قصة الشهيد السعيد (صالح مهدي مدلول)

تمرّ عليه أيام العمل بكنزٍ لا يفنى من القناعة، ليجني منها مالاً حلالاً طيّباً بعد ان تمضي ساعات يومه بترتيب لَبِنات الدور السكنيّة..

حتى نودي في الذين آمنوا بفتوى القتال لتُشفى صدور قومٍ مؤمنين.. بالجهاد، ويَسْوَدّ وجه العدو و يولي مدبراً وهو كظيم..

«صالح» مع عمه وأبناء عمه لطالما قضوا أيامهم في بناء الدور السكنية.. والآن حان الوقت ليعيدوا بناء وطنٍ حاول الإرهاب المساس به وتهديم تماسكه الذي ما فتئ يقوى كلما اشتد البلاء..

دوّى صوت الفتوى في أسماع صالح، ومعه دوى واعِزُ نفسه يقول:

- عليّ الذهاب كي لا تتهدم لَبِنات الوطن، والدين!

فتدرّعَ بدرع الله الحصينة.. الجهاد..

عاقداً نيّته عليه، لينفر مع العم وأولاده خِفافاً لأرض القتال في سبيل الله..

و تتعاقب أيام الله..

هم لوحدهم - أولئك المجاهدون - يشعرون بحلاوة تلك الأيام ..

أما نحن فكانت أيامنا بجهادهم وتضحياتهم، أياماً نُزق فيها العز زقاً.. بانتصاراتهم.. تضحياتهم، بسالتهم..

مع تعاقب الأيام نمتْ مُنيَة الشهادة في قلب صالح.. إنه يطمع بحلّة الإيمان هذه ويُعد العدّة لها وكأنها شاخصة أمامه يُبادلها نظرات الشوق ويشير لها قائلاً أن انتظريني، فأنا قادم!

لم يعدّ نفسه لها فحسب..

بل انه كان يستثمر أيام إجازته وعودته الى داره لتهيئة بعض الأمور في الدار.. وإعداد عائلته لتلقي خبر استشهاده على حين من الزمن المبارك..

كانت إحدى المساءات التي مازالت عالقة في أذهان أطفاله وزوجته..  نهض ليُصلح بعض التوصيلات الكهربائية في داره، وأنجز عدة أعمال أخرى، لاحظته زوجته وكأنه يستعد لضيف كريم خاطبتهُ قائلة :

- ما الخطب يا ( أبا محمد )؟! أراك منهمكاً في العمل!

- أُهيئ المنزل وما فيه من احتياجات.

- ولِمَ في هذا الوقت، واليوم؟

- سننطلق غداً صباحاً الى ( تكريت )، ولا أريد أن تحتاجوا أحداً بعدي.

كان يريد ان يهبهم حياةً كريمة، ويريد من الكرامة أن تهبهُ شهادة...

أكمَلَ ما في يديه و أوصى زوجته قائلاً:

- أوصيكِ خيراً بزينة الحياة الدنيا، أولادي،.. أعدكِ إنكم ستكونون معززين من بعدي وستفخرون بي...

التفت الى أولاده وأوصاهم بأمّهم خيراً، عبأهم من جديد حين أخذهم بين اذرعه التي تحكي لهم الصمود، ضخ في أوردتهم القوة والشجاعة.. والتحق مجدداً الى حيث تتجسد القوة والشجاعة..

شهران تصرما ولم يعد صالح الى عائلته..

كان واجبه في حماية مرقد العسكريين ، والاستعداد لتحرير منطقة «سيد غريب»..

بلغ الشوق التراقي بعائلته..

وفي ليلةٍ باردة من ليالي مدينة «الكوفة»، لم تعد الشوارع تكتظ بالبشر كالمعتاد، إذ كان اغلب أهلها يلوذ بالمدفئة في ناحية من البيت، ولاذت عائلة صالح أجمعهم بالشوق و الحنين، أحدهم يسأل الآخر علّه يجد عنده الجواب، ما حال أبينا في هذا البرد القارس..

حتى طُرقت الباب قبل ان يهمّ أحدهم لفتحها.. 

سمع الأطفال صوت مفتاح الباب لتتعالى أصواتهم..

- إنه أبي...

تحلقوا حوله أحاطوه بأذرعهم كما أحاطهم، هذه اللحظة فقط شعروا بالدفء الحقيقي، فحرارة أحضان الأب تضاهي ما تصلهم من حرارةِ مدفأة تكاد تنطفئ حرارتها لقلة وقودها..

جلسوا في بيتهم الطينيّ، كانت ساعات مما نعدّ، ودقائق في حسابهم..

ما لبث إلا قليلاً وما زال الشوق كثيراً حتى حلّ الفجر.. وعند الرابعة منه طفِق لأطفاله يُشبعهم قُبلاً وهم نائمون.. أدار بوجهه نحو زوجته ليخبرها بعزمه:

- إن لم أعد فكوني محلّي.

استوقفتها الوصية،  ليس عجبا، بل كانت و كأنّها تقرأ فيها نبوءة الرحيل المخبأ، تنفست بعمق ثم وهبته جرعة ثبات قائلة:

- حفظك الله، اعتمد عليّ كما اعتمد الحسين (عليه السلام) على زينب.

وعاد من حيث أتى..

هي ساعات معدودة عاد فيها الى داره بعد غياب طال عن الشهرين..

مرّت الأيّام و ما من شيء يُعرف عنه، كانت لكل رنة لجهاز الموبايل قلوب تخرج من محالّها..

وفي إحدى سكنات القلق رنّ الهاتف..

هرعت الزوجة، فلعلّه صالح ..

كان المتصل، زوجة - عمه المجاهد - كانت هي الاخرى قلقة عليهم :

- هل من جديد عنهم؟

- كلا، وقد بلغت قلوبنا الحناجر.

عاد سكون القلق ليُكسر باتصال آخر، كان المتصل «صالح»:

سابقت خفقات قلبها يدها التي امتدت بسرعة غير معتادة لفتح الخط، و كأنها تسابق اللحظات.

- ألو.. صالح..

لم تسمع له صوتاً..

أعادت النداء ثانيةً مستعلمة و قد أوجس قلبها خيفة استشعرت أنفاساً خبيثة.. شعرت ان زوجها في خطر.. دوت في أسماعها قهقهات تشمئز منها النفوس وتبعها قول أحدهم..

- فليأتِ أحدكم ويجمع رماد جثته المحروقة..

للوهلة الأولى لم تستوعب جيداً ما سمعته..

لم تعِ بعدْ معاني الألفاظ التي قيلت وكأن نبض قلبها أعلن توقفه..

أفاقت من صدمتها بسماعها لتلك الأصوات الشيطانية المتعالية من خلف الهاتف ليغلق بعدها تماماً وينقطع الاتصال..

لم تكن عيناها تلمحان أحداً أمامها.. ولم تصل استفهامات أطفالها الى إذنها

لم تشعر بشيء إلا ازدحام الكثير من الصور في مخيلتها :

- صالح!، ماذا فعلوا بك؟..  قتلوك؟ أفعلاً أحرقوك؟! ياه، يا لبشاعة الحقد بمجرد انه يستولي على النفوس يحولها الى لا شعور..

كان وقع الخبر شديداً عليها.. إلا ان إيمانها أشدّ منه.. سرعان ما استعادت وعيها لتجمع أطفالها حولها.. تكفكف دموعهم وتردد في قلبها :

- لله درك كم ترعبهم حتى يجهدوا في إعفاء بدنك.. وزيادةً في الوقاحة يُخاطبني بعنوان «الدولة الإسلامية»! أليس المبعوث بالإسلام يقول:   «إياكم والمُثلة ولو بالكلب العقور»، كيف لهم هؤلاء ان يقوموا بأشرّ من المُثلة؟

و بمن؟ بمن ينطق الشهادتين..

كلا لستم أنتم الإسلام، الإسلام هو زوجي الذي كان يبني الدور للفقراء بالمجان.. قتلتموه وأحرقتموه ليكون شهيداً عند الله..

إنما الشهادة للذين جعلوا «الأنا» و «الغير» في طينة واحدة حتى أحبّوا لغيرهم ما أحبّوا لأنفسهم.

وكيف لا، أو ليس الطيبون من الرجال للطيبات من الأعمال؟

نهض ولدها الأكبر رافعاً شعار الرضا، موصياً إخوته:

- لا تبكوا أمام الآخرين، كي لا يشمت بنا عدونا، ولا يُفجع بنا حميمنا وصديقنا.. أبي قد ذهب مستبدلاً كفّيه المطيّنتين بكفين جريحتين بل بجسدٍ محروق كله، مستبدلاً الطابوق بأجزاء بدنه..

مستبدلاً بيوت الطين ببناء مُقيمٍ لاعوجاج الفِكر، بناء مساحته أرض البشر، ورسوخه فيها الى يوم يبعثون...

- أمي هل سيكون لأبي قبرٍ نزوره؟

سأل صغيرهم أمه، بعد أن رأى في عيون إخوته ذات السؤال فهم جميعهم يمنون أنفسهم أن تكون هناك بقية من بدن والدهم تُحي التصبر فيهم، تُسليّ الحزن في قلوبهم، يوارون بها الثرى..  فيراوحونها ويغادونها، يُقنعون بها الشوق التائه الذي لا يفقه إلا اللقاء..

هم جميعاً بانتظار بقايا جسده المحروق!

- لا علم لي يا ولدي.. أن لم يكن فسنتخذ من قبور شهداء الطف مزاراً لوالدك..

أجابت الأم ولدها بنفس مطمئنةٍ راضية..

طأطأ رأسه، وبصوت خافت قال ولدها الأكبر:

- ننتظر أعمامي.

وصل عم الشهيد وأولاده..

دلفوا الى الغرفة حيث كانت تركن زوجة الشهيد رأسها على حائط متهالك و قد اجتمع أبناؤها عندها  دخلوا على استحياء، فأياديهم فارغة مما كانت تنتظره عائلة صالح..

- لم نحضر شيئاً منه، إلا انتصاره الذي حققه.. تحررت المنطقة بالكامل وقضينا على سبعة من قناصي داعش وأثناء تقدمنا في المنطقة أكثر..

التف علينا الجبناء من الخلف بغتةً واختطفوا اثنين، منهم صالح!

وبعدها انقطعت أخبارهم..

حتى كان ذلك الاتصال من شياطينهم..

هكذا روى عم (صالح) ما حصل معهم...

لو كنت قد أحضرت أي شيء من بدنه يا عم!

احتضن العم ابن أخيه مخبراً إياه بقلبٍ ملؤه الإصرار على الأخذ بثاره..

أُحرق جسده بالكامل وصارَ رماداً!

- أتعني ان لا قبر لوالدي؟!

- بل له الأرض والهواء والسماء..

فقد عمّ رماد جسده كل الأجواء، وذكره شاع في السماء..

وحلّ ضيفاً مع الشهداء السعداء..

من سلسلة قصص كتاب ومنهم من ينتظر (الجزء الثالث) الصادر عن مركز الحوراء زينب (عليها السلام) في العتبة الحسينية المقدسة

زهراء حسام