يتزاحم الناس عند أبواب الفلكيين المزعومين والسحرة والدجالين، الذين يعرضون عبر قنوات الجهل، لكل داء دواء، ويبيعون لكل شخص رجاء، وأغلب مريديهم من النساء، يتاجرون بالوهم، ويخدعون ضعاف النفوس وقليلي الإيمان، وكل علمهم خداع من وراء قناع.

 إذا كنت تصدقين يا سيدتي تنبؤات أبو فلان الفلاني، وتشترين علاجات

أبو جهل الجهلاني، وتتابعين صفحات أبو السحر المسحراني، فقد أوقعت نفسك في مصيدة النصّابين، وورطت زوجك بدفع ثمن السراب, وابتعدت مسافات عن الدين واليقين!

  يزعم بعض شيوخ الفضائيات الكذّابين علمهم الغيب، وينسون قول الباري عز وجل:﴿ قُل لَّا يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ﴾(سورة النمل ( 27

 وقد ذكرتني توقعات أبو الخداع الجهلاني، بكتاب قرأته قبل نحو ثلاثين عاماً،  بعنوان "مهزلة العقل البشري" لعالم الاجتماع المرحوم الدكتور علي الوردي، الذي يكشف، بدقة وعمق، تناقض سلوك كثير من البشر،وفقدان العقل والحكمة في تصرفاتهم، واستمرار الكثير من الناس بتصديق الدجالين والمشعوذين والسحرة والحمقى، والمراهنة على أكاذيبهم المفضوحة، وكأنها حقائق مؤكدة!

  تذكرت محتوى ذلك الكتاب عندما سألتني إحدى طالباتي: هل شاهدت برنامج (أبو الخداع) وتنبؤاته الفلكية.. وقد حاولت بصعوبة أن أتذكر أسماء ألأقارب أو الجيران، لعلي أجد من بينها ذلك الشخص المقصود، بيد أنها أضافت بسرعة:إذا أردت أن تعرف مستقبلك الشخصي ومصير عائلتك، وتجد الحلول لكل المشاكل، وتعالج جميع الأمراض، فشاهد توقعاته وتفسيراته ووصفاته العجيبة على قناة (...) الفضائية!

غادرت- مجبراً- هوايتي المفجعة في متابعة نشرات الأخبار والبرامج السياسية، وذهبت، تلك الليلة، وسط دهشة العائلة، نحو تلك القناة، لكي أشبع رغبة الفضول، تقودني الرغبة في معرفة المجهول.

لا أريد سرد تفاصيل ما شاهدت وسمعت، طوال ساعتين من الاتصالات المباشرة المستغيثة والإجابات الفورية المفبركة، التي تُطلق في الفضاء، وكانت شكاوى المشاهدين والمشاهدات- وهن الأغلبية مع الأسف - تدور حول المعاناة في الحياة الزوجية أو البحث الطبيعي عن شريك الحياة أو الرزق أو السعادة أو الحظ أو المرض.. ولم يتردد ذلك النصّاب في توزيع النصائح والتنبؤات، تحت غطاء ديني زائف، لكي يذهب الجميع، بعد منتصف الليل، إلى فراشهم مستبشرين فرحين، وقد بات الفرج قريباً.. وليس ثمة داع للعمل أو الصبر، كمفتاحين معروفين بيد العقلاء.. فلا وقت للانتظار!

جعلتني تلك المشاهدة أشعر،لأول مرة، بضياع عمري، الذي أمضيته في تعلّم وتعليم دور وسائل الإعلام في نشر الإيمان الحقيقي والوعي العلمي والثقافي، وكنت مقتنعاً بواجبات المهنة الإعلامية وأخلاقياتها الهادفة إلى نشر الحقائق وتنوير العقول، وتغيير المجتمع!

اللعبة أكبر من هؤلاء النصّابين إذاً، وهم غير ملومين،  لأنهم ليس وحدهم من يمارس هذا التهريج المفضوح، فنحن في عصر النور والعلم نواجه، في كل لحظة، مظاهر الخديعة والمكر والاحتيال والسرقة، سواء في واقع الحياة أم على شاشات التلفاز، ومن المؤسف أننا أصبحنا نهادن الفاسدين  ونصدّق الكذّابين، ونسير وراء المجانين والمشعوذين والمنجمين وقرّاء الأبراج، وغيرهم من الذين يزعمون كشف الغيب، الذي لا يعلمه إلا الله!

لتصفح مجلة قوارير العدد (25)... إضغط هنا

د. محمد فلحي