الحلقة الثانية

ما إن ودع الحسين (عليه السلام) أم سلمة ومضى حتى أحسّت بأن الموت يغزو قلبها, تذكرت القارورة فأخرجتها ووضعتها في متناول يدها, وكانت تنظر إليها كل يوم وقلبها يخفق بشدة.., وكلما رأتها على حالها تحمد الله وتشكره في قلبها وتهمس مع نفسها: الحمد لله لا زال ولدي وحبيبي وقرة عيني حياً.. وتبتسم وهي تنظر إلى القارورة التي لا تزال تراباً.., لكنها سرعان ما يخفق قلبها وينقبض حالما تتذكر نبوءة زوجها العظيم بأن هذه القارورة ستمتلئ في يوم من الأيام دما وإن هذا اليوم قد صار وشيكاً.. فتتقاطر دموعها على خديها بصمت. لقد طرقت النوائب والمآسي قلبها, وتحمّلت الشدائد في سبيل الدعوة الشريفة، وأول مصاب نزل عليها كان استشهاد زوجها أبي سلمة الذي فاضت روحه بين يديها من أثر جرحه, فوجدت من يواسيها في محنتها ويخفف عنها كربتها ويعزيها عن مصيبتها, حيث تزوجها رسول الله الذي حفظ أبا سلمة في ذريته, ولكن الجرح الذي اندمل سرعان ما انفتق بوفاة رسول الله, لقد فقدت الآن قيّمها ومعيلها, وكان لموقفها العظيم في الوقوف مع الزهراء (عليه السلام) ضريبته القاسية لدى السلطة حيث أشار عمر على أبي بكر بمنع عطائها!! مُنع عطاؤها وهي زوجة النبي فعاشت حياة التقشّف والمعاناة وكانت تتوقع منهم هذه المعاملة الجائرة بعد أن منعوا سيدة نساء العالمين ميراثها وحقها وغضبوا حق زوجها في الخلافة.

ورغم كل هذه المعاناة التي عاشتها فقد كانت تجد في آل النبي سلوة لها فكانت ترى رسول الله فيهم.., ولكن القدر كتب على هذه المرأة المؤمنة أن لا ترى في حياتها سوى الحزن وكأن الله يريد أن يضاعف لها الثواب والأجر على صبرها وتحملها بعد أن توالت الفجائع على قلبها.

كانت تستعين بالصبر والصلاة على ما ألم بها وتشكو حزنها إلى الله.. ويحل شهر محرم وهي تنظر إلى القارورة كل يوم وقلبها يتوجّس خيفة ويخفق أكثر يوماً بعد يوم, وفي اليوم العاشر رأت ما وعدها رسول الله... خيًل إليها أنها رأت أحداث ذلك اليوم كلها وهي تنظر إلى الدم العبيط في القارورة.. شاهدت الشمس وهي تغرب باحمرار ينذر بالسخط على الأرض وكأنها تؤذن بالرحيل الأزلي، السماء تمطر دماً، علامات الغضب الإلهي تحل على الأرض، الريح تنذر بالفناء والرهبة وهي تسفي على تلك الأجساد الطاهرة المغطاة بالدماء... دماء.., هنا وهناك الأرض مصطبغة بالدماء .. أشلاء مقطعة.. وأيادٍ وأرجل مطروحة على الأرض... ورؤوس مرفوعة على الرماح... وهاجت بها لوعة الحزن والأسى وهي تنظر إلى هذه المشاهد التي تفطر القلب.. حتى دموعها لم تعد تسعفها على ما ألم بها من هول المنظر وشدة المأساة.

محمد طاهر الصفار