إن لحظات العمر الدقيقة والحساسة، التي يكتشف فيها الإنسان جزءا من نفسه، أو يطلع على قطاع من خلفياته، أو لمعا من مخبئته أو غثاء تجمع في ناحية قصية وغائرة من نفسه ثم تيبس وتلبد فصار كقشرة الأرض الصلبة يقع هذا في غفلة وذهول ؟!.. أو يلقى تقطيرا رويدا رويدا، خارج كل رقابة أو خلسة من حراسة الإدراك وتلفتا من مسام الإحساس !!، وهو ما يتيح  تشكل ثنيات وطيات في النفس، يستعصى بسطها !!، إن لم نقل يستحيل ؟!، يكون لها الحظ الأوفر في سلوك الإنسان وتصرفاته وتكون المصدر الأساسي لردود أفعاله الفجائية التي تصدر عن حمية أو شعور بالانتقاص وهي تثار عادة وتنفلت من عقالها، من الهمز واللمز المتعمد تارة، ومن الحركات والكلمات العفوية والبريئة، التي لا تروم الإساءة ولا تسلك البغي، لكن لأمر ما قد توخز الشعور وخزا مؤلما، وتدفع اللاشعور الهيجان، أو تخضه خضا فيخرج حممه، ما الذي دهى هذا الكائن، أو هذه النفس؛ لتترجم أو تؤول أو تزحزح الحركة أو الإشارة أو الإماءة أو الكلمة أو حتى اللفظة من مكانها إلى مكان آخر، أو إلى نقيض مقصودها، وإعطائها دلالة مفتعلة، ومعنى مغرض، أو مشوه، لا إشكال أن البنية اللغوية المستكنة في اللاوعي، أو فيما هو غائر أو راسب خلف ظلمات بعضها فوق بعض، هي التي تسوغ هذه الردود، من خلال الاحتمالات المرجوحة، والمقدرات المظنونة للدوال، وهو ما قد يمثل إستلابا، أو قهرا للنفس أو للشخصية، داخلي جواني !، وهنا يمكن أن نسأل ؟، قد يصعب علينا تحديد السؤال وضبطه، كما يتعذر علينا إحصاء الأسئلة؛ لأن تشعب المعرفة، المتعلقة بالإنسان، تند عن تحكم العقل !، وتكون بمنأى أو على بعد معتبر، من أن يحتويها نسيج ثقافي، على النحو المرضي، أو يحتملها تركيب حضاري ومدني، بما يسد الحاجة، ويفي بالغرض، مع أن الاستواء على الرشد، ومخامرة الحقيقة، بالشكل الذي يرسيها في القناعات، على مستوى الأفراد، ويرسخها في العاقلات على مستوى الجماعات يتطلب أن تفيض حتى على المقدار الذي يرى أنه كافي أو مقنع وذلك لأن أشكال الوعي، وأنماط التفكير، منشأها الأساسي ومبرر وجودها، وصور تجليها، هو الواقع، والواقع كما هو معلوم مترجرج ورخو ومتفاوت ومتباين فهو مفعم بالتناقضات، طافح بالأضداد، وهو ما يشي بتعدد الحقائق وتنوعها، والحقائق كما هو دارج سيسيولوجيا، تنصاع للقوى، وتستحوذ عليها السلط، ولكن هذا لا يلغي الحقيقة الحقيقية، ولا ينال منها، ولا ينفي الرشحات التي تجود بها، في اللحظات العزيزة والنادرة، على تجهم الواقع وانقباضه، أو على تنكره وإدارة ظهره، في كل ما هو بسيط وعفوي وجميل أو بكل ما هو بريء وطاهر ومحبب وكريم وهو ما يستبقي للواقع على علاته نكهة تتذوق، ورائحة تشم، ولعل هذا المبنى للواقع، أو هذا التركيب لبناه، وهذه الأشكال لأنساقه كان نتيجة لتصعيده ومفعولا للصور الشفافة التي صار إليها، بعد أن كان كثيفا ومهوشا ومختلطا ومتناثرا أي أن مفرداته التي كانت مشتتة ومنعزلة أو متباعدة مكتفية بذاتها مستغنية بوجودها الفقير ومعانيها الضحلة، وحضورها الرمزي الحيي أو المحتش، ما إن أوحى لها الفكر، وتنزلت عليها نفحات الروح، ومسها القلم، حتى دبت فيها الحياة، وانتعشتا فيها الحركة بعد أن غشتها الإرادة.

 

حينئذ وحينئذ فقط اندفعت وتدافعت، أو شمرت فتسابقت وتزاحمت لتنتظم وتتناضد، في أماكن مخصوصة، وفي ظروف أو أحجام مقدرة، في جمل ثم في سطور، ثم في نص يقترح أفكار ويطرح معاني، ويحجب أخرى، أو يتجلى في سواد، ويتستر بالبياض، أو يستدرج بالمقال، ويغري باللا مقال، أو يتستر بظاهر الكلمات، ويدفع باطنها إلى العتمة، أو أن ما تعطيه أو يعطيه بغير تعمد، وتقود إليه، أو يقود إليه بغير قصد، من أفكار وعوالم، لم تقع في خاطر الكاتب ولم تدر في خلده، كانت إمكانات وخانات تحت يدي القارئ أو لوائح وبوارق وطوارق أو إشارات لطيفة وعلامات لماحة مست خياله وراودت عقله وناغت مشاعره فأنشأ ما أنشأ، وبنى ما بنى في قبال مقروء طلق كاتبه أو نص آخر غير مأذون من مولاه، نهض واستوى على قدميه، على حساب النص الأول، وانخلع عنوة من سياقه وبيئته.

 

لعل الواقع الذي نصنعه ويصنعنا أو يلمنا في دثاره و يغمسنا في مناخه، فهو بقدر ما يتلقى تأثيرنا ويستقبل أفعالنا، بقدر ما يرد علينا، بما نتوقع وبما لا نتوقع، بما نحب وبما نكره، وكثيرا ما نفاجؤ بسلطته القاهرة، وضغطه الذي لا يرحم، وإنغلاقه، وتعقده، أو بتبرمه وتوتره، فنكون إزاء مسلكين ربما يكونان حاسمين، مسلك الهروب من المواجهة وتجنب الصدام، والمسلك الآخر مسلك التكيف والمناورة والمداورة، وجس النبض، من خلال المتبادر من التفكير، والسابق من النظر، وهذا قبل الإقدام على العمل، ومباشرة النشاط، أو الإنكباب على الإنخراط في علاقة، أو علاقات، كروابط مركبة، ومعقدة، وهذا حين ترتقي هذه العلاقات والروابط إلى مستوى المؤسسات، أو إلى مستوى المسؤوليات الخطيرة، وقد تكون مشجبا لمصائر وأقدار جماعة أو مجتمع، ما يلزم بخلع عناية وحرص، على سويتها، أو على إستقرار سويتها، وتشميلها بتوشيح يصنع لها القبول والإرتياح، وقد تنخفض إلى المستويات الدنيا، ولكن ليس بالمعنى القدحي، إلا أن هذا النمط في الصلة والإتصال، لا يجب أن يخلو من التعقل والرصانة، المشفوع بالتودد والتلطف، والمتلبس، بالمداراة واللين، وإذا كان التآلف والتلاحم، أو روح التقارب كنسغ في روح ثقافته، أي هذا النمط في الصلة والإتصال، ويحوطه حتى لا يتشظى أو يتفتت ويتذرر لكي لا يدعه يتحلل ويذوب في كيانات أخرى ثقافية، أو حضارية، فإن الذي يعزز هذا ويثمنه على النحو الأمثل : _ اللغة، والعادات، والتقاليد، والذاكرة، والمخيلة، وعالم العلامات والإشارات، وأيضا الإحساس بالتحديات من أي جهة أتت، ومن أي موقع برزت، من عدو شرس، أو من فتنة عمياء، أو تمرد برز من أحشائه، أي من صلب المجتمع، والتي قد تكون وطأتها محتملة، ويمكن أن تتلقى بكثير أو قليل من التكاليف، إذا كانت سياسية، أو إقتصادية، أما إذا كانت ثقافية، فإن الخرق يكون واسعا، والخطب عظيم، ومن عادة الثقافة وميزاتها أنها ترسم صورا عديدة، يخترقها التناقض ويشوبها التعارض، وهذا من طبيعة كل ثقافة شعبية، وهو بالتالي ليس مخوف ولا يبعث على القلق، بل قد يحمد في كثير من الأحيان، لأنه يدفع سموما قاتلة، ويبرئ أوراما مميتة، وهذه الصور العديدة التي يسمها التعارض، والتناقض، والتوتر، لا تمس الصورة الجامعة والموحدة، مسا سيئا بما قد يشوهها، أو يضببها، أو يحدث فيها قصورا وأعطابا، بل قد يتكفل بتوضيحها وجلائها، وعليه فإن الواقع نص، كالنص المكتوب، له كلماته، وجمله، له واجهة، وله خلفية، أو له ظاهر وباطن، وهل الواقع شيئ آخر ؟، غير التشكيل البشري بشبكة علاقاته، وطريقة تراتبية طبقاته، ونمط حكمه، وفعل لغته، ومرآة أساطيره وقصصه، ومثال معتقداته، وأثر قياداته، وفلاسفته وأدباءه وفنانيه، وهالة رموزه، وحساسية عرفائه، وبالجملة صعيد ثقافته العالمة، وعقله، وليس《عقليته》، وتداعيات تاريخه وعقده، واللا شعوره، وإذا كان طور العقل وعرشه، هو الذي يمسك بالزمام، ويوكل إليه التدبير، ويوعز إليه التفسير والتأويل، والتدارك بعد الغربلة والتمحيص، لإستئناف التأسيس من جديد، أو على الأقل الإصلاح والترميم، ثم لم الشعث في صيغة أفضل تركيبا، وأحسن تناسقا، وأفصح في تبيان الدوافع، وتوفير الحوافز، ووضع المعالم، وتحديد الوجهة، صيغة ترفع المعنويات، وتعيد التوازن، وتعطي للثقة، مداها، وترفع الأمل إلى الأوج، وتفتق الإرادة، وتزهر القدرة، وتنهض النيات الخيرة، والقصود الطيبة، صيغة تعمل على إنتشال العلاقات من العقد المستعصية، ومن الأمراض، وتطلق سراحها من التمركز الذاتي، والتشرنق العصبي، والإلتفاف حول فهم، أو مذهب، أو عرق، أو إيديولوجيا، أو رمز تختزل فيه الحياة، أو قومية شوفونية تطغى إلى الحد الذي تلغي فيه النزعات الإنسانية، وتعد الشعوب كلأ مباحا، صالحا للإبتلاع، أو أنها دون، تفتقد إلى مقومات  الحضور، والشخوص، وإلى خصائص التمدن، والمميزات الشخصية، ومفهوم الكفاية، والكفاءة، فإن هذا الطور أي طور العقل، على وجاهته ولزومه، وعلى أهميته، وشدة الحاجة إليه، فإنه لا يستوعب الطور الذي فوق، أو طور الشهود والذوق، ولا يسعه تملك كفايته، ولا استيعاب مخزونه، ولكنه يفلح، ويكتنز، ويتمكن باقتدار على التجاوب الأوسع والأعمق، إذا تواضع لعقد الصلة بهذا الطور، والأخذ من سره، والمتح من ثروته الرمزية، وغدقه المعنوي.

 

والحال أن كل نموذج حضاري أو مدني أو أي تجمع بشري فقد هذه الصفة، وتخلى عن وهج هذا الطور، وإشعاع هذا السر، اكتسحته الآلية، ودب فيه الخواء، ونتأ فيه الجبت والطاغوت، ومسكته العلة، من المناطق الرخوة،  وإن هذا الذي نطرح، أو أن هذه المحاولة في المقاربة، التي تقرأ التضاريس، التي تشيع على سطح المجتمع، وتعكف على البحث والتفحص، والتفتيش، لترى في تلافيف هذا المجتمع، ما خفي على الرؤية، ولتعثر على ما ضاع من جراب التاريخ، أو الظنين به، ليس على أهله، ولكن على الحقيقة، وما أول أي ما صرف إلى معنى يراد، ليدعم القوة، وينفخ في الغلبة، أو أول بالعكس من ذلك، أو بالنحو المحمود، ليرفع الغطاء عن المهجور، والمهمل، أو المهمش والمنسي، ويعيد الاعتبار للأصوات الخافتة، ويستنطق الصمت، ويراود المسكوت، ويربت عليه، أو يأتيه من جميع الجهات، إغراء وملاطفة وخفضا للجناح، وربما مناغاة، لعله ينبسط، ثم يرتخي، ثم يرفع حجابه، فيذر الرفض.

السيد محمد الفاضل حمادوش