي بالويل لأمر انجابها وهي بهذه السن ، وما ستجلبه عليها نظرة الآخرين من شعور بالخجل ، وفي مورد قرآني آخر : (( فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ في صَرَّة فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالِتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ )) ( الذاريات ـ 29 ) .

والصرّة تعني الصوت العالي الشديد ، أمّا ( صكّت ) فمعناها الضرب الشديد ، والمراد هنا هو أنّ السيدة سارة حين سمعت بالبشرى ضربت بيدها على وجهها ـ كعادة سائر النساء ـ تعجّباً وحياءً ؛ لأن المجتمع لا يألف حدث المعجزة بسهولة ، وربما ستحاط بالكثير من السخرية المريرة  .

وعلى كل حال فإنّ رسل الله أزالوا التعجب عنها ، وذكّروها بنعم الله عليها وعلى أسرتها ونجاتهم من الحوادث الجمة : (( قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ )).

ذلك الربّ الذي نجّى إِبراهيم من مخالب نمرود الظالم ، ولم يصبه سوء وهو في قلب النار ، وأَلْهَمَهُ القدرة والاستقامة والبصيرة ، رحمة الله لم تكن خاصّة بذلك اليوم فحسب ، بل هي مستمرة في أهل هذا البيت ، وأي بركة أعظم من وجود رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة الطاهرين عليهم السلام في هذه الأُسرة وفي هذا البيت بالذات .

وقال ملائكة الله لمزيد التأكيد على بشارتهم وكلامهم في شأن الله : (( إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ )) ، أنّ كلمة (حميد) تعني من له أعمال ممدوحة تستوجب الثناء والحمد ، وقد جاء صفة لله ليشير إلى نعمه الكثيرة على عباده ليُحمد عليها ، وأمّا كلمة (مجيد) فتطلق على من يهب النعم حتى قبل استحقاقها .

المرأة في محضر الملائكة ...

مما تقدم نستنتج أمرا مهما وهو وجود سارة في محضر الملائكة قريبا من زوجها تسمع وترى ما يدور ، وكما تكلمت الملائكة مع الخليل إبراهيم عليه السلام وبشرته بالذرية ، كذلك تكلّمت مع السيدة سارة وبشرتها البشارة نفسها ، بل وحتى ردة فعل إبراهيم عليه السلام على تلك البشارة  يشبه ردة فعلها ؛ قال إبراهيم للملائكة عندما بشروه بغلام حليم (( أبشرتُموني علَى أنْ مَسَنيَ الكِبَرُ فبِمَ تبشِرون )) ( الحجر ـ 54 )، فردّت عليه الملائكة : (( بَشَّرناكَ بالحقِّ فلا تكُن منَ القانطين )) ( الحجر ـ 55 ) ، وسارة قالت عندما تلّقت البشارة : (( يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ ))  فردَت عليها الملائكة : ((  قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ )) .

يتّضح من هذا عظمة المرأة في قاموس الوحي كانت موجودة قبل نزول القرآن الكريم ، فالتكلم مع الملائكة وسماع كلامهم وتلقي بشارتهم كلها حالات اشتركت فيها المرأة مع الرجل .

إن سورتي هود الذاريات اللتان وردت فيهما قصة السيدة سارة تعرضان لنا صورة امرأة تقف إلى جوار زوجها عندما يقوم بواجبه تجاه ضيوفه كسيدة لائقة بزوجيّتها لنبي عظيم وصفته الروايات بأنه أول من قام بواجب الضيافة ، هذه الصورة يؤكدها قوله تعالى : (( فراغَ إلى أهلِهِ فجاءَ بعجلٍ سَمين )) ( الذاريات ـ 26 ) ، ويكفيها فخرا إن الملائكة نزلت في دارها وهم في طريقهم لمهمة إلهية عظيمة وهي إزهاق الباطل وإحقاق الحق ، وإن الملائكة منحوها وقتا ، وبشروها بالولد والحفيد  جزاء صبرها على الحرمان ، فنالت شرف الأمومة لنبي كريم كما نالت شرف الزواج من نبي عظيم ، فسلام على سارة زوجة خليل الله إبراهيم والتي اصطفاها الله كما اصطفاه حيث يقول تعالى : (( إنَّ اللهَ اصطفى آدمَ ونوحاً وآلَ إبراهيمَ وآلَ عِمرانَ على العامين )) ( آل عمران ـ 33  ) .

  

المصادر :

  1. القرآن الكريم
  2. تفسير الميزان / السيد الطباطبائي .
  3. تفسير الامثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي .
  4. جمال المرأة وجلالها / الشيخ جوادي آملي .
  5. خالدات في كتاب الله / ولاء إبراهيم محمود .

 خديجة أحمد موسى