قصة الشهيد السعيد (حيدر راضي جساب)

تطايرت الأنباء في  الآفاق مشحونة بشجي غير معهود صدح بضرورة التأهب وحمل السلاح لمقارعة جلاوزة حاولوا وضع حافة الانهيار.. كادت تمحى عراقتهُ ويُتجاوز على مقدساته.. وقد  بلغ  الصمت والحلم مداه وظهر أمر الله ..

ما استغرق حيدر إلا لحظات ليقرر.. كانت المرة الاولى التي لم يشر أحداً في اتخاذ قراره اذ كان دوماً ممن قال فيهم أمير البلغاء (عليه السلام) ما ضلّ من استشار..

 

وثب  سمعاً وطاعة محكما قبضته على  اذاقة عدوه  المرارة والندم، إذ  قدم  تحيته  العسكرية  لضريح سيد  الشهداء وأخيه  أبي الفضل  العباس (عليه السلام)وارتجل .

تجمع مع وجوه يألفها قلبه... مشابهة  لرؤيته وعقيدته وكأنه التقى بهم من ذي قبل.. بلا شك كان لقاؤهم في عالم الذر قبل ان تبصر عيونهم النور..

اجتمعوا في معسكر التدريب، ليزيدوا من خبرتهم العسكرية ويتعلموا فنون القتال والمواجهة..

صوب نظره مبتسما نحو والده الذي  لمحت  في  عينيه القوة والصلابة  وحلمٌ عز عليه أن يتوانى عنه، أدرك والده بكل كـــيانه ان الله اختاره على علم بما في الــصدور.. اختاره لـــيرسل ابناءه الأربعة جميعــهم الى ساحــة الفداء ..

في  حين  تطلعت والدة  حيدر لوجه نورعينيها، في صالة  المنزل  وعيناها غارقتان بالدمع وبدا على ملامح  وجهها  مقاومة عنيفة وصراع محتدم  وما بيدها حيلة...

كان الخيار صعباً أن تغالب أمومتها وعاطفتها الجامحة للدفاع عن بلده المقدس ....

بعد عمليات  التحرير المكثفة مع الجيش العراقي في مدينة الأنبار في  بداية  التشكيل للحشد  الشعبي وظهور بصمة واضحة لقوة العقيدة ...

أصبحت الأوضاع أكثر خطورة وقلقاً... تكالبت دول الجوار في دعم الارهاب لجعل العراق في مصافِ اللاوجود..

تكـاتــل شياطــنة  الــغدر من  كــل  صــوب حــتى اصبحت الانبار بقبضة الارهاب..

تحتم النهوض بكافة القوى الجهادية ضمن رسم استراتيجي مدروس للغارات العسكرية... اختنقت أجواء العراق خاصة حدود كربلاء لقربها من حدود المدينة المحتلة.. نبحت الأفواه الشيطانية مهددة ومتوعدة بسقوط مدينة الكرامة... اصطفت الحشود الذائبة في حب سيد الاحرار من شمال العراق وجنوبه ووسطه مجندة.. دبت الأرض من وقع أقدامهم، وعادت تنبض بالأمل من جديد وها هو يوم ليتنا كنا معكم فنفوز فوزا عظيما...

ارتفعت معنويات حيدر وباتت من المستحيل رجعته وتوانيه عما سلكه من طريق لا يتقدم نحوه إلا من كان ذا قلبٍ سليم..

أطلت ايام محرم الحرام محملة بأسى واقعة الطف الاليمة.. تنثر عبير التضحية والإباء والجهاد على القلوب المفجوعة بريحانة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) الحسين (عليه السلام) فتزيدهم صلابة.. شجاعة.. فداء.. إباء..

أنهى خدمته مع خدام الحسين (عليه السلام) في موكب طرف باب السلالمة وودع تلك الخدمة الحسينية..

لطالما تجاوز نائبات عمره بما استمده منها من دروسٍ وعبر... أضحت قوة العقيدة جلية الظهور نصب عينيه شحذت ايمانه وقراره الثابت اما النصر أو الشهادة..

 في تلك الاجازة...

جابت زوايا المنزل حائرة والــجرح ينزف من عينيها والحزن يلتهم توسلاتها ... تنظر لعمها(والد حيدر) لا أمل..

وتارة تركع عند عمتها تقبل يديها عسى أن تجد مفتاح قضاء حاجتها، داهمها الاضطراب بغتة وما عاد للتأني محطة..

أخذت تحاصره بخيارات تضع حياته على المحك تخويفا له... عسى أن يرأف بها فأخبرته لن تسمح له بالذهاب مادامت الرمادي بهذه الخطورة..

تقاوم وتتكور في فكرة أن تسير وحدها في هذه الحياة وهي التي ما فارقت يديه منذ ان ارتبطت به ...

حيدر النور والسبيل الذي أمدها طوال حياتها بالصلابة والصبر واعطاها معنى الحياة في رضا الله..

وكعادته ما تركها مكسورة الخاطر وأخذ دور الأب والمعلم يعظ ابناءه في ليكملوا ما سلكه من طريق للدفاع والحفاظ على المذهب والعقيدة..

قرر الخروج بصحبة عائلته..

قادتهم اقدامهم الى بقعة من بقاع الجنة..

أخذ حيدر بيد زوجته واقفا أمامها ماسكاً يدي طفليه (حوراء وكرار) في روحانية الاجواء بين حرم الامام الحسين وأخيه حامل اللواء (عليهما السلام) طوقها بنظرة اطمئنان ورضا قائلاً لها:

- انظري هذا سيدي أبو الــفضل وهــناك مــولاي ابو عــبد الله ،ماذا أكــون أنا؟ اذا لم أخرج أنا وذاك فمن سيحمي مقدساتنا؟ تأملي تلك القبب الذهبية والمنائر الشامخة ماكان حالها لو تخاذلنا في حمايتها؟..

وراح يروي لها ويذكرها بتضحيات السيدة زينب(عليها السلام) هدأ من روعها وخمدت ثورة عقلها المضطرب بالخوف...

وعادت الى دارها بروحٍ مرتوية من طبع فــكاهته وحيــويته الشبابية المرحة ..

أقبل الصباح بدفء رحمة الله ولطفه في حين أن الجو متخم بالتخوف الا ان القلوب مطلة على درب التضحية بكل إصرار وثبات... خرج حيدر على عجل.. مودعا أهله وموصيا زوجته أمانة قلدها إياها لثقته بها ...

تربية حوراء و كرار على خير ما يوصي به أهل البيت(عليهم السلام) وان لا تترك والديه...

أخذته امه إلى أحضانها وهي تختنق بعبراتها حال سماعها وصيته ان «لا تبكي ولا تصرخ حين يستشهد»..

في حين احتضن والده بقوة.. رأى عينيه اللتين أجهدتهما صعاب الحياة ومر السنين تفيض أملاً به ان يرفع رأسه عالياً بجهاده وثباته.. مفتخراً بجهاد ولده المتواضع.. تلاه رد في قرارة نفسه بان على ملامح وجهه:

- لطالما افتخرت بك يا ولدي حــيدر، اذهب وبيض وجــهي عــند الــزهــراء (عليها السلام)..

التاسع من نسيان لعام (2015م) نجحت العمليات العسكرية للمقاتلين الغيارى تقدموا في اجتاح اطراف الرمادي وشهدت المنطقة اشتباكات عنيفة بالتعاون مع الفرقة السابعة للجيش...

انكسرت صفوف داعش التكفيرية وأضحت تتصدع وتنهار معنويا على الرغم من الدعم العسكري الكبير لها وفقدت السيطرة على أراضٍ بسطت سيطرتها عليها، وأصبح في كل زاوية منها فرحة تهب كنسيم بارد ..

بين مداواة الجرحى والقتال تناوب حيدر في مهماته وارتقى سطح دبابة يرمي بسلاحه على فلول هاربة ...

ما توقفت دبابته عن التقدم والصرخات تعلو نادبة لوجه الله لحظات ما عاد بوسعها التنفس بعد ان وصلت النار لصندوق الكاز وانفجر بما فيه تحت عبوات ناسفة زرعت ككيد ابليس.. وتحقق هدف حيدر بالشهادة.. مضت الايام ثقال بعــد استشهاده.. كــل شيء في زوايا المنزل يــذكر احبته به.. ترنّ في اسماعهم صوت ضحكاته.. ترتيلة صلاته.. مناجاته..

حوراء وكرار ما زالا يتفحصان الوجوه أملاً في لقياه أحاطتهما بحنانها وهي تروي للغرباء ممن جاءوا لتعزيتها شدة شوقها لبطلها..

كتمت حزنها وألمها واختارت ان تزور قبره.. تحدثهُ بشوقها له وسؤال أطفاله عنه.. تعاتبه لانه تركهم ورحل..

ماظنت انه سيتأذى بكلامها هذا حتى جاءها في المنام معاتبا:ً..

- تعبت يا عزيزتي، لم كل هذا العتاب؟ انا أتأذى كل يوم لا تفعلي هكذا، ظني بك جميل.

استيقظت صباح يوم لزيارته مع اولادها واقفة على أطلال قبره والخجل يحيط نظراتها وأخبرته بالحقيقة..

اخبرته انها ما عادت تلومه وتعاتبه وانها سارت على دربه، ووالداه وطفلاه بأمانتها فليكن معها ..

تأملت صورته طويلاً وأحيت ذكرى تلك الصورة حين كانوا بين الحرمين الشريفين حيث أخبرها بيقين انه سيكون شهيداً قائلاً لها:

- لنلتقط صورة ونؤطرها، لتكون لك ذكرى فاني .. سأستشهد. 

 

ايناس حسن