(المقدمة)

إذا ما جاز لنا أن نقسم العتبات النصية في القصة القصيرة إلى قسمين؛ فسيكونان: رئيسي وثانوي؛ فالمقدمة ستكون بموجب هذا التقسيم الفني.. إحدى العتبات النصية الثانوية في النص القصصي الإبداعي، مثلها مثل الإهداء أيضاً، وقد سبق وأن تطرقنا اليه في الحلقة السابقة لهذه، وهي الحلقة الثانية من موضوعنا هذا.

وتتكون عتبة المقدمة من سطر الى بضع سطور، وهي بالضرورة تكون أطول من الإهداء، وموقعها يأتي بعد عتبة الإهداء، ويمكن أن يجتمع إهداء ومقدمة في قصة قصيرة واحدة، أو يجيء إهداء دون مقدمة أو بالعكس أيضا.. حيث إن المقدمة كما في الإهداء لا تشكل بوجودها كياناً جوهرياً أو رئيسياً مستقلاً في بنية القصة القصيرة.. بل سيظل ثانوياً في الكتابة القصصية، بمعنى إن عدم وجود مقدمة للقصة القصيرة لا يعد خللاً فنياً، وقد لا يشكل غيابها عن بناء القصة وحبكتها نقطة ضمور سلبية في حالة عدم وجود ضرورة سردية ملحة، أو يسقطها ابداعياً كما في أغلب التجارب القصصية التي تفتقد الى مقدمة، كون المقدمة لا تعد من العتبات الرئيسية (جوهرية) مثل العنوان والاستهلال (الافتتاح) والحبكة والعقدة والشخصية والمكان والزمان والبناء والحدث والصراع والحل، ومن ثم أخيراً الخاتمة ( القفلة).

لكن ورغم كل ما أسلفنا القول به من ثانوية الأهمية للمقدمة إلا في حالات الضرورة الفنية القصوى، إلا إنه يحدث أن تكون هناك ضرورة بنائية ملحة في بعض النصوص القصصية لوجود مقدمة، وربما يشكل غيابها خللا فنياً في بنيتها السردية، حيث يكون تناسق العتبات النصية في القصة القصيرة ( رئيسية وثانوية) كالتناسق بين أعضاء جسم الإنسان، وقد خلقه الله تعالى في أحسن تقويم، ما برز خلل/ طول .. عرض.. ارتفاع .. انخفاض.. الخ/ إلا وشكل نقطة نشاز بنيوية في متنه السردي، وبالتالي سيشكل خدشاً جمالياً بمثل هذا التناسق في ذائقة المتلقي، إلا إن العتبات الثانوية على كل حال ستظل عتبات موازية ومساندة ومجاورة عند أغلب القصاصين، ويمكن الاستغناء عنها في أكثر التجارب الإبداعية في القص.

بينما العتبات النصية الرئيسية لا يمكن الاستغناء عنها، إذ كيف تقوم قصة قصيرة من دونها، وإن كان بعضها ظاهر بشكل واضح لا يخطئه المتلقي العادي كالعنوان أو الخاتمة ( القفلة) مثلاً، أو مضمر لا يلمحه سوى المتلقي النخبوي كما في البناء والصراع.

إذ كيف لنا أن نتخيل قصة قصيرة بلا عنوان؟

أو كيف لقصة قصيرة بلا نهاية .. أي تبدو ناقصة الفكرة، ومبتورة البناء؟!

وهنا ربما يتبادر في ذهن القارئ الكريم سؤال ومفاده: هل كتابة مقدمة ضرورة للقصة القصيرة؟

وإذا لم تكن هذه العتبة النصية غير جوهرية وغير رئيسية وأعني بها (المقدمة) كما أنت أسلفت القول؛ لماذا إذن يتم التطرق اليها وطرحها في موضوع مستقل الآن؟

وقد يعترض أحدهم بقوله: نحن نقرأ كثيرا من القصص، ولكننا لا نجد في أغلبها  تتصدره مقدمة أو إهداء؟

وأجيب بشكل موجز وبسيط حول ضرورة المقدمة وأعني بها (الدواعي الفنية) لوجود مقدمة في القصة القصيرة.. وأقول بالآتي:

نعم هذا صحيح، فقليل جداً من الكتاب من يلجأ الى كتابة مقدمة لقصته القصيرة، وقليل أيضا من القصص نجد لها تصديرا بإهداء، لكن ما أتحدث عنه هو سياق عام الغاية منه المحاولة - رغم صعوبتها الكبيرة - للإحاطة شبة التامة بكل حيثيات القص(عتبات رئيسية وثانوية) استجابة لعنوان طرحنا هنا: ( كيف تكتب القصة القصيرة؟) وليس بالضرورة أن يكون هناك وجودا لكل ما نطرح في كل القصص، أو عند جميع القصاصين.

أما الضرورات الفنية التي تكمن خلف وجود مقدمة ما، في قصة قصيرة، فهي عديدة ولا يمكن بسهولة التطرق الى جميع خلفياتها الفنية، ودوافع القاص الإبداعية.. حيث إن المقام لا يتسع كثيرا بتفصيل أكبر، بيد إن أبرزها ـ كما أحسب ـ هو حينما يكون هناك فراغاً سردياً فاضحاً ( خللاً فنياً) في متن القصة القصيرة، ويحدث أن يعجز القاص عن تسليط ضوء السرد الكاشف على بعض الأماكن المظلمة لمليء ذلك الفراغ السردي، أو لإضاءة العتمة في بنائها الفني، فيلجأ القاص الموهوب الى تكميل البناء بالمقدمة، لأنه يدرك جيداً بأنه لا يمكنه ملؤه داخل متن قصته دون السقوط في محاذير ومطبات وآفات القص وهي: الإنشائية والمباشرة والتقريرية والوعضية... الخ.

مما يحبط من قيمة القصة فنياً؛ وتحاشاً لهذا يلجأ الى شبه الحيلة الفنية لمعالجة مثل هذا الخلل البنائي في سرده، من أجل ردم هذه الهوة ( الفراغ) في متن قصته.

وطبعاً مثل هذه المطبات الفنية لاريب تعد من أكثر مقاتل القصة القصيرة الحديثة، والتي يسقط بها القصاصون في العديد من المواضع حتى في القصة الواحدة أحياناً، خاصة المبتدئين منهم، وأحيانا ومما يؤسف له فعلاً، يرتكب مثل هذا الخلل حتى بعض الراسخين.

طالب عباس الظاهر