قصَّة الشهيد خضير زامل
 
يحيط تحركاته بتحفظاتٍ كثيرة؛ فهو يتجنب البقع المُحتضنة الرجال كبار السنّ، متحاشياً الاختلاط بهم في الساعات المُتّصفة بالهدوء والسلام..
ينتابه قلق من وقوع لقاء مرتقب؛ فالنهار في لحظات سلام هذه الصحراء يبدو كوحشٍ مكشّرٍ عن ساعاته البطيئة والليل كلصٍ متحركٍ بصمتٍ لا يسمح بالصخب ٍوالضجيج؛ فلا مفرّ من محادثاتٍ ومسامراتٍ..
وخوفاً من المتوقع ستر وجهه بقطعة قماش سوداء مُزيَّنة بخطِّ مُذهَّب مُدوَّن عليها: "هيهات منا الذلة".. غالباً ما يرفعها حتى حدود عينيه ويشدّها بقوَّة لاسيما عند اقتراب ذلك الرجل المسنّ الذي سقطت ثلاثة وستون ورقة من شجرة عمره..
وإمعاناً في الاحتراس أوصى أقرانه ومسؤوليه بالإيماء إليه فيما لو دنا من مكان تواجده، واتّفق معهم على كلمة لندائه: "الحشدي"!
والشيخ المسكين المفعم بالحيوية وبالحماس لم يفته إدراك رغبة الشاب بالابتعاد عنه وعن مجالسته، وجال في خاطره أنَّ الفتية لا يحبّون المسنّين التي تدور جلّ أحاديثهم عن ماضٍ أو ربّما يرغبون بتجاذب أطراف حديث مزخرف بالطيش والتهور لا يرومون أن يطلع عليها الشيوخ..
فيمضي مبتعداً عنهم لكنه كان يظل يرسل نظراته إليهم متابعاً لحركاتهم، متأمّلاً لوثوبهم عن اقتراب العدو أو سياراته المدرعة..  
وكم من مرَّةٍ رسمت الابتسامة على خديه غمازتين عندما يراهم يهزجون ويترنمون بأشعار حسينية ساعياً لحفظها عن ظهر قلب ليرويها لابنه الوحيد! ويردفها بقصص بطولات، عاشتها أرض الهياكل في الفلوجة؛ ليقصّها عند نزوله في إجازته -وكما اعتاد أن يفعل ذلك- إلى زوجته وابنه الشغوفين بالاستماع إلى قصص البطولة، النابضة بالحياة والإيثار.. فهو يجيد سردها بجاذبية عالية؛ فقبل أن يشرع بسردها لهما يعيدها مع نفسه مراراً وتكراراً خصوصاً عندما يكون بمفرده أو في الطريق إلى بيته المارّ عبر طريق ترابي تتخلله مناطق خضراء شاسعة قرب مدينته الجنوبية "ميسان". وهو يرويها لنفسه ترسم أحداث المعارك آثاراً من التقطيب والانفعال والحماس على وجهه وكأنه يعيشها ثانية في خياله. وكم تداعب خياله أسئلة افتراضية من ابنه ويعدّ لها اجابات! فالمعارك التي دارت رحاها قبل أيام حافلة ببطولات وأسرار مستحقّة أن تنقل لشاب كابنه خضير..
يحمله الرجاء هذه المرَّة أن ينقل لهم أحداث قصَّة من طراز خاصّ.. لكنه سيخبرهما حتماً بأمر هذا الملثّم وتصرفه العجيب المثير للإشمئزاز!
وقطع حبل خياله سعال وعطاس من قريبين منه..!
بدأ الموقع يلتفع بالتراب؛ فالعواصف أهدت المكان كساءً أصفر اللون، وأضفت على سحنة المقاتلين السمراء لوناً ترابياً. وما أغرق مزاجهم في مستنقع الكدر ليس التنفس بصعوبة بالغة فقط بل غدت العيون تشكو ضعف حالها ولمسافات قريبة!
 
فالحرب متاهة مكتظّة بالمكر والخديعة..
 
اقتربت سيارة مدرعة مُفخَّخة من الساتر الترابي؛ فهبَّ رجال الساتر للتصدي لها.. لكن..  صواريخ "ال أر بي جي سفن" أخطأت الهدف، ولم تصبه بأدنى ضرر !
ظهر الوجوم على الجميع.. انتابهم شيء من القلق؛ فالعجلة تتقدم.. فهرع مسرعاً إليها الملثّم.. محتشداً بسلاحه المقدّس.. متوشحاً بالعلم.. يده تتسابق مع قدمه لرفع قاذفته في اللحظة المناسبة لتصل إلى هدفها.. اقترب منها وأصبح
على بضع خطوات من مقدمتها.. فرماها بصاروخٍ.. 
وبطرفة عين.. تحولت إلى كتلة من نار مقرونة بصوت يصمّ الآذان، وغبار الانفجار لفّ المكان بلحظات رهيبة..
دقائق انكشفت غيمة النار..
فكان الشاب قد سقط مضرِّجاً بدمه قرب المدرعة..
تراكض الشباب نحوه، فصاح أحدهم:
- أصيب بشظايا في رأسه..
حملوه بعيداً عن العجلة المحترقة، هرع الجميع إليه.. أماطوا اللثام عن وجهه الذي صبغ باللون أحمر..
هرول الرَّجل المسنّ هو الآخر باتجاهه وهو يردّد: 
- وحقّ الحسين رجل من طراز خاصّ!
 اقترب ليلقي عليه نظرة عن كثب..  
وقف شاب في طريقه، ووضع يديه على صدره محاولاً دفعه للوراء ومنعه من الاقتراب لكن الشيخ المسنّ قطب حاجبيه، وهو يزيح اليدين من فوق صدره نهره قائلاً:
- تنح عن طريقي..
فجاء آخران وامسكاه من يديه، محاولين إيقافه؛ فتساءل متعجباً:
- لماذا؟!  
يخرسهم السؤال..
وبصوت يشوبه الانفعال والغضب صاح:
- دعوني أراه.. أتركوني أقترب مثلكم..
فأشار مسؤولهم إليهم بفسح الطريق له؛ فانصاع الفتية.. 
مشى العجوز بخطوات سريعة صوبه، محمولاً برغبة وشوق عارمين لرؤية قسمات وجهه ليصفها لابنه مع شجاعته..
كان الجريح يصوب عينيه إلى الآفاق بانتظار هذا اللقاء؛ فنظر إلى الشيخ، ولم يتمالك نفسه، فأغرورقت عيناه بالدموع، فقال معترفاً: 
- أرجو سماحك أبتي لم أذعن لأمرك بالمكوث في البيت مع أمي..
 
وتعثرت الكلمات فوق شفتيه، وضجت الأحرف من ثقل نطقه.. قال:
- صخب توسلاتي أضعفت أمّي؛ فرفقت بي، وهكذا صان المقاتلون هنا أيضاً سرّي بعيداً عنك.. أقبل عذري؛ فأحرف الإمام الحسين تطوف حولي لتشدني من بؤرة الظلمة إلى نور الخلود مثلما فعلت شمس الفتوى بوجودك.. 
وبصوت مودع، همس:
- أردتك أن تفخر بي أمام سيد الشهداء..
صعق الشيخ، تقطعت أنفاسه، قدماه تطوحان به على الأرض جاثماً، ومن هول المفاجأة لم تنطلق صرخته، وحبست في صدره تصارع ثباته في هذا الموقف..
 
هتف مقاتل مُسمَّراً بالجوار بصوت تخنقه العبرة:
- هذا علي الأكبر! 
- و نادى آخر: 
- انطق بالشهادة خضير زامل!
 
استجابت دموع الشيخ زامل عبد الحسن بسرعة كسيل منهمر، ويداه تشدَّان الجريح بقوَّة إلى صدره لضمّه.. 
لحظات.. انفلتت روحه إلى السماء محلّقة عالياً؛ فيستعيذ الأب بلحظات العشق الحسيني فارتقى متزوداً بنمير الحبّ السماوي، فيقول بالرغم من الدموع الفائضة من عينيه:
- فعلاً، أمّك من نسل زينب الحوراء!
- والتفت إلى المقاتلين المكتظّين حولهما، فصاح مؤشراً بيده: 
- العلم لـ "تاج رأسي".
القصة الحائزة على المركز الأول في مسابقة صفحات مشرقة التي أقامها مركز الحوراء زينب (عليها السلام)
زينب فخري حسين