ترتيلة عند القربان
رغم أن التأريخ لم يكشف عن سيرة هذه المرأة المؤمنة شيئا بل ولم يذكر حتى اسمها, إلا أن موقفها وشعرها يخترقان كل حجب الجحود التاريخي ليسطعان على جبهات المجد, فالتأريخ الحقيقي ليس له تبعية جوهرية في مضامينه الراقية, والسلطات مهما تحكمت واستبدت فإنها لا تستطيع أن تضيف لنفسها سوى أصوات زائفة تخفت أمام صوت الحقيقة.
الحرب تدق طبولها من جانب واحد وقد اجتمع الناكثون في البصرة لقتال أمير المؤمنين بعد مبايعته, فيما يحاول (عليه السلام) جاهداً أن لا يكون هناك قتال, لقد كان حريصاً على أن لا تسفك قطرة من دم.., ولكن...
كان مناديه (عليه السلام) يطوف في صفوف جيشه ويصيح: (لا تقاتلوا القوم حتى يبدؤوكم فإنكم بحمد الله على حجة وكفكم عنهم حتى يبدؤوكم حجة أخرى فإذا قاتلتموهم فلا تجهزوا على جريح وإذا هزمتموهم فلا تتبعوا مدبراً ولا تكشفوا عورة.....).
لقد بذل كل ما في وسعه في إقناع القوم لفضّ النزاع ولم يترك لهم عذراً أو حجة, ولكن القوم قد ردّوا على كل طلب للسلم بأداة للحرب, فكانت السهام تترى على جيش أمير المؤمنين ولم تبق أمام أمير المؤمنين غير وسيلة واحدة لحقن الدماء...
أخذ أمير المؤمنين (عليه السلام) المصحف بيده وطلب من أصحابه من يقرأ على أصحاب الجمل هذه الآية الشريفة: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله).
فلم يستجب أحد لهذا الطلب غير شخص واحد.., كان شاباً حدث السن اسمه مسلم بن عبد الله المجاشعي وقد خرج من بين صفوف الجيش وانتصب أمام أمير المؤمنين ووقف وقفة الرجل الشجاع مُلبياً طلبه قائلا: ها أنا ذا يا أمير المؤمنين, قد احتسبت نفسي عند الله.
كبُر هذا الموقف العظيم لهذا الشاب البطل في عين أمير المؤمنين ولكنه في نفس الوقت آلمه وهو يرى هذا الشاب حدث السن يعرِّض نفسه للموت, فأعرض عنه شفقة عليه, ونادى ثانية.. ولكن القوم كأن على رؤوسهم الطير سوى هذا الشاب الذي أبدى استعداده الكامل لتنفيذ هذه المهمة, ولكن أمير المؤمنين أشفق عليه ثانية ورأى أن يقوم بمحاولة ثالثة لعل من يقوم من في الجيش غير هذا الشاب هذا المقام ولكن لم يستجب أحد!!
ولما رأى أنه ليس من يقوم بهذه المهمة غيره أعطاه المصحف وقال له: امض إليهم واعرضه عليهم وادعهم إلى ما فيه.. فتقدم الشاب بكل صلابة وشجاعة وثبات وهو على يقين تام بما هو قادم من أجله وأي مصير ينتظره بعد أن رأى إصرار أهل الجمل على بغيهم وضلالهم في حرب أمير المؤمنين فوقف أمام أصحاب الجمل ونشر المصحف الشريف وقال:
ـــ هذا كتاب الله, وأمير المؤمنين يدعوكم إلى ما فيه...
كانت دعوة حق بالرجوع إلى كتاب الله وهي دعوة من تيقّن أنه على حق فيدعو أصحاب الباطل لحكم الله وهو بمقام القدرة وقد انتصر في هذه الحرب وليست كدعوة المهزوم الذي لجأ إلى مؤامرة رفع المصاحف لكي يتقي القتل, ولكن هل استجاب أصحاب الجمل لهذه الدعوة التي فيها حقن دماء المؤمنين ومصلحة الإسلام؟
لقد رد قائدهم على هذه الدعوة الإلهية باللجوء إلى القرآن بالدعوة إلى الحرب فصاح: أشجروه بالرماح, قبحه الله, فهجموا عليه بسيوفهم وهو أعزل ولم يكن يحمل معه إلا القرآن الكريم وقد رفعه بيمينه فقطعوها! ولكنه لم يبال بها فانحنى والتقط القرآن بيساره فقُطعت أيضاً! وانحنى ثالثة وهو مقطوع الكفين ليلتقط القرآن بأسنانه فالتفوا حوله وطعنوه بالرماح من كل جانب وقطعوه بسيوفهم...!!
هذا المنظر الدموي والمشهد المأساوي لهذا الشاب راقبته آلاف العيون ومن بين تلك العيون عينا أمه..., كانت تنظر إلى ما فعلوا به وهي مذهولة وما إن سقط ابنها شهيداً حتى ركضت نحوه وانحنت عليه واحتضنته وهي تبكي ثم جرّته إلى معسكر أمير المؤمنين وساعدها جماعة من العسكر ووضعوه أمام أمير المؤمنين فقالت:
يا ربِّ إنَّ مسلماً أتاهمْ * بمُحكمِ التنزيلِ إذْ دعاهمْ
يتلو كتابَ اللهِ لا يخشاهمْ * فخضّبوا من دمهِ قناهُمْ
وأمُّهمْ واقفةٌ تراهمْ * تأمُرُهمْ بالقتلِ لا تنهاهمْ
فرَّملوهُ رُمِّلتْ لحَاهمْ
فلما رأى أمير المؤمنين (عليه السلام) الشاب وهو مقطع بالسيوف ومثخن بالرماح رفع يديه إلى السماء وقال:
(اللهم إليك شخصت الأبصار، وبسطت الأيدي وأفضت القلوب، وتقربت إليك بالأعمال، ربنا افتح بيننا وبين قومنا بالفتح وأنت خير الفاتحين)

محمد طاهر الصفار