هي الساعات تجري, والسم في بدن الإمام يسري ...

هي الساعات تجري, وقلوب الوالهين تتفطّر ودموعهم تجري,

هي الساعات تجري, ويراع الحقيقة ينغمس في مداد النجيع ويجري , وعلى قرطاس الولاء يتلوى ويجري , ويستمد من الفكرة نوراً , يخطها ويطويها عصوراً, ... ويتسلل النور من الفكرة إلى القرطاس إلى اليراع إلى الأنامل , إلى القلب ,... ويسري!

أجل , فطلوع الفجر على بيت الإمام لم يكن يعني طلوع الفجر , بل التغلغل في الغياب, وبزوغ الشمس الكاسفة الباردة خلف سحب من صديد , لم تكن تعني سطوع السناء بل كانت ترثي سقوط السماء .

ومع تحرك الحياة في الكائنات, وتحرك الحج إلى بيت الإمام, كان المؤمنون يأتون ليتزودوا,...

ولكن , هيهات , ... وهل تستطيع نظرة أن تلمّ بامتداد النظر ؟! ... أم هل تستطيع فكرة أن تحيط بعالم الفكَر ؟! وهل تكفي لمحة من العطاء لتعوض عن عمر من الحرمان ؟!...

... ها هم أصحاب الإمام يأتون ويرحلون , يودّعون ولا يكتفون, ..

ها هو "صعصعة بن صوحان" يستأذن على الإمام , ولكن الإمام يعالج سكرات الموت , فهو يغشى عليه مرة بعد مرة , ويهيب بولده الحسن عند ذلك أن يصرف الناس , وأن لا يُدخِل عليه أحداً بعد , ...

وينقل الحسن أمر الإمام إلى أصحابه , فينظر إليه صعصعة وقد غلبته العبرة فيقول :

يا ابن رسول الله, ألا تبلغ عني أمير المؤمنين هذه الرسالة ؟

ولما يلتفت إليه الحسن متسائلاً يتابع, وهو يزدرد غصته, إن كان لمثل تلك الغصة الخانقة أن تُزدرد :

قل له : " يرحمك الله يا أمير المؤمنين حياً وميتاً , لقد كان الله في صدرك عظيماً , ولقد كنت بذات الله عليماً " .

... وأبلغ الحسن أباه بالرسالة, فكان رد الإمام, ولعله رغم هول ما به غلبه الابتسام :

قل له : " وأنت يرحمك الله , فلقد كنت خفيف المؤونة كثير المعونة !"

... على أن "الأصبغ بن نباتة " رفض أن ينصرف , لقد أخذ مجلسه قرب باب الدار , وثوى على الأعتاب كالسائل الفقير , حتى إذا تناهى إليه من داخل المنزل بكاء , لم يتمالك أن بكى , فخرج إليه الحسن , فلما وجده ابتدره يقول مترفقاً :

 ألم أقل لكم انصرفوا ؟!

خفض الأصبغ ناظريه وهو يجيب متأثراً لا يمهله البكاء :

لا والله يا ابن رسول , ما تتابعني نفسي ولا تحملني رجلاي أن أنصرف حتى أرى أمير المؤمنين .

... فعاد الحسن إلى الدار , فغاب قليلا, ثم خرج ليدعو الأصبغ للدخول .

دخل الأصبغ على أمير المؤمنين متعثراً بأذياله , لا يكاد يبصر طريقه لشدة شوقه ولهفة سؤاله , وما إن رآه حتى تهاوى أمامه مجهشاً بالبكاء من جديد .

لهفي عليك يا أمير المؤمنين , لهفي على وجهك الشاحب المصفرّ , لا يُدرى أهو أشد صفرة أم العصابة الصفراء التي عُصب بها رأسك , ... مولاي , أين حمرة لونك وتألق الورد على وجنتيك ؟!... أين بسمتك وبشاشة محياك وصفاء خديك ؟!

 انكب الأصبغ على الأمير يقبله ويزداد بكاؤه .

إيه يا أصبغ , في أي ناحية من هذا الجسم الطاهر قد طبعت قبلة الوداع والوفاء , والشوق والولاء ؟!

أعلى جبهته العلوية وقد خشيت أن تؤلم جرحه ؟!

أم على وجنته الملكوتية وقد بلغت من الحق صرحه ؟!

أم على يده الكريمة وهي واهنة القوى, تلك اليد التي طالما قبضت على ذي الفقار, وقبضت به أرواح المشركين والمنافقين والكفار ؟

أم على قدمه المقدسة التي استكانت بعد طول الهجرة والمسير , من مكة إلى المدينة , ومن المدينة إلى الكوفة , ومن الكوفة إلى ذاك المعراج الذي بوجوده يستنير , وهي في كل مكان تطؤه يتدفق الخير , في قلب الأرض وقلوب البشر , وكيف لا تفعل , ومسك الجنان عطر الكيان إذا تحرك في المكان انتشر ؟

...وتململ الأمير ناظراً إلى خله الوفي , لعل ابتسامة ما لاحت في عينيه ولم تكد تبلغ شفتيه, المشغولتين بذكر لا يفتر , وهمس له مواسياً:

لا تبكِ يا أصبغ , فإنها والله الجنة !

ارتفع نحيب الأصبغ , ولما تمالك نفسه كان لا بد من الرد , فهتف يناجيه :

جُعلتُ فداك يا أمير المؤمنين, إني أعلم والله أنك تصير إلى الجنة, ولكن, إنما أبكي لفقداني إياك !

أجل أيها الخل الوفي, وهل هناك شك في الجنة لقسيم النار والجنة؟ وهل بكى كل من بكى إلا لفقدان الملجأ والمشتكى , وفقدان هذه الجنة ؟!

رجاء محمد بيطار