الحلقة الأولى

التحفت بالصبر, ولاكت ذكرياتها على غصص السنين وهي تتأمل أن ينجلي هذا الليل الذي غلف النفوس والقلوب بسحب الضلال, إنه ليل الجاهلية الذي عاد مرة أخرى بأقنعة أموية, الشمس حجبتها السقيفة, وإشراقة الوحي وأدَتْها الشورى, ومعاوية نفخ في اللات والعزى روح الكفر فاستيقظا من سباتهما على قرع طبول صفين, وما إن أدّت الرماح غايتها حتى وُئدِت المصاحف, وها هو يزيد يصقل أسياف (أشياخه) عتبة وشيبة والوليد ليعدل ميل بدر!!

لم تنس السيدة أم سلمة القارورة التي لازالت تحتفظ بها رغم مضي أكثر من خمسين سنة على وجودها في بيتها, فلا يزال صدى ذلك اليوم محفوراً في ذاكرتها .. نصف قرن مضى وهي تتمنى أن لا يأتي هذا اليوم الذي أوعدها به زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله).., نصف قرن مضى.. كانت تتمنى الموت ولا تشهد ذلك اليوم.. ولكنها الآن حية ترزق!

لقد كُتب عليها أن تكون آخر من يبقى من أمهات المؤمنين وتشهد مقتل الآلاف من أبنائها الصالحين.. كُتب عليها الحزن المستديم لما آل إليه المسلمون, فرأت وسمعت الفظائع التي ارتكبها بنو أمية..

كُتب عليها أن تبقى لتسمع بالنكبات والحروب والجرائم الأموية في هذا العهد الأسود الذي جرت فيه من دماء المسلمين ما لا يحصى عدده, وغاب مثلهم في غياهب السجون ولم يعرف خبرهم, وقتل فيه كثير من الصحابة والصالحين بطرق وأساليب شتى ولا يزال أفراد الشجرة الخبيثة يعتلون منبر رسول الله ويمارسون حكم الجاهلية وسياسة الإرهاب والقتل والتجويع والتشريد وعاثوا في الأرض فسادا وأهلكوا الحرث والنسل..

كانت تتلقى الصدمات والأخبار المؤلمة فيتفطر قلبها حزناً وأسىً.. لقد فعلت ما بوسعها من أجل نصرة الحق ووعظت وأدّت ما عليها من النصح والموعظة لأمة محمد ولكن الأمويين لوثوا كل بياض... كانت تجهش بالبكاء وتتمنى الموت قبل أن تشهد اليوم الذي تفقد فيه من بقيَ من نسل الرسول وأحب أولادها المؤمنين إلى قلبها، كان قلبها يخفق بشدة وهي تنظر إلى القارورة كل يوم منذ أن ودعها الحسين وخرج إلى العراق ثم تغمض عينيها وتحمد الله أن القارورة لم يتغير لونها ولم تتحول إلى (دم عبيط).

كان هذا ديدنها كل يوم ولكن حديث ذلك اليوم يراود ذاكرتها فتنبجس عيناها بالدموع حتى تتهالك قواها فقد أصبحت على يقين تام أنها ستفيق ذات يوم وستجد أن تراب القارورة سيتحول إلى دم كما أخبرها زوجها رسول الله (صلى الله عليه وآله) الذي لا ينطق عن الهوى تنتظر موعد الصلاة وهي تسترجع مشاهدِ تلك الليلة التي أرقت عمرها ولا تزال تستذكر كل تفاصيلها وكأنها في حلم تحاول أن تستوعبه.. يا الله هل كتب عليها أن تمتحن بهذه المصيبة التي تهدّ الجبال؟

لا تزال تذكر أم الفضل زوجة العباس بن عبد المطلب عندما دخلت على رسول الله وهي وجلة مذعورة وتقول:

ــ يا رسول اللّه إني رأيت حلماً منكراً الليلة... فقال (صلى الله عليه وآله): ـــ وما هو؟

قالت: إنه شديد

ـــ وما هو؟

ــ رأيت كأنّ قطعة من جسدك قطعت ووضعت في حجري..,

ولكن رسول الله طمأنها بأن هذا الحلم هو بشارة بمولود فقال لها:

رأيتِ خيراً, تلدُ فـاطمة ــ إن شاء اللّه ــ غلاماً فيكون في حجرك.., لم تكن أم سلمة تعلم أن وراء هذه البشارة قصة لها أثر حزين في حياتها, فاستبشرت وفرحت بالمولود الذي ستنجبه حبيبة المصطفى وبقيت تنتظر ... وتمضي الأيام ويأتي المولود الجديد وتضعه أم الفضل في حجرها كما قال رسول اللّه ثم تأتي به إلى رسول الله لتضعه في حجره فيفرح (صلى الله عليه وآله) بهذا المولود كثيراً, ولما رأت أم سلمة ذلك فرحت لفرحه (صلى الله عليه وآله) ...

ولكن فجأة حدث ما لم يكن في الحسبان!! لم تتوقع أم سلمة ما حدث لرسول الله وذهلت..! لقد رأت رسول الله يبكي والدموع تسيل على وجهه الشريف! وَجِل قلبها لبكائه وهي تحاول أن تهدئ من روعها وقالت له:

ـــ يا نبي اللّه.., بأبي أنت وأمي, مالك؟

فقال (صلى الله عليه وآله): أتاني جبرئيل (عليه السلام) فأخبرني إن أمتي ستقتل ابني هذا بعدي في أرض بشاطئ الفرات يقال لها كربلاء.

نزل الخبر عليها كالصاعقة فقالت في دهشة كبيرة:

ـــ هذا؟!!

ـــ نعم, وأتاني بتربة من تربته حمراء....

ـــ من يقتله يا رسول اللّه؟

ـــ رجل يقال له يزيد, لا بارك اللّه في نفسه, وكأني أنظر إلى منصرفه ومدفنه بها, وقد أهدي رأسه, واللّه ما ينظر أحد إلى رأس ولدي الحسين فيفرح إلا خالف اللّه بين قلبه ولسانه (يعني ليس في قلبه ما يكون بلسانه من الشهادة). وفتح رسول الله يده فإذا فيها تربة فقدمها لأم سلمة التي وقفت مدهوشة وهي تتناولها من يده الشريفة ونظرت إليها جيداً وتأملتها..

لم تكن سوى تراب !! نعم تراب لا غير!! لم تشأ أن تسأله قبل أن يكشف لها سر هذه التربة احتراماً له وهيبة منه.., وكأن رسول الله لاحظ دهشتها وعلم ما في قلبها فلم تنتظر أم سلمة طويلاً حتى قال لها:

ـــ يا أم سلمة إذا تحوّلت هذه التربة دماً فاعلمي إن ابني قد قتل..,

وَجِمت أم سلمة لما سمعت ولم تستطع الكلام, لكن رسول الله شمَّ التربة وتابع حديثه:

ـــ هذه التربة هي وديعة عندك..، ويح كرب وبلاء..

ارتعدت أم سلمة لهذا الخبر.., فهي تعلم وتؤمن إن النبي قوله حق وصدق ولا يتكلم بغير الحق, فوضعت التربة في قارورة . فكانت تنظر إليها كل يوم وتقول : ان يوماً تتحولين دماً ليوم عظيم وتهبط الملائكة لتعزي رسول الله (صلى الله عليه وآله) في ولده وهم يقولون: يا محمد سـيعطى ابنك مثل أجر هابيل, ويحمل على قاتله مثل وزر قابيل، ولم يبق في السماء ملك إلا ونزل على النبي (صلى الله عليه وآله) يعزّيه بالحسين ويخبره بثواب ما يعطى, ويعرض عليه تربته, والنبي يقول: اللّهم اخذل من خذله, واقتل من قتله, ولا تمتعه بما طلبه. ويخرج (صلى الله عليه وآله) على أصحابه فيقول:

ــ إن جبريل أخبرني أن ابني هذا يقتل, وإنه اشتد غضب الله على من يقتله. خبّأت أم سلمة القارورة في بيتها ومضت الأيام والشهور والسنين, ومات رسول الله, ولحقته فاطمة, ثم علي, ثم الحسن..! كان قلبها ينصدعُ صدعاً جديداً بموت كل واحد منهم ... ويأتي اليوم الذي جاء فيه الحسين ليودعها في سفره إلى العراق.. شعرت بأن قلبها لم يبق به موضع لصدعٍ آخر, كانت تتمنى أن تحول دونه ودون الرحيل ولكن ... اختنقت بعبرتها وهو يودعها بكلماته الأخيرة...

ـــ السلام عليك يا أماه..

ردّت بصوت ملؤه الأسى والحزن:

ــ السلام عليك يا ولدي يا أبا عبد الله ...

محمد طاهر الصفار