الحلقة الثالثة

لعل إخفاء مآثر الأشعريين في الجاهلية من الجنايات السياسية الكبيرة التي لا تحصى ولا تعد, فمن أشد الجنايات التي ابتلي بها تأريخنا هو تلاعب الأهواء والتوجهات المنحرفة بحقائقه, فوُضع من كان رفيعاً ورُفع من كان وضيعاً, وهذا الموضوع يجده الدارس والمتتبع لتأريخنا واضحاً في أي دراسة تاريخية عن الذين وقفوا ضد السلطتين الدكتاتوريتين الأموية والعباسية، وقد نال الأشعريون نصيبهم (الأوفى) من هذه الجناية فموقفهم من هاتين السلطتين كان موقف المعارض لتشيعهم وولائهم لأهل البيت لذا جهد المؤرخون ــ وهذا دأبهم ــ على اتخاذ موقف السلطة منهم وتبنيه في مؤرخاتهم والغض عن مآثرهم وأمجادهم.
ونجد في الكتاب المفقود الذي ألف عنهم خير دليل على ذلك, فرغم أهميته وكونه يتحدث عن مراحل مهمة من التأريخ لأناس كان لهم حضور مميز ودور كبير في الأحداث السياسية, إلا إنه فُقد بينما نرى أن أصابع السياسة قد اشارت إلى حفظ ما دون هذا الكتاب أهمية.
تاريخ قُم
كتاب (تأريخ قُم) حوى تلك المآثر والأمجاد التي امتاز بها الأشعريون عن غيرهم في الجاهلية والإسلام وهو من تأليف (أبي علي الحسن بن محمد بن الحسن بن السائب بن مالك الأشعري القمي) وقد ألفه سنة (378هـ)، وأهداه للوزير البويهي كافي الكفاة الصاحب بن عباد ويعد هذا الكتاب من أهم المصادر وأوفاها عن الأشعريين وأخبارهم ومآثرهم ومفاخرهم وكل ما يتعلق بهم في الجاهلية والإسلام.
يقول السيد حسن الأمين في موسوعته (دائرة المعارف الإسلامية الشيعية) (ج5ص5 الهامش) عن هذا الكتاب: (تأريخ قم ألف في 20 باباً بالعربية، نقله حسن بن علي بن حسن بن عبد الملك القمي في سنة (805 ــ 806) إلى الفارسية، ولكن لم يصل إلينا من هذا الكتاب إلا خمسة أبواب من الترجمة الفارسية . والأصل العربي وباقي الأبواب من الترجمة غير موجودة، والظاهر إنه قد ضاع)
الأشعريون في الجاهلية
يرجع نسب الأشعريين كما روى القلقشندي في كتابه: (نهاية الأرب في معرفة أنساب العرب) (ص159): (إلى الأشعر وهي قبيلة مشهورة في اليمن وهم بطن من قبيلة كهلان القحطانية), وكانوا من أشراف الجاهلية, وبلغ من شرفهم وفضلهم أنهم كانوا ملجأ الناس في الملمات والشدائد, ويدلنا قول شيخ الأباطح وسيد مكة أبي طالب بن عبد المطلب (عليه السلام) على ذلك حيث ذكرهم في لاميته العصماء التي يمدح بها رسول الله (صلى الله عليه وآله) فيقول فيها:
وحيثُ ينيخُ الأشعرونَ ركابَهم * بمفضى السيولِ من أسافٍ ونائلِ
كما أشار إلى ذلك عامر بن لؤي في قصيدته البائية حيث يقول:
إلى حيثُ يلقي الأشعرونَ ركابهم * بجنبِ ثبيرٍ ذي الذرا والمناكبِ
ومن مفاخرهم في الجاهلية إنهم نالوا شرف بناء الركن اليماني ببيت الله الحرام عند تجديد بناء البيت قبل بعثة النبي (صلى الله عليه وآله).
الأشعريون في الإسلام
يكفي الأشعريين فخراً أنهم جاءوا من اليمن إلى الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وأسلموا طوعاً ولم يشهروا سيفاً ضد الإسلام ولم يشهر الإسلام ضدهم سيفاً، فقد جاءوا مؤمنين موقنين برسالة السماء فكانت هذه الميزة نادرة بين قبائل العرب الذين كفروا بما جاء به النبي من الحق أو آمنوا بعد شك وعداء وحروب، وأول من آمن منهم مالك بن عامر الأشعري فدعا له النبي بكثرة الأولاد وكان لمالك وقومه مواقف مشرفة في نصرة الإسلام في صدر الدعوة.

 


محمد طاهر الصفار