جلست سيدة نساء قريش تستمع بشغف، وتتأمل ما يرويه غلامها ميسرة عن نبل محمد، وأخلاقه، وسيرته العطرة ..

لقد أدركت بذكائها، وتوسّمت انه سيكون رجل الزمن الآتي، وتأكدت فراستها مما سمعته من بعض علماء عصرها بأن محمدا هو الإنسان الكامل، والرجل المثالي الذي اختارته السماء، لتختتم به سلسة الأنبياء، وليكون المنقذ الذي سينتشل العالم من وحل الجاهلية، والتعاسة، والتخلف .

وعاشت السيدة الطاهرة حلم الاقتران بفتى بني هاشم، وزهرة شبابهم، صاحب الشخصية المفعمة بالفضائل، العابقة بأريج الخُلق السماوي ..

ومن سوى السيدة خديجة المرأة العاقلة، الفاضلة سيدة مكة الأولى تستحق الاقتران بمحمد، ومن سواها من النساء يمكن أن ترتفع إلى مستوى حياته بما سوف يكتنفها في المستقبل من جهاد وصبر، امرأة بحر عطائها لا تحدّه شواطئ، وقلبها يسع الكون رأفة ورحمة .

امرأة مستعدة - بما تمتلكه من وعي وإيمان مطلق- لأن تواجه طغيان المجتمع القاسي والجاهل في سبيل الأهداف السامية التي يسعى لتحقيقها، وتكون جديرة بمشاركته رحلة الدعوة بما تكتنفها من مشاكل وعقبات .

ومن دون الالتفات إلى الموروث القيَمي للمجتمع الذي كانت تعيش فيه؛ أولت السيدة خديجة ظهرها لكل من يحيطها من الرجال مهما كانت امتيازاتهم، وسعت إلى من حلّقت نحوه الروح، إلى الرجل الذي اختارته لتحقق معه الهدف الأسمى، فكان الزواج الاستثنائي، والقران الميمون المبارك الخالي من كل الدوافع المادية، وثمرة حب وتعلق، وغوص في أعماق الروح المقدسة، واستشراف للمستقبل، لقد كان زواجا أنفسيا من الطراز الأول .

وكانت للزوج العظيم سكنا، ودفئا، وعضدا، وكانت الحبيبة التي يسكنها الوجد بلا هوادة، المنتظرة عودته من خلوات العشق في غار حراء بشوق وصبر، المتطلعة معه بشائر الرسالة الخاتمة، ليكون قلبها أول قلب يغمره ذلك النور السماوي، وبيتها أول بيت تشرّفه رسالة الإسلام  .

ومنذ أن هبط الأمين من جبل النور حاملا معه أمل الإنسانية، وشفاء أوجاعها، وضعت السيدة خديجة كفها بكفه، وشدّت مئزر الجهاد بإيمان صادق، وبعزيمة لا تنثني، ووفاء منقطع النظير إلى آخر نفس، وآخر نبضة قلب؛ فاستحقت مدح السماء بجدارة : ( يا خديجة . . إن الله - عز وجل - ليباهي بك كرام ملائكته كل يوم مرارا ) ، بل ولتكون أفضل نساء الجنة: ( افضل نساء أهل الجنة خديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، ومريم بنت عمران، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ) .      

 وبعد هذا التجلي الفذ لكمال امرأة ملأت حياة رجل الإنسانية الأول وقلبه بأجمل عناوين الحب والإخلاص والتضحية، وبعد أن أكرمتها السماء فجعلتها أماً لبضعته الزهراء، بل لتكون الزوجة الوحيدة التي أنجبت له الذرية التي منها امتداده المبارك، الا تستحق أن يبادلها المشاعر نفسها، وأن لا تفارق ذكراها قلبه النبيل ؟

ويبقى لسانه الشريف يردد الثناء عليها بلا انقطاع؛ ويذكر فضائلها ويعبّر عن عمق محبته لها ويردّ على من يحاول الإساءة إلى ذكراها: ( ما أبدلني الله خيرا منها، كانت أم العيال، وربة البيت، آمنت بي حين كذبني الناس، وواستني بمالها حين حرمني الناس، ورزقت منها الولد وحرمت من غيرها ) ..

 

خديجة أحمد موسى