الرحلة

 

بعد سنة من استدعاء المأمون العباسي للإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام) من المدينة المنورة إلى (مرو) ليسلّمه ولاية العهد سنة (200هـ), لم تطق أخته العلوية الطاهرة فاطمة بنت الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليهما السلام) صبراً لمعرفة مكانه وأحواله, وكان قلقها يزداد يوماً بعد يوم عليه, واشتاقت لرؤيته كثيراً, وخشيت عليه من غدر المأمون, فخرجت من مدينة جدها (صلى الله عليه وآله) عام (201هـ) لتتفقّده متوجّهة إلى (مرو), وبعد رحلة مضنية وشاقة وصلت إلى مدينة (ساوة) التي تبعد عن مدينة (قُم) (70) كم تقريباً, فمرضت هناك مرضاً شديداً فسألت عن المسافة التي تفصلها عن (قُم) ؟ فقيل لها: حوالي (عشرة فراسخ), فقالت: احملوني إليها ــ أي خذوني إليها ــ, فساروا بها إلى قُم, ولمّا وصلوا إلى مشارفها وعلِم أهل قُم بقدوم السيدة فاطمة المعصومة خرجوا بأجمعهم واستقبلها العلماء والأشراف ورؤساء القبائل وأعيان المدينة ووجهاؤها, وكلٌّ منهم يرجو أن يُحظى بشرف إقامة هذه النبعة العلوية والبضعة النبوية في داره, فتقدم موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري وهو من أشراف قُم وأمسك بزمام ناقتها وأتى بها إلى منزله وبين أهله, فبقيت سبعة عشر يوماً في داره.., ولكن مرضها ازداد وتفاقمت علتها وآلامها ولم تنفع أي وسيلة لشفائها حتى فارقت روحها الطاهرة بدنها فأمر موسى بتغسيلها وتكفينها وصلى عليها ودفنها في أرض له حيث مرقدها الآن...

لماذا قم !!
تثيرُ هذه القصة المشهورة عن كيفية قدوم السيدة فاطمة المعصومة إلى قُم, وموتها ودفنها هناك, ووصيتها بأن تُحمل إلى قُم بدلاً من بقائها في (ساوة) خاصة وأنها كانت مريضة, وتفضيلها قُم على غيرها من المدن, التوقّف حول هذا الاختيار والتساؤل:
لماذا فضّلت (عليها السلام) قُم بالذات دون غيرها ؟
ولماذا تحمّلت عناء السفر وصعوبته من ساوة للوصول إليها رغم مرضها الشديد ؟ !!
إن هذا التساؤل يأخذنا إلى تخوم التأريخ, وإلى البحث عن نواة تأسيس هذه المدينة
وكيف أرست دعائمها على التشيّع وحب أهل البيت لتصبح معقلاً من معاقل الشيعة ومركزاً مهماً من مراكز الحضارة الإسلامية في التأريخ ؟
ومن هم الرجال الذين أسَّسوا هذه المدينة ونشروا فيها التشيّع في أقسى الفترات الدموية التي مرّت على الشيعة أبان الحكم الأموي ؟
وكيف استطاع أولئك الرجال الشيعة الفرار من قبضة الأمويين واستبدادهم فخرجوا إلى حيث مأمنهم من الأرض ليتخلّصوا من أولئك الحكام والولاة المتعطّشين للدماء والذين رفعوا شعار القتل والنهب والسلب والحرق والتدمير والسبي والتنكيل والسجون والتعذيب ضد الشيعة وسخروا كل جهودهم لإبادتهم واستئصالهم...
فكيف تأسَّست قُم ؟
ومن الذي أسَّسها ؟
ومن هو موسى بن الخزرج بن سعد الأشعري الذي استقبل السيدة المعصومة في منزله ؟
الكوفة شرارة التأسيس
لم يخطر في بال الأحوص وأخوه عبد الله ابنا سعد بن مالك الأشعري أنهما سيؤسِّسان قاعدة من أهم قواعد التشيّع عندما خرجا من الكوفة ونزلا للاستراحة في هذه الأرض مع قومهما، فقد كان كل همهما حقن دمائهما ودماء قومهما من السلطة الأموية الجائرة والنجاة من الحجاج الذي قتل زعيم الأشعريين محمد بن السائب الأشعري وكثيراً من قومه ليس لذنب اقترفوه سوى تشيّعهم، فالحجاج لم يكن ليكتفي بقتل رؤوس الأشعريين حتى يُبيدهم عن بكرة أبيهم، فأخذ يتربّص بهم ويباغتهم ويقتل كل من وجده منهم ويشنّ عليهم الغارات ويوقع بهم النكبات، وقد سجن الأحوص وأخاه عبد الله ثم اضطر لإطلاق سراحهما لظروف سياسية أجبرته على ذلك ولكنه شرط عليهما البقاء في الكوفة!
كان الأحوص وأخوه يعلمان ــ كما يعلم سائر الناس ــ أن الأمويين وولاتهم لا عهد لهم ولا ذمة, فكانا يعدَّان أنفسهما من الأموات إن بقيا في الكوفة، ففي أية لحظة من المتوقّع جداً إن يرسل الحجاج إليهما من يباغتهما ويقتلهما ويحمل رأسيهما إليه، فقررا الهرب من الكوفة وتعاهدا على ذلك، وما إن حلّ الظلام حتى كانا يطويان القفار والسهول والجبال متنكّرين بزيِّ الأعراب متّجهين إلى أصفهان..، ورافقهما أخوتهما عبد الرحمن، وإسحاق، ونعيم ومن بقي من قومهما وهم يسابقون الريح إلى مأمن في الأرض حتى اجتازوا حدود أصفهان فنزلوا عند ضفاف نهر قريب من قرية في الطريق... ليستريحوا من عناء الرحلة وجهد السفر وليواصلوا رحلتهم في الصباح إلى... حيث لا يعلمون ....

 


محمد طاهر الصفار