في طريق ذهابي إلى العمل شاهدت جارتنا التي تسكن في أول الشارع, لم احدثها يوما, غير اني كنت اراها بين الحين والآخر, القيت عليها تحية الصباح ومضيت..

مرت الساعات... انهيت عملي وعدت مسرعةً الى البيت لأخذ قسط من الراحة, فقد كان يوما شاق.

 تملكتني الدهشة حينما شاهدت إن جارتنا مازالت تقف قرب باب بيتها, كأنها لم تبرح مكانها قط!

كانت دموعها تسفح وتهطل بغزارة على تجاعيدها الرقيقة, تحفر عميقا في قلبها قبل وجنتيها, ما زالت تنظر الى البعيد عبر الزحام الذي بدى يتموج في ضباب يزداد كثافة كلما يتفاقم انهمار الدموع, لم تعد ترى سوى سحب بعيدة  في الفضاء تطلعت الى الجهات لعلها تلمح من تنتظره, فقد بان بانها تنتظر احد, غير ان نظراتها عادت خائبة الوفاق, فمسحت سيول الدمع المنهمر, يبدو بانها  قطعت شوطا كبيرا من الانتظار خارت قواها فجلست على الارض, اطلقت عويلا متخما بالأسى, بعدما لطمت صدرها بكلتا يديها, وارتفع نشيجها.

اثار المشهد عبرتي, اقتربت منها وقد غاصت حسرة في حنجرتي, ودمعة اخفتها المحاجر, تظاهرت بالتجلد جلست بمحاذاتها, كيف استهل بسؤالها وهي بهذا الحال!

 فضولي لمعرفة من تنتظر كاد يقتلني همسات دعائها وتضرعها لله يثير عبرتي استجمعت قواي وقلت لها:

- هوني عليك ان شاء الله سيعود من تنتظرين..

نظرت إلي بعيون ذابلة, امسكت يدي وقالت:

- مثنى اني انتظر ولدي  مثنى هل سيعود حقا؟

لا ادري بماذا اجيب فلا املك اجابة تروي ظمأ شوقها, فأجبتها:

- ان شاء الله سيعود

- اجل سيعود اليوم, هو اخبرني بذلك

- متى اخبرك؟

- قبل بضعة أيام, قال لي ان اعذر قله حيلته وعدم مجيئه بالوقت المحدد, فقد اشتد القتال واحتدت ساحة الحرب, توسلت به ليعود فجسمه الصغير وبنيته الضعيفة لا تقوى على ذلك فهو مازال يافعا في ربيع العمر لم يكمل السابعة عشر بعد, اخبرته ان يعود في اول يوم من شهر محرم الحرام ليجسد دور القاسم ابن الحسن (عليه السلام)  الذي اعتاد على تأدية كل عام في ليلة التشابيه فلا احد يجيد ذلك الدور مثله, لكن هذه المرة رفض وقال لي: ( يمّه, دور القاسم ابن الحسن هنا على الساتر راح امثله وان شاء الله ارجع للبيت  بيوم ليلة التشابيه لا تخافين بس ادعيلي ...) وهنا بدأ صوته عبر الهاتف يتلاشى رويداً رويدا, حتى اختلط مع اصوات ازيز الرصاص والقنابل المدوية توحي بان المعركة احتدمت على سواتر منطقة بيجي, كان اخر ما قاله: (راح ارجع بليلة القاسم.. انتظريني) وانقطع الصوت صرخت مرات عدة... (الو.. الو.. الو.. مثنى) لكنه لم يجب, وها هو اليوم الثامن, ليلة القاسم (عليه السلام) وانا انتظر عودته, اتمنى ان لا يتأخر حتى لا تفوته احياء مراسيم ليلة العزاء.

- سأنتظر معك.

لم يسعني غير قول ذلك, الشعور الوحيد الذي اعتراني هو طوفان من الخوف بأن لا يعود مثنى, تناسيت تعب العمل والجوع وكل ما يقلق ذاتي من التزامات ومسؤوليات اتجاه عائلتي, تناسيت كل شيء, وجلست انتظر مع تلك الام الثكلى عودة ولدها من ساتر المعركة.

مضى الوقت كان اشبه بأيام وليالٍ, حتى لاحت لنا سيارة اجرة اقلها بعض الشباب والرجال, انها تقترب صوب الباب.

انتفضت من مكانها وهتفت تحثني على الوقوف..

- ها قد عاد مثنى لقد وعدني ووفى بوعده لي, هؤلاء هم رفاقه انا اعرفهم...

 تلظى قلبها فرحا بعودته, وحينما انزلوا النعش المغطى بالعلم العراقي, اقتربت منه لترفع الغطاء ببطيء ثم همست بصوت شجي (ها يمة مثلت دور القاسم هناك, وبليلة استشهاده استشهدت)..

زهراء جبار الكناني