أم الحشد ..

أم الحشد ..

عبد الهادي البابي

بعد أن حدثتّني الحاجة (أم حسين) عن قصص وحكايات الكثير من شباب الحشد الشعبي الذين مرّوا عليها في هذا المكان قبل توجّههم إلى جبهات الحرب وأكلوا من طعامها وشربوا شايها (المهيّل) الذي - حسب ماسمعته منهم بعد ذلك - يشبه الشاي الطيب الذي تصنعه أمهاتهم الجنوبيات في صباح أيام المدرسة ..صمتت أم حسين قليلاً كأنها تعبت من الكلام....مسحت يدها على وجهها.. ثم أستأنفت حديثها وثمة حشرجة ولوعة في صدرها قالت وهي تنظر إليّ بعين حانية شفيقة تشبه نظرات عيون والدتي آخر مرة رمقتني فيها وهي على فراش المرض:

أنا في هذا المكان منذ أول يوم مصيبة سبايكر ..وكل من يذهب منهم إلى هناك ويعود في إجازة يمرّ يسلّم عليّ ..كلهم ..يأتون يزورون الإمامين - العسكري والهادي - ثم يمرون عليّ وكأنني والدتهم التي تنتظرهم بلهفة...

إقتربت منها مبتسماً وقلت : يعني هل صرتُ أنا واحداً من أولادك.. ؟

راحت تتطلع بوجهي ...وتركّز نظراتها في عيني ..ثم فاضت دموعها وهي تتمتم:

 أنت تشبههُ ..تشبهه عيناً ..!!

أشبه من ياحاجة .. من هذا الذي أشبهه عيناً ..؟

أنت تشبه حسن ..وليدي ..سبّاح ﮔلبي..!!

..................

بعد نصف ساعة مضت وأنا أستمع من أم حسين إلى قصّتها الحزينة ، حيث فهمت منها  القصة كاملة ..ذهب ولدها الشاب (حسن) مع جماعته إلى قاعدة سبايكر لغرض التطوّع هناك .. وبعد أقل من يومين من وصولهم إلى القاعدة  دخل داعش إلى المنطقة وحدثت مجازر وحشية هناك ..ولم تعد تسمع الأم شيئاً عن ولدها، وإنقطعت الإتصالات معه تماماً ..ولكنها جاءت من الجنوب إلى سامراء بنفسها لتعرف مصير ولدها ..وكلما أرادت الذهاب والبحث أكثر نحو سبايكر يمنعها الجيش لإن المنطقة أصبحت بيد داعش بالكامل ..بقيت أم حسين في سامراء وهي تنام في أحد هياكل المواكب الحسينية القريبة من الحضرة العسكرية ..ووجدت طريقة لتعيل بها نفسها ..فأستعارت بعض أدوات الطبخ والأواني الخاصة بالموكب وقامت بصنع الكبة والشاي وبيع (لفّات) القيمر والجبن بالصمون والخبز للزوار والجنود لقاء مبالغ زهيدة ...ثم جاء أبناء الحشد الشعبي في أول أيام الغزو الداعشي .. فالتفّوا حولها وأكلوا من طعامها الطيب وشربوا شايها وتعرّفوا عليها وهم يسمعون دعواتها لهم بالنصر..فأحبتهم وأحبوها ..وكل من مّر عليها تحمّله أمانة ..إذا وصلتم سبايكر (شوفولي) (حسن) ...(عدل) لو (ميّت).!!

سألتُها : وأين والد حسين ..؟

رأيتُ كأن خفقة حزن مرّت على وجهها المتعب ..تثاقلت بكلامها ..أطرقت برأسها ..وكوّرت يديها في حجرها .. وبصوت خفيض فيه حشرجة وألم قالت:

أبو حسين ..ذهب إلى بغداد لغرض معاملة تقاعد سنة 2008 ..وفي طريق الدورة راح بإنفجار سيارة مفخخة ..لم نجد من أبي حسين أي شيء ....بس (عگاله) ..!!

قلت مذهولاً : بس (عگاله)....!؟؟

قالت : إي ..بس عگاله.!!

آه ياخالة .. والله مردتي گلبي ..!!

قضيت ليلتي أصارع الأرق قرب المرقد الشريف في سامراء.. حاولت أن أغمض عينيَّ بعض الوقت بعيداً عن ذاكرتي التي تعجّ بأحداث اليوم الأول ، لم أستطع .. أستيقظت في الصباح الباكر...كان عنوان الجهة التي سألتحق إليها في ورقة تستقر في جيبي ..كل لحظة أخرج الورقة وأدقق فيها ...إنطلقت بنا السيارات في طريق زراعي بإتجاه منطقة الدور ، وكلما تقدمنا أكثر تتباطأ حركة السيارة لخطورة الطريق ووجود بعض القنّاصة في البساتين التي تحيط الطريق المؤدية إلى (سور شناز) ..

عند وصولنا إلى نقطة تفتيش ..طلبوا منا الترجّل من السيارة وإكمال الطريق مشياً على الأقدام كلٌّ إلى وحدته التي يقصدها .. كان معي بعض الشباب المتطوّعين .. بقينا نمشي مسافة ساعتين ونصف سيراً على الأقدام في طُرق وعرة مليئة بالأحراش والقصب والأشجار الكثيفة ..كنا نرى من بعيد أدخنة سوداء تتصاعد في السماء جرّاء القصف العنيف لهاونات الإرهابيين على عدّة قرى قريبة ، في البداية لم نلحظ إنتشاراً كبيراً للحشد الشعبي في تلك المنطقة..ولكن خلال مسيرنا بين الأحراش لاقينا عشرات النازحين الفارّين من هول الإشتباكات في منطقة العلم والدور وتكريت وهم في طريقهم إلى سامراء بحثاً عن فرصة للنجاة من أخطار الأسر أو الموت والذبح على يد داعش .. كان أغلب النازحين من الأطفال والنساء والشيوخ وقد ساروا لمسافات طويلة في طرق وعرة منذ عدة أيام ..!!

واصلنا سيرنا إلى عمق المنطقة لنصف ساعة أخرى ، كنا نستمع فيها دويّ إنفجارات تهزّ الأرض التي كنا نسير عليها ولا نعلم مصدرها ، خلال الطريق رأينا آثاراً منتشرة لقواعد إمدادات خلفية من الجيش العراقي ، تقدّمنا قليلاً فالتقينا بمجموعة من رجال الحشد الشعبي الذين قالوا لنا: إن هذه المواقع بمثابة خطوط إنطلاق للوحدات والمجموعات المقاتلة من المتطوعين ..وعلى كل واحد أبراز عنوان وإسم مجموعته التي يريد الإلتحاق بها حتى ندلّه عليها ..

وصلنا إلى مقرّ وحدتنا المتمركزة قرب إحدى البلدات الصغيرة جنوب قضاء الدور.. كانت شوارع تلك البلدة تحكي قصص معارك لم يمرّ عليها وقت طويل، فرائحة الموت تزكم الأنوف في كل مكان، ولا تزال الشعارات المؤيدة (لداعش) باقية على جدرانها رغم إنتشار أعلام ورايات الحشد الشعبي الموجودة بين مبنىً وآخر وسط كل ما يخيم بها من ركام وأنقاض...!

كانت بعض العوائل التي لازالت تعيش هناك ..وهي بين نارين ..نار الخوف من الإرهابيين ونار القتال الذي سينشب قربها في أيّةِ لحظة ..

ما إن غربت شمس ذلك اليوم الأول الذي وصلتُ فيه إلى خطوط التماس مع العدو ، وحلّ الليل معتقاً بسديم عتمته.. حتى استنفر الشباب من أبناء الحشد الشعبي عزيمتهم واندفاعهم البطولي في مواجهة عصابات داعش.. وأوقعوا بهم شر هزيمة واستمرت المواجهات.. وفيها كانت أكوام الجِيَف الداعشية تتكاثر على الأرض... كانت قصص بطولة وتضحية لامثيل لها سطرها أبناء الحشد.. وقد تعجز حروف كل لغات العالم عن وصفها ....!!

مضى أكثر من عشرين يوماً على تواجدي في جبهات الحرب ..لم أصل إلى سبايكر ..ولم أفِ بوعدي لإم حسين ولم أبحث عن مصير إبنها المفقود (حسن) ..ولما سألت آمر مجموعتنا عن المسافة بيننا وبين سبايكر إبتسم وقال : سنصلها إن شاء الله  ..

أخيراً ..جاء موعد إجازتي الأولى ..وها أنا أنزل مع جماعتي من السيارة العسكرية التي أقلتنا من خطوط الأشتباك الأمامية حول تكريت ...هاهي سامراء ..نقطة الإنطلاق والتجمّع نحو الجنوب حيث أفواج المتطوعين الذين يتدفّقون منها وإليها كل لحظة تلبية لنداء الوطن ولوقف زحف داعش الإرهابي ..وهناك قرب ضريح العسكرين ..وبعد الوضوء جلست أعدّل من هيئتي قبل أداء الزيارة ..دخلت إلى الضريح المبارك ..ودعوت الله أن يشافي أمي من (مرضها الذي أتلف صحتها) ..ودعوت الله أن ينصر المجاهدين العراقيين من الجيش وأبناء الحشد الشعبي على أعدائهم الدو اعش  ..ودعوت الله أن يحفظ أم حسين ..(أم الحشد) وأن يفرح قلبها بولدها ..

تذكرت أم حسين وبعد أداء الزيارة هرعت لرؤيتها ..وجدت القدور مغلقة ..و(قوري) الشاي لازال على الموقد ..سألت عنها بلهفة فقال رجل مسنّ يجلس بالقرب من المكان:

أظنها ذهبت إلى (الشط ) ..!

وماذا تفعل عند الشط ياعم .؟

تذهب ..لعلها تجد جثة إبنها طافية من جهة تكريت ..لأنه في الأيام الماضية رأينا الكثير من شهداء سبايكر جاءت جثثهم طافية مع مجرى الماء في نهر دجلة ..!

ركضت مسرعاً إلى النهر ...ومن بعيد لمحت سوادة منحنية على النهر وهي تردد بصوت كله عبرة ورجاء وحزن وبكاء :

يمه حسن : آنه متانيتك يبعد أمك ..آه ..آه ..!!

في الوهلة الأولى شعرت بأنها لم تكن تريد ان يُعزّيها أحد ، فقد كانت تُعزي نفسها بنفسها والألم يعتصر فؤادها ..ولاتريد أن يسمعها أحد.!!

لما شعرت بي أقف بقربها ..رفعت وجهها بوجهي ونظرت في عيني ملياً ثم هتفت بصوت مبحوح:

وليدي مسلم ؟...هله بيك يبعد رويحتي .. گرّت عين أمك بيك يالغالي ....

ثم تفرّست في وجهي وهي تردد:  هله يبني (حسن) أوف يمه ..أوف يمه (حسن) ياريحة الغالين !!

من حسن...؟ أنا لستُ حسن ..!!!

.......

عندما رجعت إلى البيت حدثّتُ والدتي بقصة (أم حسين) وكيف أنها بقيت في تلك المدينة البعيدة عن أهلها تتطلع إلى معرفة أخبار ولدها المفقود ....فنحبت والدتي وولولت كعادتها عندما تسمع بقصة حزينة ..وقالت بعبرة وحسرة : أويلاه عليهه ..الله يساعد گلبهه ..الله يساعدهه حقها .. گلب والده ....!!

وفي تلك الإجازة أعطاني والدي دروساً عظيمة في حب الوطن والإلتزام بالأخلاق العامة والتفاني من أجل الوطن وعدم إطلاق الشعارات الطائفية في تلك المناطق ..كما وعبّر لي عن سعادته كوني وأخي الأكبر نقوم بالدفاع عن العراق وقال بأنه يفتخر بنا ويرفع رأسه عالياً بنا وحثنّا على الصبر والجد والإجتهاد والإنتباه أثناء الحركة والقتال ...فشعرت بالحماس يدبُّ في أعماقي من جديد ..!!

وأما والدتي فقبل عودتي إلى الجبهة بليلة واحدة رأيتها مع شقيقاتي - ورغم مرضها الشديد - تصنع كليجة بكمية كبيرة ..ولما سألتها عن عدم حاجتي لهكذا كمية فالطريق طويل والمتاع ثقيل ..قالت :  نصفها لك تأخذها معك وتوزّعها على أصدقائك المقاتلين ..والنصف الثاني تعطيه لإم (حسين) وتسلملي عليها ..أريدها تدعولي بالصحة ..وأنا سأدعو لها ولولدها يم (شباچ) العباس.!!

وقبل أن أخرج من البيت أعطتني والدتي حاجة خاصة لإم (حسين) عبارة عن (صرّة) قماش وضعت فيها عباءتها الجديدة التي لم تلبسها قط ..وقالت .. وليدي : هذه إمرأة بعيدة ومگطوعة عن أهلها ..ولعلها بحاجة لها أكثر مني ..!!

سافرت ليلاً تفادياً للحر ..وبعد الفجر بقليل وصلتُ إلى سامراء .. ومن بعيد رأيت (أم حسين) جالسة في مكانها المعتاد بين القدور والصواني وقواري الشاي ..وقد التفّ حولها مجموعة من شباب الحشد الشعبي  .. عندما رأتني قادماً من بعيد عدّلت من هيئتها وقالت وهي مستبشرة : هله يمه ..هله بمسلم الغالي ..تعال يمي .. ..شلونهه أمك ..إن شاء الله زينه ..آنه أندعيتلها أمس يم (شباچ) علي الهادي ..أن يشافيها ويعافيها ...!!

 خجلت أن أعطيها الحاجات (الكليجة والعباءة) أمام الناس..ولكني إضطررت لذلك لإني كنت مستعجلاً ..فلما فتحت كيس الكليجة شمّتها وراحت تردد :  أوف أوف ريحة أبا عبدالله ..ريحة كربله ..بعد عيني يكربله ...!!

ثم أخذت توزع الكليجة على شباب الحشد الشعبي الملتفّين حولها  ..وصبّت لهم الشاي وهي تقول : أدعوا لوالدة مسلم بالشفاء والصحة ..تره خطيه مريضة (عمت عيني عليها) ..!!

ماأعظمك يا أم حسين ...ما أعظم نفسك الطيبة يا أم (الحشد ) ..!

بعد الشهور الأولى ومرحلة دحر العدو والإنتصارات الرائعة التي حققها الحشد..تكاملت كتائب الحشد الشعبي وتطوّرت قدراته القتالية وأصبح بعد ذلك على أتم الإستعداد لتحرير الأراضي والمدن التي إغتصبها العدو الداعشي في بداية الإجتياح .. وفعلاً تم تحرير العديد من الأراضي والمدن والنواحي والأقضية في ديالى وحوض حمرين وشمال سامراء ..وقبلها كان تحرير جرف الصخر وآمرلي ..وأصبح الهدف الآن هو مدن محافظة صلاح الدين وأقضيتها الكبرى ..تكريت والدور والعلم وبيجي ..

كان قاطعنا في منطقة قصر العاشق ومنطقة (مكيشيفة) جنوب تكريت ..وكانت عبارة عن منطقة زراعية مليئة بالأحراش والبردي والقصب والأشجار الكثيفة ..وقد استطعنا التغلب على كل المصاعب وطرد وإخراج الإرهابيين منها ..ثم إنتقلنا إلى مناطق أخرى ..

كنت أتمنى في نفسي أن أجد خبراً ما عن (حسن) ...لإكون أول رسول لإم حسين يزفّ لها بشرى وجوده حتى ولو كان (شهيداً) كما قالت هي لنا ذات يوم :

أنا لاأتمنى أن يكون إبني أسيراً عند داعش ...بل أتمنى أن يكون مختفياً في مكان ما ..أو شهيداً مع بقية جماعته ..حاله حال أخوه (حسين) ..!

نعم(حسين) ..نسيت أن أقصّ لكم قصته وكما روتها لنا والدته (أم الحشد) ..قالت وثمة دمعة صافية تنحدر من عينيها المتعبتين:

حسين جندي محترف في اللواء  22 المشاة.....في ليلة زفافه إتصلوا به وطلبوا منه أن يلتحق بالواجب في منطقة الخالدية شمال الفلوجة عام 2014.. خفق قلبي عليه وقلت: ولدي هل عزمت على الإلتحاق حقاً ...؟  كأنه كان يعرف مصيره.. كان مصمماً على الشهادة.. كان دائماً يقول لي: إحنه رجال العراق .... إذا متنا.. هذا شرف إلنا..يمه إنتي ليش خايفة علينا ؟ ودعّنا والتحق بوحدته ..وبعد أن أكمل واجبه نزل في إجازة ليكمل ليلة عرسه ..وفي طريق أبو غريب تعرّض له الإرهابيون وكان معه جماعته فقاتلوا وحدهم قرب حائط بستان لمدة نصف يوم..وحتى بعد أن نفد عتادهم ..لم يستسلموا للإرهابيين فقاتلوا بحرابهم وبقايا بنادقهم حتى إستشهدوا جميعاً ..فقام الإرهابيّون بقطع رؤوسهم وتركوهم جثثاً ملقاة على الطريق ..!

ولكن أم حسين تقول: ولكن حسين لم يترك حرقة في قلبي مثل أخوه حسن ..لإن حسن  لازال صغيراً عمره 16 سنة فقط وهو آخر أولادي ..هو (بزر الگعدة) ..!!

بعد شهور من القتال العنيف وصلت طلائع الحشد الشعبي إلى القصور الرئاسية حيث أماكن القبور الجماعية المحتملة لضحايا شهداء سبايكر ...وقاعدة سبايكر الجوية الواقعة في مدينة تكريت محافظة صلاح الدين (170 كم شمال غرب بغداد)، تعدّ أحدى أكبر القواعد العسكرية في  العراق ... حيث تم فيها إحتجاز 2700 طالب عسكري كلهم دون سن (18 سنة) وهم تحت التدريب في هذه القاعدة وبعد سقوط الموصل بيد داعش بساعات وعندما كان الطلبة يبحثون عن سيارات تنقلهم إلى أهلهم ومدنهم في الجنوب ، خرج عليهم الإرهابيون الذين ينتمون إلى عشائر في المنطقة وأبلغوهم أنهم سيوفرون لهم سيارات تقلهم إلى بغداد.. وعندما أستقلها الطلاب تم أخذهم غدراً في عملية إختطاف جماعية إلى منطقة القصور الرئاسية التي شيّدها الدكتاتور صدام حسين في مدينة تكريت ثم أحتُجِزوا في قاعات في داخلها وكان الإرهابيّون يخرجونهم على شكل مجاميع تضم المجموعة الواحدة بين 200 و300 فرداً ، ثم يعدمونهم جماعياً باطلاق الرصاص على رؤوسهم وأجسادهم بطريقة مروعة ، وتم أيضاً إقتياد آخرين وإطلاق الرصاص على رؤوسهم ، واحدًا بعد الآخر، ورميهم في نهر دجلة الذي إصطبغ ذلك اليوم بلون الدماء .!!...

بعدها عثرنا على مقبرة جماعية وأخرى وثالثة ورابعة ..ولكنني لم أعثر على أي إسم لحسن أو أي شيء يدل عليه ..ولم يبق غير مقبرة جمعوا فيها الأطراف والرؤوس وبعض أجزاء الجسم من المقتولين ودفنوها في مكان واحد ..

لما رجعت وأخبرت أم حسين ..بأنه لايوجد اسم أو علامة تدل على ولدها ..سألتني هل هناك شيء آخر ..؟ فذكرت لها قصة المقبرة الخاصة بالأطراف والرؤوس المقطوعة دون وثائق أومستمسكات ..!!

بعدها نزلت إلى أهلي ..ثم عدت مسرعاً بعد سماعنا خبر الأستعداد للهجوم الحاسم على قلب مدينة تكريت وتحريرها نهائياً ..وكان محور تقدمنا يبدأ من ناحية العلم ...وفي طريق التقدّم مررنا على مقبرة الأطراف والرؤوس المقطوعة ..وكم كانت دهشتي كبيرة حيث رأيت أم (حسين) تجلس هناك مع بعض أهالي ضحايا سبايكر ..وكان ثمة شيء ملفوف بين يديها  ..وهي منحنية عليه ..وقبل أن أسألها بادرتني هي:

أتذكّر..عندما كان عمر (حسن) 6 سنوات إلتوت يده من (العضد) في أول أيام المدرسة ..فلم ينم ليلته تلك من الألم رغم أني (دهنتها) له عدة مرات بالدهن الحر والملح ..فمسكته بقوة وثبّته بين فخذي ووخزته بالأبرة على عضده الصغير المتوّرم حتى سالت الدماء الفاسدة من يده وهو يصرخ... ولم أريد أن أشوّه يده الجميلة الصغيرة ..فوشمت في المكان عليها - كما كانت تفعل أمي رحمها الله - (صورة سعفة نخيل)..!!

ولما فتحت (أم حسين) ذلك الشيء الملفوف بخرقة بيضاء ..وإذا بذراع مقطوعة من الزند ومشوّهة ..وثمة صورة (وشم السعفة) لازال واضحاً على عضدها ..!!

وقبل أن أودع (أم حسين) لألتحق مع جماعتي أنتبهت إلى شيء عجيب في تلك اليد المقطوعة ..رأيت كّف حسن مقبوضة على أصابعها الأربعة ..إلاّ من سبابتها (المدماة) التي كانت تشير إلى جهة العدو ..وكأنه يقول لنا ..لاتتوقفوا ..إنطلقوا ..!!!!

فانطلقنا ..!

عبد الهادي البابي

 

 

 

 

  

gate.attachment

: عبد الهادي البابي