عرفة .. ضيافة الله

"وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ* لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ* ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ*" (الحج 27/28) .

أيّة دعوة أشرف من هذه الدعوة ؟ وأيّ نداء أقدس من هذا النداء ؟ وأيّة نعمة أوفر من هذه النعمة، أجل لا شيء أسبغ من هذه الرحمة الإلهية على العبد حينما يدعوه سبحانه وتعالى إلى ضيافته فيغمره بفضله ويأمنه في بيته، وطوبى للعبد وهو ينعم بهذه الآلاء عندما يجيب هذه الدعوة في قدومه من فج عميق ملبياً نداء الحق تعالى ومستجيباً لأمره يبتغي بذلك القربة إليه والمنزلة لديه والمغفرة منه في البيت الحرام الذي جعله الله مثابة للناس وأمناً مباركة وهدى للعالمين.

السمو في طاعة الله

الحج يمثل أعلى مراحل التوحيد ونفي الشرك، وفضلاً عن الإخلاص في العبودية لله تعالى فهو مليء بالدروس والعبر التي يستلهمها المسلم لبناء الجانب المعنوي في حياته، والمتأمّل في هذه الدروس يجد فيها المعنى السامي والهدف الرفيع الذي من أجله فرض الله تعالى على المسلم هذه الفريضة الشريفة.

ونجد في خطبة أمير المؤمنين (عليه السلام) ما يوضح هذه الدروس التي تغذّي المسلم تغذية روحية عندما يقول: (وفرض عليكم حج بيته الحرام الذي جعله قبلة للأنام، يردونه ورود الانعام ويألهون إليه ولهَ الحمام، جعله سبحانه علامة لتواضعكم لعظمته، وإذعانكم لعزته، وأختار من خلقه سماعاً أجابوا إليه دعوته وصدقوا كلمته، ووقفوا مواقف أنبيائه، وتشبهوا بملائكته المطوّفين بعرشه، يحرزون الأرباح في متجر عبادته ويتبادرون عند موعد مغفرته، جعله سبحانه وتعالى للإسلام علما وللعائذين حرماً، فرض حجه، وأوجب حقه، وكتب عليكم وفادته فقال سبحانه، ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً).

ويتضح من خلال هذه الكلمات معنىً سامياً في الحج وهو أن الله سبحانه وتعالى يريد للمسلم أن يرتقي في تواضعه لعظمة الله ويسمو في إذعانه لعزة الله فهو عندما يقف في ذلك الموقف فأنه يتشبه بالأنبياء والملائكة فلا يفكر في تجارة سوى عبادة الله ومغفرته ورضوانه فهو في حرم الله وأمنه.

وهناك معنى آخر من معاني فرض الحج تطرق إليه أمير المؤمنين (عليه السلام) في بعض كلماته حينما قال:(فرض الله الإيمان تطهيراً من الشرك والصلاة تنزيهاً عن الكبر والزكاة تسبباً للرزق والصيام ابتلاء لإخلاص الخلق والحج تقوية للدين).

ولا يخفى هنا المعنى العظيم للحج حيث أن قوة المسلمين والدين تكون في توحّدهم وتكاتفهم وهذا ما يعطيهم الهيبة في نفوس أعدائهم وهو ما يتحقق في الحج فضلاً عن ما يتحقق من خلال اجتماعاتهم من التآلف ونبذ الفرقة والعمل على جمع الصفوف.

وهذا المعنى تطرَّقت إليه السيدة فاطمة الزهراء (عليها السلام) في خطبتها عندما قالت: وفرض عليكم الحج (تشييداً للدين)، ونجد هذا المعنى يتجسد في قول الإمام الصادق (عليه السلام) أيضاً في قوله: (لا يزال الدين قائماً ما قامت الكعبة).

وقد أكدت الأحاديث الشريفة للنبي الأكرم (صلى الله عليه وآله) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام) على أهمية الحج كونه يمثل إحدى دعائم الإسلام الخمس وهي الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج والولاية لأهل البيت كما في قول الإمام الباقر (عليه السلام): (فترك الحج عند الاستطاعة نظير ترك الصلاة أو الزكاة أو الصوم).

الآثار المترتبة على ترك الحج

وقد حرصت الآية الكريمة على منزلة هذه الفريضة عند الله وبيّنت ما يؤول إليه مصير من تركها بقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً ومن كفر فإن الله غني عن العالمين).

وفي الكافي سأل علي بن جعفر أخاه الإمام الكاظم (عليه السلام) عن قوله تعالى: (ومن كفر) قال، قلت: ومَن لم يحج منّا فقد كفر ؟ قال (عليه السلام): (لا، ولكن من قال ليس هذا فقد كفر)، وهناك الكثير من هذه الاحاديث يجدها القارئ في المصادر المعتبرة تدلنا على مدى تأكيد النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (صلوات الله عليهم) في فضل هذه الفريضة، كما يجد القارئ الكثير من الأحاديث في فضل الحاج وثوابه منها ما روي عن الصادق (عليه السلام): (ودّ مَن في القبور لو أن له حجة واحدة بالدنيا وما فيها).

كما وردت الكثير من الأحاديث في الآثار والفوائد الدنيوية والأخروية للحج منها قول الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) في خطبة يوم الغدير: (معاشر الناس حجّوا البيت، فما ورده أهل بيت إلا استغنوا، ولا تخلفوا عنه إلا افتقروا)، وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (وحجّ البيت واعتماره فأنهما ينفيان الفقر ويرخصان الذنب)، والرخص يعني الغسل.

وعن الإمام الصادق (عليه السلام): (الحج والعمرة سوقان من أسواق الآخرة، اللازم لهما في ضمان الله إن أبقاه أداه إلى عياله، وإن أماته أدخله الجنة)، وعن الإمام الرضا (عليه السلام): (ما يقف أحد على تلك الجبال بر أو فاجر ألا استجاب الله له، فأما البر فيستجاب له في آخرته ودنياه، وأما الفاجر فيستجاب له في دنياه).

كما توجد روايات كثيرة على لسان المعصومين عليهم السلام في الآثار المترتبة على ترك الحج وما يؤدي ذلك من عواقب وخيمة، فعن الصادق (عليه السلام) أنه قال: (من مات ولم يحج حجة الإسلام ولم يمنعه من ذلك حاجة تجحف به أو مرض لا يطيق فيه الحج أو سلطان يمنعه، فليمت يهودياً أو نصرانياً).

فالحج من أهم العبادات التي يتقرب بها الإنسان إلى خالقه ويصل إلى ساحة قدسه، والسفر إلى الحج هو السفر إلى الله تعالى للوقوف بين يدي عظمته والدخول في ضيافته في بيته الذي جعله باباً لرحمته، فمن دخله كان من الآمنين، وقد ورد عن النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله): (الحجاج والعمار وفد الله يعطيهم ما سألوا ويستجيب دعاءهم ويخلف نفقاتهم).

وعن أمير المؤمنين (عليه السلام): (الحاج والمعتمر وفد الله وحق على الله تعالى أن يكرم وفده ويحبوه بالمغفرة) وعنه (عليه السلام) أيضاً: (أن رسول الله (ص) لمّا حجّ حجّة الوداع وقف بعرفة وأقبل على الناس فقال: (مرحباً بوفد الله ــ ثلاث مرات ــ الذين إن سألوا أعطوا، وتخلف نفقاتهم، ويجعل الله لهم في الآخرة بكل درهم الفاً من الحسنات).

وتعلّمنا أحاديث الأئمة المعصومين (عليهم السلام) آداب الحج وشروطه ومن هذه الشروط الإخلاص في الحج فقد ورد في ثواب الأعمال عن هارون بن خارجة عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه قال: (الحج حجّان حج لله وحج للناس فمَن حجّ لله كان ثوابه على الله الخير، ومن حجّ للناس كان ثوابه على الناس يوم القيامة).

وفي نفس المصدر عنه (عليه السلام) أيضاً أنه قال: (من حجّ يريد الله عز وجل لا يريد به رياء ولا سمعة غفر الله له البتة)، كما تدلنا أحاديثهم (عليهم السلام) ووصاياهم على ما يجب أن يكون عليه الحجاج من كمال شروط الحج، وأن يأخذوا بالوظائف القلبية التي تشترط بالحاج، ومنها شرط الولاية. ففي الكافي عن الإمام الصادق (عليه السلام) أنه نظر إلى الناس يطوفون حول الكعبة فقال: هكذا كانوا يطوفون في الجاهلية إنما أُمِروا أن يطوّفوا بها، ثم ينفروا إلينا فيُعلمونا ولايتهم ومودتهم ويعرضوا علينا نصرتهم، ثم قرأ الآية: "فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم".

وروى الصدوق في علل الشرائع عن أبي حمزة الثمالي قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) وهو جالس على الباب الذي يلي المسجد الحرام وهو ينظر إلى الناس يطوفون فقال: يا أبا حمزة بما أُمروا هؤلاء ؟ قلت: لا أعلم، فرد عليه وقال: إنّما أُمروا ان يطوّفوا بهذه الأحجار فيعلمونا ولايتهم.

الإمام الحسين (عليه السلام) ويوم عرفة

مع ما مرّ من جملة الأحاديث والروايات المؤكدة على أهمية الحج كفريضة عبادية وسبيل إلى الله سبحانه وتعالى، ومناسبة لتهذيب النفس وتكامل الشخصية الإيمانية، فإننا أمام درس عملي في عروج النفس والتقاء المعارف والقيم والمفاهيم التي جاء بها الإسلام في دعاء يُقرأ في يوم عرفة وفي الساعات التي يقف فيها الحجيج على جبل عرفة، منذ ارتفاع الشمس في التاسع من ذي الحجة، لكنه ليس كأي دعاء، لأنه صدر من شخصية تمثل إشعاعاً من النبوة والرسالة السمحاء، إنه الإمام الحسين سيد الشهداء (عليه السلام).

فقد نقل المحدث الشيخ عباس القمّي (طاب ثراه) في مفاتيحه، عن الكفعمي في (البلد الأمين) ما صورته: روى بشر وبشير ابنا غالب الأسدي، قالا: كنّا مع الحسين بن علي (عليهما السلام) يوم عرفة فخرج من فسطاطه خاشعاً، فجعل يمشي هوناً هونا، حتى وقف هو وجماعة من أهل بيته وولده في مسيرة الجبل مستقبل البيت الحرام ثم رفع يديه تلقاء وجهه كاستعظام المسكين، ثم قال: (الحمد لله الذي ليس لقضائه دافع ولا لعطائه مانع ولا كصنعه صنع صانع وهو الجواد الواسع....) الى آخر الدعاء المعروف، الذي يحمل كل معاني الخضوع والخشوع الى الله والشكر والحمد له تعالى على نعمائه وآلائه.

وعندما يحرص المؤمنون كل عام على تجشم عناء السفر من كل حدبٍ وصوب نحو مرقد سيد الشهداء (عليه السلام) في مدينة كربلاء المقدسة لتكرار تلك الكلمات المضيئة والسامية، في ظهيرة يوم عرفة، إنما يسعون لبلوغ المرتبة السامية التي قصدها الإمام الحسين في دعائه العظيم، ولذا نجد التأكيد والحثّ في روايات المعصومين في فضل الحضور عند مرقد سيد الشهداء (عليه السلام) في هذا اليوم لينال الزائر فضيلة وثواب وقوف الحاج على جبل عرفة.

وإذا ألقينا نظرة على التأكيدات المروية عن الأئمة الأطهار (عليهم السلام) على إحياء ليلة ويوم عرفة عند مرقد الإمام سيد الشهداء، سنعرف أن تضييع فرصة قراءة دعاء الإمام والإتيان ببقية الأعمال المندوبة يُعد خسارة كبيرة لا تعوّض إلا إذا كان عناك عذر شرعي يمنع من ذلك أو يكتب الله تعالى لنا عمراً إلى السنة القادمة.

محمد طاهر الصفار

gate.attachment

: محمد طاهر الصفار