حاكت أيادي الغدر خيوط الفجيعة العظمى في هذه الليلة

ليلةُ التاسع عشر من شهر رمضان، لتحيل رداء الفجر الأبيض، الى سواد حزنٍ، وندبة ألمٍ في سويداء القلوب.

فاجعة جرح لا .. لن يندمل.

 فجر سواد انبلج صبحه وهو مخضب بحمرة الدماء الطاهرة لولي الله. 

 ( تهدمت والله أركان الهدى)

نعاه بهذا النداء منادي السماء..

ليلة حزن؛ وأي حزن ذاك بسواد ادلهمت فيه الأعين؟ وانجرحت فيه شغاف قلوب الخلائق؟ وبكته ملائكة السماء.

لتسع عشرة مضت من شهر الصيام، وفي ليلة مباركة تعد بألف شهر صام بها القلب عن صوت نبضه،

ليفطر بصرخة تصم مسامع الكون بنبأ الاغتيال المفجع، والرحيل الأبدي عن هذه الحياة الدنية للخلود السرمدي.

ليلة رتُلت فيها حروف القرآن لتتهجد بالوداع؛ فترسم ظلال الجرح على وجه السماء، وتنزف مع انسكابها بقايا الأمل، لتروّي جدب صحارى الغياب بأمصال التيه في وهاد الضياع.

ليلة رحيل هي لنبض الرحمة في أنامل رجل أدمنت يداه الحنو.. بالمسح على رؤوس اليتامى، وتفقد المساكين، وحمل لهم على ظهره ثقل ماءهم وزادهم،

فرسم بخطاه المباركة خارطة الأمان لجموع اليتامى الجياع والمساكين ، وزرع في مفازات هلعهم دفء الحنين، لتتلقفهم بعده مخالب الصقيع.

( تهدمت والله أركان الهدى)

في كفيه توضأ الكرم ساجداً بشرع خاتم أمسى صدقة خالدة, شهدت عليها صلاته التي لم تنقطع عن الله إلا لله، وتبركت شمس ردت من مغيبها بمشيئة الله أكراما لتضرعه العظيم.

هو الفدائي الأول لرسالة الإسلام، هو الأمير والوزير بأمر الوحي، هو الساقي على الحوض، هو قسيم الجنة والنار، هو امتداد لعصمة النبوة بالإمامة، إذ قال له الحبيب المصطفى:(أنت مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي)، حتى الاوز عند خروجه الأخير صاح هلعاً من فقده.. يرجوه المكوث، وحتى المسمار في باب داره دبت فيه روح اللهفة والوجع، فتمسك بأطراف الرداء شاهقا بصمت حزين: إن عد يا أمير المؤمنين ففي محرابك ينتظرك رسول الموت بسيف المرادي المسموم بالحقد والضغينة ليفلق هامتك المقدسة.

فاجعة قامت ما بين الأرض والسماء، لا تضارعها فاجعة سوى فاجعة الفقد للحبيب المصطفى.

( تهدمت والله أركان الهدى)

ابتسامة حلت في وجه النور، مسحت عيون الجدران الباكية بأرغفة من الرحمة، ولسان حالها اليقين، في محرابي ينتظرني الفوز المبين، ستمضي روحي محلقة للقاء الحبيب وبضعته.. لفرط شوقي هان علي أن أأتزر بكفني قبل أن أمضي للصلاة.

ها هي خفافيش الغدر تتخاطف في أزقة الكوفة المظلمة، تتربص بقدوم النور على هيئة أشباح أنسية ارتدت جسد أشقى الأولين والآخرين أبن ملجم اللعين، يخفي ضربة غدر يندى لها جبين الوحوش الضواري, وتفجع لهولها كل روح اقترنت بجسد أو حتى انتزعت لتسمو في عليين, وتدمي قلوب نفذ لشغافها العشق لأسمه المشتق من أسم العلي الأعلى, وتكبل الأيتام بيتم أقسى, وتكبد الثكالى آهة حرى, وتنفصم لجلل طبرته العروة الوثقى

(فزت ورب الكعبة).

 هذا هو الفوز العظيم بالشهادة وأية شهادة ؟ في المحراب وأثناء السجود من صلاة الفجر....

فيحدث ان يكون الجرح شفاها تضم بين حدودها أذانا، كلما توجع كبرت له ملائكة السماء .. ليتشهد الفجر همسا في مسامع المصلين .. ثم يقيم الصلاة ملك الموت، فيركع امام مئذنة هامته، وطهر دمه المستباح فوق تربته، ليسجد الموت انحناء لا انحناء لظهر.. بل أجلالا لعظيم سيهب الحياة ويكون حبه المقرون بالعمل جواز سفر الخلود.

 

إيمان كاظم الحجيمي