دور العرفان في الاجتماع البشري

إن هذا الذي نقوله : _ ليس تخرصا، ولا ضربا من الأفكار المتخلقة، والمعاني المصطنعة، بل هو ما يعلق في السرديات الكبرى، ويتشبث بمتن التاريخ، إن لم نقل : هو لا معقوله، وقاعه الغائر، أو الذاهب إلى اللا قرار، تراكمت فوقه الطبقات، وابتلعته الغفلة، وطرده النسيان !!، ولا نستبعد أبدا أن اليد الآثمة كانت ضالعة في التزوير والطمس؟!، والحذف والمحو ؟!، لو بقي العرفان مستقلا، ومختصا بكيانه، ومتقلدا سلطته، لكان مسبارا ورائزا به تقاس الأشياء وتوزن، وبمنظاره يرى الختل، والخبث، والغش، والمسخ، والصور القميئة، والوجوه الكالحة، والدمى التي تنال من القامات الفارهة ؟!، والهمم الشامخة ؟!، ولكنه ويا للأسف، تحول في معظمه _ إلا من رحم ربك _ إلى فلكلور؟!، أو إلى مشهد غرائبي وعجائبي، باسم التصوف، يستهلك ويستنفد الرغبة الجامحة في التعلق بالله، والتماس القرب منه، في غير مواردها الحقيقة.

 

الخيط الرفيع الذي يمسك بهذا التداعي

استبد بي تداعي الأفكار، ومسك الفضول بجناني، فاقتادني في دروب وعرة ملتوية، تمر بالأحراش والمفازات، وتخترق الربى والجبال، والوهاد !!، وتعبر البحيرات والوديان !، وهي لا تخلو من وحشة، ومنغصات، ومخاوف، ومفاجآت ؟!، يمكن أن نقول : _ لم هذه التكاليف الشاقة ؟، والمتاعب الغير المحتملة ؟، أليس هو صرف للزمن في غير محله ؟، وإنفاق للجهد في غير طائل ؟، أو تبديد سفيه للحياة كعقل، وروح، ودفق للمشاعر ليس له مسوغ، ألا يحسن الاحتفاظ بعصارة هذه الأشياء، بدل تضييعها فيما لا يعني ؟!، لا ليس الأمر كذلك، ولا كما يتكهن متكهن، ولا كما يتنبأ منجم، وليس هو قراءة لخط الرمل، أو هلوسات مشعوذ، يحلو له أن يستدرجك، ليطوح بك في المتاهات !!!، أو يسلمك إلى أضغاث أحلام، تسرق منك قبس الفكر، ونور الهداية، إن ما تنطوي عليه النفس، وتختلج به الجوانح، هو أبعد وأعز، أو مثمن ومرجو العائد، إنه ما يتماشى مع كل نفس طموحة، ويتماهى مع إرادتها في المغامرة، وحب الإكتشاف، ويلذ هذا النشاط تطلعها، ويشتهى حتى ولو أثقل الكاهل، ونال منه النصب، وكيف لا ؟، وعيش حيوات في عمر واحد، وكسب فائض شلال من المشاعر والعواطف، وتوسيع للخبرات والتجارب بما لا يتصور، وإنضاجها، وإرتياد عوالم بكر، على إختلاف فيها وتنوع، هي من الخصوبة بمكان.

 

وهل يكون هذا غير مغامرة محمودة العواقب، لإكتشاف قارة جديدة، ووطئ أديم أرض، لم تطؤها القدم من قبل !!، وهل السياحة، والسير في الأرض لا يؤبه لها وتسترذل، وقد ندبت إليها النصوص المقدسة ؟!، وإستمتع بها الرحالة، وتذوقها الأدباء، والفنانون، ونحتت لها الحكمة تمثالا، وذلل صعابها وخفف مؤنتها الفاتحون.

 

الرحلة إلى دواخل النفس

غير أن رحلتنا إلى وجهة أخرى مختلفة، وإلى قارة غير، وإلى عالم أشد إلتباسا، وأكثر غموضا، وأعقد تركيبا !!، لا يطاوع لولوجه إلا بشق الأنفس، هذا فضلا عن إستنطاقه ؟!؟!، لأنه أكثر تملصا وتفصيا ؟!، وأشبك في تشعباته، وأكثف في جوه، وبيئته، أو أظلم في فضائه، إلا بمعرفة من نوع آخر، معرفة متفردة في مصادرها، ومناهجها، ومفاهيمها ومصطلحاتها، وإن كانت فيما قبل بذورا، وخمائر في أحشاء الفكر وتلافيفه، أو إمكان بالقوة، منذ أن بدأ العقل يسأل ويستفهم، ويحاول أن يأخذ كل معطى من معطيات الوجود، وزخم الحياة على محمل الجد.

والحال أن هذا الهاجس، أدلى بدلوه في عالم النفس، ليشيد معرفة حوله، وليسوي الأدوات المناسبة، أو هي التي أقدر على الفعل في هذا المضمار، ولم يسه أن يتقوى بعلم الأحياء، والفيسيولوجيا، ولكن هذا على التأكيد، لم يجر فلتة، ولم ينشأ صدفة، بل نمى وترعرع، وشب عبر زمن مديد، ومن خلال تراكم المعرفة، وطفراتها، في رحم الثقافات العالمة، وحضن الحضارات، في تواليها وتعاقبها، إلى أن أينع مفعولها، وبرق تأثيرها، وبرز استحقاقها، وقامت الدواعي على مسيس الحاجة إليها.

في آخر حضارة. حضارة سمتها التقدم العلمي، والتفوق التكنولوجي، حضارة فجرت الرغبة في الإستهلاك، والغرام بالأشياء، فتحت باب شهية المتعة، وصعدت من منسوبها، والترفه الشبق على مصرعيه، حضارة محورت العلاقات بالوسائط، تحول وإلتقاء الأجساد، وتصافح العواطف، والمشاعر، وتلقي الأفكار في صورتها الطازجة، أو مباشرة حين صدورها بالصوت، مصحوبة بحشد من تعبيرات المحيا، وحركة اليدين، ورعشة العينين، وإشتغال الشفتين، وحركة أرنبة الأنف بين الحين والآخر، وإنخفاض موجة الصوت، وإرتفاعها بين الآن والآن، والصمت المفاجئ، والسكون المباغت، الذي يرسل رسائل قد لا تنطوي عن المعنى المعبر عنه، ولكنه أعرب لما في النفس، وأزكى وأذكى للمتلقي، وأشبع بالمعنى للمتغذي، وعليه فهو ليس كالمكتوب، لا يكلف تأويلا، ولا صرفا للكلام، إلى أفكار ومعاني، إشتبهت في المكتوب، وإستشكلت على المراد، أو تلبست بحالة البين بين، لا يتبين فيها الراجح من المرجوح. بمعنى أنها أنهكت التواصل، وسدت قنواته، ولوثت مصفاته.

علقت الاهتمامات برافعة المال والاقتصاد، والتنافس المحموم على مقدرات الطبيعة، والظن بخيراتها، على من هم ليسوا من فضائها الثقافي، ومحيطها الحضاري ؟!، فإستشرت فيها الإثرة، والحواصان، والاستملاك ما جعل العلاقات الأفقية، العفوية، والمباشرة، ترتخي ومن ثمة تتصرب.

السيد محمد الفاضل حمادوش