(جازَ والله في الشرفِ حداً لا يُوصف وغايةً لا تُعرف وباللهِ أسألكَ إعفائي مما أتخوَّف) ..
إن روعة التأريخ تتجلّى في هذه الإشراقات التي أوقدت في تخومه دلائل السمو وأرست في تضاريسه دعائم الخلود ورسمت له ملامح الحقيقة التي أحيته وبعثت في فصوله دفقات الحياة, هذه الإشراقات التي انطلقت من النفوس المشرقة المضيئة التي أبت أن تنغمس مع الظلام فنفخت من سيرتها في روحه فأحيته ووهبته شخصيته وكنهه ووجوده فأصبح بفضلها الماضي الحي الذي شخص بالمواقف العظيمة والشواهد النادرة والأعمال الخالدة, فهو بدون هذه الإشراقات عقيم المغزى, عديم المعنى, إنها جوهره الذي لا يخبو, وشمسه التي لا تأفل, ومنبعه الذي لا ينضب, مهما تعاقبت عليه الحقب, بل يزداد بها تألقاً وإشراقاً يوماً بعد يوم, فهي فيه كالمطر كلما ازداد هطوله وتغلغل في أعماق التربة تتبرعم منه قامات السنابل.
إن المسار الذي رسمته تلك القامات السامقة في مدار التاريخ بمبدئها وعقيدتها كان مساراً استثنائياً خاصاً لا يتكرر كثيراً في دورة التاريخ, إنه ليس كالمسار الذي تكتبه السلطة عن أمجاد مزيفة وبطولات مزوّقة أضفت عليها شعارات جوفاء فكان مساراً للسلوك الجمعي الغبي الخاضع لإرادة السلطة ضمّ تحت مظلته الوصوليين والمتنفعين والسماسرة والمرتزقة والوضاعين ووعاظ السلاطين وغيرهم والذين تقود إرادتهم غير الواعية إرادة السلطة فينساقون لها بخضوع تام ويستجيبون لأمرها, يسالمون من تسالم, ويحاربون من تحارب, ويحبون من تحب, ويبغضون من تبغض, فهم عبيد لها مهما بلغت تلك السلطة من الظلم والجور والفساد والطغيان.
إننا هنا أمام قامة نسائية شاخصة في تضاريس التأريخ خطت لنفسها مساراً مشرقاً يختلف تماماً مع هذا المسار السلطوي بل يجابهه ويعارضه ويقاطعه, إنه المسار الذي يختط نفسه بنفسه, إنه مسار الحقيقة النابع عن إدراك كامل, ووعي تام, وصلابة لا تنثني, مسار (كلمة الحق عند سلطان جائر).
لقد كانت هذه الكلمات التي طرقت أذني معاوية في عهده وسمعها وهو جالس على عرش الخلافة من هذه المرأة المؤمنة البطلة التي لم تخش بطشه وسطوته وجابهته بالحقيقة وأثنت على عدوه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في مجلسه وأسمعته ما يكره ووجهت إليه صفعة قوية بقولها هذا الذي كان بمثابة الصاعقة التي صبت على رأسه وبقي التاريخ يتناقلها جيلا بعد جيل.
إنها السيدة جروة بنت مرة بن غالب التميمية من بني أسيد بن عمرو بن تميم كانت تسكن في مكة وهي من النساء اللواتي عرفن بالفصاحة والبلاغة والمنزلة السامية بين نساء العرب والمواليات لأمير المؤمنين والسائرات على منهجه واللاتي ثبتن على الولاء الخالص الذي لا تشوبه شائبة وكان معاوية يعرف منها هذا الولاء وفي ليلة أرق فيها استدعاها فلما دخلت عليه قال لها: (مرحباً يا جروة ! أرعناك) ؟
فقالت: (إي والله، لقد طرقت في ساعة ما طرق فيها الطير في وكره، فأرعت قلبي وأرعبت صبياني، وأفزعت عشيرتي, وتركت بعضهم يموج في بعض, يتراجعون القول، ويترددون الأمر, ويرصدون الكلام, خشية منك وخوفاً عليَّ) !
هذه الكلمات منها هي بمثابة إدانة مبطنة لاستدعائها في الليل كما إن خوف قومها عليها يكشف عن سطوة معاوية وبطشه وسفكه لدماء الموالين لأمير المؤمنين وهي قد عرفت بولائها.
فقال لها: (ليسكن روعك ولتطب نفسك فالأمر على خلاف ما ظننت، إني أحتجمت فأعقبني ذلك أرقاً فأرسلت إليك لتخبريني عن قومك).
ولا يعرف بالضبط غاية معاوية من سؤاله هذا غير أنه يتضح من خلال الحديث إنه يحاول أن يستدرجها في الكلام لإبداء رأيها في أمير المؤمنين (عليه السلام) وهي باقية على ولائها له فأبدت رأيها وصرحت عن ولائها بكل شجاعة.
قالت له: عن أي قوم تسألني؟ فقال: بني تميم، فقالت:
(هم أكثر الناس عدداً، وأوسعهم بلداً، وأبعدهم أمداً، هم الذهب الأحمر، والحسب الأفخر).
فقال: صدقت، فأنزليهم لي؟ فقالت:
(أما بنو عمرو بن تميم فأصحاب بأس ونجدة، وتحاشد وشدة، لا يتخاذلون عند اللقاء، ولا يطمع فيهم الأعداء، سلمهم فيهم وسيفهم على عدوهم). فقال لها:
صدقت، ونعم القوم لأنفسهم. فقالت:
(أما بنو سعد بن زيد مناة، ففي العدد الأكثرون، وفي النسب الأطيبون، يضرون إن غضبوا، ويدركون إن طلبوا، أصحاب سيوف وجحف، ونزال وزلف، على أن بأسهم فيهم وسيفهم عليهم.
وأما بنو حنظلة، فالبيت الرفيع، والحسب البديع، والعز المنيع، والمكرمون للجار، والطالبون بالثار، والناقضون للأوتار).
فقال: إن حنظلة شجرة تفرع، فقالت:
(فأما البراجم ، فأصابع مجتمعة، وكف ممتنعة . وأما بنو طهية، فقوم هوج، وقرن لجوج .
وأما بنو ربيعة فصخرة صماء، وحية رقشاء، يغزون غيرهم، ويفخرون بقومهم .
أما بنو يربوع ففرسان الرماح، وأسود الصباح، يعتنقون الأقران، ويقتلون الفرسان.
وأما بنو مالك فجمع غير مفلول، وعزٌّ غير مجهول، ليوث هرَّارة، وخيول كرَّارة.
أما بنو دارم، فكرم لا يدانى، وشرف لا يسامى، وعزٌّ لا يوارى).
قال: أنت أعلم الناس بتميم فكيف علمك بقيس؟
فقالت: كعلمي بنفسي فقال: فأخبريني عنهم
فقالت: (أما غطفان فأكثر سادة وأمنع قادة, وأما فزارة فبيتها المشهور وحسبها المذكور, وأما ذبيان فخطباء وشعراء أعزة أقوياء, وأما بنو عبس فجمرة لا تطفى وعقبة لا تعلى وحية لا ترقى, وأما هوازن فحلم ظاهر وعز قاهر, وأما سليم ففرسان الملاحم وأسود ضراغم, وأما نمير فشوكة مسمومة وهامة مكمومة وأرنة معلومة وراية ملمومة, وأما هلال فاسم فخم وعز ضخم وأما بنو كلاب فعدد كثير وفخر أثير وحلم كبير).
فقال لها معاوية: لله أنت فما قولك في قريش؟
فقالت: (أما قريش فهم السنام وسادة الأنام والحسب القمقام)
ثم سألها: فما قولك في عليٍّ ؟
فقالت: (جاز والله الشرف حداً لا يوصف، وغاية لا تعرف، وبالله أسأل إعفائي مما أتخوف).
لقد بيّنت بهذه الكلمات القصيرة بأن شأن أمير المؤمنين (عليه السلام) أعلى من الوصف وأسمى من التعريف وهو فوق كل ما وصفت به سادات العرب من مزايا وصفات.

 

محمد طاهر الصفار