حضور الأمير علي بن أبي طالب (عليه السلام) في عصرنا هذا، وكفة الأمة مرجوحة، وأعلامها منكسة، وسيرها متعثر، وعلاقتها برسالتها مهزوزة، وعلاقة بعضها ببعض متوترة شاذة، يطبعها الخوف والتوجس، وتأسرها الأنانيات، وتشدها المصالح الضيقة، فهي عاجزة واهنة، ومريضة، لا تصعد إلى لم حشد من الناس، فتصيره جماعة أو مجتمع، متعاضد ومتكاتف ومتناصر، أو منتصب ومتجلي على صعيد يسمى دولة، أو الأحرى أنها تخلت عن عناصر الأمة التي تحت اليد أو الناجزة، وراحت تبحث عن عناصر أخرى تجمعها كيفما إتفق، لتصنع منها كيانات مفتعلة، ودول مصطنعة، إن هذا الوضع بهذا السوء، وإن هذه الحال بهذا الشؤم، هو الذي شجع وبرر قطاعات من الأمة أو فرق أو تيارات على أن تقطع حبل سرتها من الأمة، أو تنفض يديها من الانتماء والولاء لها، لتذهب إلى العدو اللدود، تستعدي وتتحرش به على بني جلدتها، والشركاء لها في الثقافة، والحلفاء لها في الميثاق، أو الذين يشملهم نفس الدين، وهو أي هذا العدو يحتل الأرض، يقتل ويشرد ويسجن ويغتصب، على الأمة ككيان تاريخي، ومعنوي ورمزي، وقبل هذا وبعده كبعد غيبي، وتجمع قرآني نبوي ولائي، أن تتصدى لمن كابر وعاند، فخرم النصوص، وخرج على القواعد، أو انتحى ناحية مهجورة، لا يصل اليها نور، ولا يهب عليها ريح، ولا يطرقها طارق، هي مسكن للعنكبوت، ومقرٌ للهوام والحشرات، هذا الفريق أو التيار استمرأ الخيانة، وأدمن على المشي في الطرق الملتوية، وذهب بعيداً في الاستسلام لمصالحه الخاصة، والتشبث بهواه، مما أوقعه في شراك عدو الأمة، وسد عليه منافذ الأوبة والرجوع، وحجزه في خانة العداوة المستحكمة، والكيد العاهر، والتعلات الفاسقة، والحال أن كل من سعى بأي شكل من الأشكال لخير هذه الأمة، أو لإسترداد كرامتها وهيبتها، ودورها الفاعل، ودفعها الى الاستواء على واقع جديد من المكاسب والإنجازات، وتمكينها من طرح رسالتها على مستوى السقف العالمي، وكسب ساحة مرموقة في هذا المعترك، وهذا الصراع الدولي الذي لا يرحم، قلنا سلفاً أن الإمام ( عليه السلام ) حاضر ، ونكرر القول أن حضوره مؤكد وطاغي، وصورته متفشية في الأديان والمذاهب طراً، وأن تجربته الفذة، التي يمتد نسغها في أرض الغيب، والمتدثر بعلم النبوة، هذا الجدول الرقراق ذو الماء النمير، يصدر من طور فوق طور العقل، تحفه العصمة، ويعمقه التحديث، وأن فكره وعلمه وحكمته، يَنْحَدِرُ عَنِّها السَّيْلُ وَ لَا يَرْقَى إِلَيها الطَّيْرُ، يستوعب مشاكل، وأزمات، وهموم الأمة، ويتسع لكل ما استجد من الحاجات والذوات والهويات، ييسر لها التعايش والتآلف والوئام، يكرم الإختلاف والمغايرة، ويحتفي بهما،  نحن فخورون وممتنون بتواتر عطاءاته، وتكاثر تجلياته، في زمننا هذا وعصرنا، ما أعجز هذه القامة، وما أعجب هذه الهامة، وما أزكى هذا المقام الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، حقا إن عالمية فكره لا يجادل فيها إثنان ولا ينتطح فيها جديان، ولا تسأل عن علمية منهجه، وواقعية توقعاته، وسيناريوهاته، لا أكتمكم سرا أني من الذين أخذوا بالفكر الحديث وفتنوا به، فأقبلوا على قراءته بنهم، وتلقيه بشهية دون مقاومة تذكر، ولكن هذا بالرغم من الذي قلنا، لم يقعدني عن الجد في إقامة مقارنات، ومحاولة العثور على مشتركات، في الفكرين، وفي النهجين، فكر الحداثة ونهجها، وفكر آل البيت ( عليهم السلام )، ونهجهم، لا لأني أنزل بفكر العترة الطاهرة إلى موقع وطيء، أو أجعل فكر الحداثة وما بعد الحداثة ندا له، ماعاذا الله أن أفعل ذلك، فقط لأني لم أكن أتحكم في أدوات التفسير والتأويل للمقروء، فلجأت إلى هذا التمرين الفكري، والتدريب الذهني، لعلي أجد في متن العترة الطاهرة، وبالأخص نص الإمام علي ( عليه السلام )، ما يسوغ قبول هذا الفكر، ويرشد إلى تناوله، صحيح أن فكر الحداثة يعبر عن كل طارئ يحدث في الزمن وينتؤ في الحضارة، من موجات الفكر التي تبرز فجأة ثم تختفى متوارية، إلى التجربة الشعورية، أو الجزئية التي تحتل الساحة في زمن قصير أو مديد، ثم ترحل بغير إستئذان، إلى الرسم كإبداع فني رفيع، يقرأ الإنسان ومشاعره، وتحولاته، كما يقرأ الطبيعة، نستلمه من الفنان، فنفرح بلوحاته، ونستمتع بقراءتها، تعب منها الحواس، ويتغذى بها الفكر، ولكن بعد مدة تبرد حرارة إستقبالنا لها في أول مرة، فيغشنا السأم، فننتفض ونروح نبحث عن الجديد، إلى تقليعة اللباس التي تظهر وتختفي كالبرق، فخرجت بإستنتاج أحسب أنه وجيه، وأنه أكثر واقعية مما أحسب، وهو نسيج الحياة، ولحمة وسدى الوجود، وأقوم لربط مصيرنا وقدرنا به، وإذن فشتان شتان بين فكر الإمام علي، وفكر الحداثة، نقول واثقين، أنه يستوعب إبداعاتها على النحو الأمثل، ويتجاوزها بما لا مطمح لفكر أن يواكبه، فضلا عن أن ينافسه، ويزاحمه.

 

على كل الحداثة زودت الإنسان بما يريح ويطمئن، أو بما يفتك الحياة من العناء والكد  الذين عهدناهما في سابق القرون، وأوردت الإنسان إلى تعويض ذلك بالآلة، كما أنها مشت به إلى إستغلال الطبيعة، والسيطرة عليها، فإغتنت شؤون حياته وإزدهرت، ونمت قدراته وتعملقت، ولكنها لما ذهبت إلى الإنسان فجعلته توأما للطبيعة، أو إمتدادا لها، فتعاملت معه بنفس الخلفية، وبعين العقلانية، لتقولبه وتعولبه، أو لتنمط فكره وذوقه، وتتصرف في عواطفه ومشاعره، بصورة تحط من إمتيازه وتفرده، حينئذ أسلمته إلى إنفصام في شخصيته، وخلل في كيانه، وخواءا في روحه، فوجد نفسه محشورا في كومة الأشياء، متلهيا بمفردات الإستهلاك، متسليا بتواترها وتلاحقها، في حللها الزاهية، وبريقها الخاطف، ولكنها بالرغم من هذا لم تملأ الفراغ الذي ينهشه، ولم تسد حاجة الروح، فهو في قلق مستعر، وريب منهمر، ينهكه الإغتراب، وتلذعه العدمية، وحتى المعنى أصبح عنده متغير ومنفلت، ومتزحزح ومنتقل، أو كالدال في قراءة دريدا للنصوص، أو كمفاهيم ومصطلحات فريدريش نتشة في قراءته للنصوص، ومن ثمة قراءته للذات، وللحقيقة، وللأخلاق، وهو لا يقر بمعانيها المعهودة، ويزعم أن هذه أسماء مزورة، ومفبركة لمسميات تعكس نقيض ما تريده الأسماء، وتقترحه، ويظهر نكيره وامتعاضه للسلط ولرجال الدين، الذين إبتكروا هذه الأسماء، ليبلغ تأثيرهم مداه، ويزيد في نفوذهم، فبحسبه أنها تطيح بالقوة، كمفهوم أثير عنده للحياة، وتمجد الضعف، وهو ما يجب أن يسحق، وتبخس الأنانية، وهو ما يجب أن ينمى لديه، ويرفع إلى أعلى عليين، وتمدح الأخلاق، وهي في نظره تمويها وتضليلا للإنسان، إن هذه المآلات المشؤومة في الفكر والثقافة، ولمفهوم الإنسان، تدعم قناعاتنا، وتسند توجهنا، في إعتبار فكر الإمام علي ( عليه السلام )، ميزانا وبوصلة، أو رائزا لتعاطينا مع الحياة، ومع الذات، ومع الحقيقة، لأن هذه المعطيات لا تنتظم بغير مفهوم الروح، ولا تصير واقعا عينيا، ومعنى ذهنيا إلا بالإعتراف بحق الروح، كشيء له وجهة إلى السماء ووجهة إلى الأرض.

محمد الفاضل حمادوش