الحجاج القويم لأهل البيت عليهم السلام في مواجهة التكفير القديم

الأستاذة الدكتورة عهود عبد الواحد العكيلي                   

غير خافٍ على المتأمل لما تمرُّ به الأمة الإسلامية من ظروف عصيبة تعصف بها وتزيد من معاناة شعوبها؛ مما يجعل وجهات النظر متباعدة، والتقريب بين المذاهب صعباً ، وما ذاك إلا لتعطيل مهمة العقل في النظر المتبصِّر ، وهذا دأب التكفيريين الذين تسلَّحوا بالتطرف ونبذ كل ما يخالف أفكارهم ، فأخذوا يجعلون أصابعهم في آذانهم لكي لا يسمعوا الحق ، فباتوا صما بكما عميا ، قد ختم على سمعهم  وعلى أبصارهم غشاوة  .

تعاني الشعوب الإسلامية اليوم من تيار التكفير اللعين الذي أخذ يجرف أمامه كل شيء ولا يفرِّق بين صغير وكبير وبين نساء ورجال وبين بريء ومدان ، وما ذاك إلا لسيطرة أفكار تدَّعي الإسلام وتنادي بتطبيق أحكامه وهو منها براء، فالتكفيريون دأبهم أن يُخرجوا من الدين كل مَنْ خالفهم في الرأي وينتهكون حُرمته ويُحِلُّون دمه، ولو فتشنا في حوادث التاريخ الإسلامي عن جذور هذا التيار لوجدناه في نهج بني أمية عند تعاملهم مع أهل البيت عليهم السلام وأتباعهم ومحبيهم ، لا لنقص في منهج أهل البيت وسموِّ أخلاقهم ـ وبنو أمية أول مَنْ يعترف لهم بالفضل والسبق والنهج المتكامل ـ  وإنما غيرة وحسدا ورغبة في تضليل الرأي العام لكسب الناس إلى صفِّهم ؛ ولما كانت جهود أهل البيت عليهم السلام في مواجهة جذور التكفير وكشف زيفه صرخات في وجه الظلم وإظهار الحقيقة وممارسات إعلامية مبكرة تغير واقع الأمور وتعيد الاتزان لميزان القوى ، وتبصر الناس بالحقائق الجلية التي يحاول المزيفون التعمية عليها ؛ لذا وددت إن يكون بحثي مبيِّنا هذه الجهود الحثيثة التي أفنى أهل البيت ـ عليهم السلام ـ أعمارَهم الزكية ليُبَصِّروا الناس بما عُتِّم عليهم مهما كانت الأثمان غالية ؛ فهذه مسؤولية تحمَّلوها لأنهم عِدْل القرآن ، وعملاً بمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وللإفادة من فكر أهل البيت عليهم السلام وأساليبهم في الحجاج والإقناع في مواجهة الأزمات التي تمر بنا ولاسيما إذا تشابهت ظروفها وأسباب وقوعها ، وقد وسمته بـ ((الحجاج القويم لأهل البيت عليهم السلام في مواجهة التكفير القديم )) وقد تألَّف من ثلاثة مباحث   :

 الأول:الخطاب الحجاجي للإمام الحسن عليه السلام عرضوتحليل بلاغي.                

الثاني : الخطاب الحجاجي للإمام الحسين عليه السلام عرض وتحليل بلاغي.

الثالث: الخطاب الحجاجي للإمام زين العابدين والسيدة زينب عليهما السلام عرض وتحليل بلاغي .

فهذه نماذج ناطقة عن ذلك النهج القويم لمواجهة التضليل بالدليلين العقلي والنقلي ، وليكون ما عملوه وأبانوه  قدوة للأجيال الحالية لمواجهة هذا التيار في الوقت الحالي من دون أن يشوب تلك المواجهات الأخطاء والتطاول ، ويترك لمن يسمع ذلك من الناس رؤية سموِّ منهج أهل البيت عليهم السلام واعتدالهم، وسير أتباعهم الأتقياء على هديه .

وختمت البحث بخاتمة تضمنت أهم نتائجه ، وبقائمة لأهم مصادر البحث ومراجعه وقد جعلتها مع الهوامش بُغية الاختصار والإفادة من الصفحات المحددة للبحث لإغنائه وتكثيفه ،عسى أن يوفقني الله لكشف النقاب عن الدُّرِّ المكنون لخطاب أهل البيت عليهم السلام الحجاجي في كشف زيف جذور التكفير وأفكاره الهدَّامة متمثلا بالإمام الحسن عليه السلام  وبأبطال الطف  الذين كانوا بمواجهة تلك الجذور الإمام الحسين عليه السلام قبل معركة الطف وفي أثنائها وببطلي الطف بعد استشهاد الإمام الحسين عليه السلام الإمام زين العابدين والسيدة زينب عليهما السلام ، عسى أن أوفق لكشف النقاب عن شيء من براعة الحجاج وأدواته عند أهل البيت عليهم السلام  ،  وَآخِرُ دَعْوَانا (أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ) . 

 التمهيد: أبرز وسائل أهل البيت في مواجهة جذور التكفير :

       جعل الله تعالى  أهل البيت عليهم السلام عدلا للقرآن الكريم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( يا أيُّها الناس إني قد تركتُ فيكم أمرين لن تضـلّوا مـــا إن تمسَّكتم بهما  كتاب الله وأهل بيتي ، فإنَّ اللطيف الخبير قد عهد إليَّ أنَّهما لن يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض كهاتين ـــ وجمع بين سبَّابتيه ــــ لا كهاتين  ــــ وجمع بين سبَّابته  والوسطى ــــ لأنَّ إحديهما قُدَّام الأخرى فتمسَّكوا بهما لا تضلُّوا ولا تولَّوا ولا تَقَدَّموهم فتهلكوا ولا تعلِّموهم فإنهم أعلم منكم  ))(1) ، وأودع فيهم صفات فريدة ومميزات عديدة  امتازوا بها وأخفق أعداؤهم في الوصول إليها مثل : نسبهم الكريم وحسبهم الشريف فهم أبناء رسول الله صلى‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم و أبناء أمير المؤمنين وأبناء سيدة نساء العالمين ـ عليهما السلام ـ  وقد اعترف بذلك الأعداء قبل الأصدقاء .

شبههم الكبير خُلُقا ومنطقا بجدِّهم المصطفى صلى ‌الله‌ عليه ‌وآله‌ وسلم ومِنْ أظهر ذلك أدبهم الجم ونباهتهم وفطنتهم وخشيتهم من الله تعالى وقول الحق فلا تأخذهم فيه لومة لائم ، وتواضعهم وكرمهم وكياستهم . إعداد الرسول الكريم صلى‌الله ‌عليه ‌وآله ‌وسلم للإمام الحسن ولأخيه الإمام الحسين عليهما السلام ; ((لتسلّم مقاليد الحركة النبويّة العظيمة والهداية الربّانية الخالدة بأمر من الله سبحانه وصيانة للرسالة الإلهية التي كتب الله لها الخلود من تحريف الجاهلين وكيد الخائنين...)) (2) . امتلاك أهل البيت الحكمة وفصل الخطاب ، وقد اتَّضح ذلك في  منطقهم وقوة حججهم المتأتِّيين من علمهم الذي كانت أهم منابعه :

ــ العلم اللَّدني الإلهي ولا ريب في ذلك فهم سليلو الرسالة والإمامة وكان علمهم علماً لدنيَّاً إلهيَّاً ، وقد أورد الجاحظ في ذلك نقلا عن الإمام  جعفر بن محمد الصادق ، عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم  :(( إنَّ أبرار عترتي وأطايب أرومتي أحلم الناس صغارا وأعلمهم كبارا ألا وإنَّا من أهل بيت من علم الله علمنا وبحكم الله حكمنا ومن قول صادق سمعنا وان تتبعوا آثارنا تهتدوا ببصائرنا وان لم تفعلوا يهلككم الله بأيدينا معنا راية الحق من تبعنا لحق ومن تأخَّر عنا غرِق ألا وإن بنا ترد دبرة كل مؤمن وبنا تخلع ربقة الذل من أعناقكم وبنا فتح وبنا ختم لا بكم))(3) 

ــ العلم المتوارث عن جدهم المصطفى وأبيهم المرتضى وأمهم فاطمة الزهراء ولاسيما المعرفة الدقيقة بالقرآن الكريم نستشف ذلك مما ذكره سُليم بن قيس الهلالي عند إشارته إلى عناية أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام بالقرآن الكريم ومتابعته لكل صغيرة وكبيرة فيه ابتداء من يوم نزول أول آية فيه ومراجعته مع رسول الله صلى الله عليه وآله  ومذاكرته معه كل يوم ومعرفة دقائقه وخفاياه ، فينقل سُليم قول الإمام مجيبا عن سؤال وجِّه له حول تلقُّفه القرآن من رسول الله صلى الله عليه وآله : (( وكنت أدخل على رسول الله صلى الله عليه وآله في كل يوم دَخْلَةً وفي كل ليلة دخلة فيخليني فيها أدور معه حيث دار وقد علم أصحاب رسول الله أنه لم يكن يصنع ذلك بأحد من الناس غيري ، وربما كان ذلك في منزلي يأتيني رسول الله صلى الله عليه وآله .... فإذا كان في بيتي لم تقم من عندنا فاطمة ولا احد من ابنيَّ ))( 4 ) ، وهذا يدل على مقدار علم أمير المؤمنين ع والسيدة فاطمة الزهراء ع والحسنين ع بهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، فمعلمهم رسول الله الذي لا ينطق الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى علَّمه شديد القوى  ؛ لذا اتخذ الأعداء سبل المكر والخداع لإيذائهم وتشويه صورهم  ، لكن الأئمة عليهم السلام واجهوهم بكل بسالة وثبات وبيَّنوا للناس الحقائق مما قلب الأمور على أعدائهم كما سيكشف ذلك هذا البحث ، إن شاء الله تعالى .

أما أهم ما ميَّز خطاب أهل البيت عليهم السلام  فهو الآتي :

فصاحة الألفاظ وبلاغة العبارات والدقة في استعمال كل أسلوب في موضعه بحسب ما يقتضي السياق على وفق مقتضى الحال. كثرة حمد الله وبيان صفاته العظيمة وتفرُّده بالربوبية والرضا بما قَدَّرَه سبحانه وتناول ذلك بتفصيل في خطبهم العديدة التي وصلت إلينا؛ لتكون مقدمات إقناعية لمن آمن بذلك أن يُسلِّم بأحقية أهل البيت عليهم السلام لما أعطاهم الباري سبحانه من رفعة المكانة والتقديم وبأحقية الإمام الحسن المجتبى بالإمامة امتثالا لأمر الله تعالى وأمر رسوله الكريم صلى الله عليه وآله وسلم وضرورة استخلاف الأجدر والأفضل لقيادة الأمة. استعمال الحجة والدليلين النقلي والعقلي لإقناع السامعين ولاسيما من القرآن الكريم وأحاديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والأقوال المأثورة والأبيات الشعرية السائرة والأمثال العربية. الإيجاز والتكثيف في خطبهم ورسائلهم؛ مما يدل على تمكُّنهم من ناصية اللغة ومعرفتهم الدقيقة بأفانينها ودقَّتهم في تناول أساليبها. وهذا ما سيظهر جليا في أثناء البحث.

المبحث الأول: الخطاب الحجاجي للإمام الحسن عليه السلام في مواجهة جذور التكفير، عرض وتحليل بلاغي :

اعتاد أعداء أهل البيت ـ عليهم السلام ـ  على تعمُّد إيذائهم والنيل منهم وسبِّهم على المنابر ولاسيما سب أمير المؤمنين الإمام علي عليه السلام على المنابر ، إذ استمر ثمانين عاما  ؛ لذا كان الإمام الحسن عليه السلام يواجه ذلك إما بالمقارنة  أو ببيان فضائل أبيه أمير المؤمنين ، فمن النوع الأول قوله : (( روى الشعبي أنّ معاوية قدم المدينة فقام خطيباً فنال من علي بن أبي طالب عليه السلام ، فقام الحسن بن علي عليه السلام فخطب فحمد الله وأثنى عليه ثم قال له : إنّه لم يُبعَث نبي إلاّ جعل له وصي من أهل بيته ، ولم يكن نبي إلاّ وله عدوّ من المجرمين ، وإنّ عليّاً عليه السلام كان وصي رسول الله صلى الله عليه وآله من بعده ، وأنا ابن علي ، وأنت ابن صخر ، وجدّك حرب وجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ، واُمّك هند واُمّي فاطمة ، وجدّتي خديجة وجدّتك نثيلة ، فلعن الله ألأمنا حسباً وأقدمنا كفراً وأخملنا ذكراً وأشدّنا نفاقاً  ، فقال عامّة أهل المسجد : آمين ، فنزل معاوية فقطع خطبته ))(5)

الملاحظ على هذا النص ما يأتي :

استعمال المقارنة وهي من أقوى آليات الحجاج حتى يعلم الناس الجهتين المتحاجتين ويرسموا صورة واضحة لكل منهما من خلال تلك المقارنة . وجود أنواع الأخبار الثلاثة وذلك بحسب نسبة الشك في أذهان السامعين ، وسأذكرها بحسب ترتيب ورودها في نص الأمام : الخبر الإنكاري :وهو الذي يحتوي أكثر من مؤكد واحد وقد جاء لتعزيز حقيقة وجود وصي لكل نبي فاحتاج  التأكيد لإزالة الإنكار الذي قد يعلق بأذهان العديد من السامعين المضَلَّلين بالإعلام المعادي لأهل البيت عليهم السلام  ؛ لذلك قال : (( إنّه لم يُبعَث نبي إلاّ جعل له وصي من أهل بيته ، ولم يكن نبي إلاّ وله عدوّ من المجرمين )) فقد أكَّـد بـ ( إنَّ ) و( الحصر بــ ( ما و إلاَّ ) جاعلا ذلك داخلا في نسق التضاد فالنبي له وصي يعاضده وهو من أهل بيته وفي طريقه عدو مجرم يكيد له وهو مخالف لنهج الحق الذي بعث من اجله النبي ودعا الناس إليه ، مبينا أنَّ الوصي هو والده أمير المؤمنين ؛ ليتضح للناس علو مقام الإمام الحسن عليه السلام بإزاء عدوه  . الخبر الطلبي الذي يحتوي مؤكدا واحدا لإزالة الشك الذي قد يعلق بذهن أحد السامعين ، وقد ورد في هذا النص بقولــه : ((وإنّ عليّاً عليه السلام كان وصي رسول الله صلى الله عليه وآله من بعده )) إذ أكد بـ ( إنَّ )خبر أنَّ وصي الرسول صلى الله عليه وآله من بعده هو الإمام علي عليه السلام الذي عمد معاوية إلى النيل منه في ذلك الموقف مما استدعى توكيد الإمام الحسن عليه السلام على بيان سوء ما بدر من معاوية بما لا يختلف عليه المسلمون بحيث تتضح الجريمة التي ترتكب بحق أبيه . الخبر الابتدائي : وهو الخبر الخالي من المؤكدات ، الذي لا يشك به أحد ، وقد ذكر فيه الإمام حقائق لا ينكرها سامع شهد ذلك الموقف ، مستفيدا من الموازنة بين شخصيتي الإمام الحسن عليه السلام ومعاوية ردا على ما بدر من معاوية بالنيل من الإمام علي عليه السلام ولَعْنِه شخصه على الملأ ، حيث قال : ((وأنا ابن علي ، وأنت ابن صخر ، وجدّك حرب وجدّي رسول الله صلى الله عليه وآله ، واُمّك هند واُمّي فاطمة ، وجدّتي خديجة وجدّتك نثيلة ، فلعن الله ألأمنا حسباً وأقدمنا كفراً وأخملنا ذكراً وأشدّنا نفاقاً )) ولم يخالفه السامعون فيما قرره من حقائق معروفة لديهم مقترنة بذكر أسماء الأعلام الإيجابية والسلبية . استعمل الإمام بعد ذلك أسلوب الدعاء على الأكثر لؤما والأقدم كفرا والأخمل ذكرا والأشد نفاقا من الرجلين ؛ ليوضح أنَّ اللعن يجب أن يكون لمن اتصف بالصفات سالفة الذكر وليس لمن كمل إسلامه ورفع الرسول صلى الله عليه وآله مقامه ؛ ليرد على بدعة معاوية في سب أمير المؤمنين ـ عليه السلام ـ على جلالة قدره ، فكان جواب عامّة أهل المسجد لدعـــائه : ( آمين ) وهو اسم فعل أمر بمعنى ( استجب) يطلقه المبتهلون إلى الله تعالى ولا يكون إلاَّ عن قناعة ، وكان ذلك مؤثرا في الموقف بشكل كبير ودالا على قدرة كبيرة على استثمار وسائل الحجاج الخبرية لدى الإمام الحسن عليه السلام أدت إلى إقناع الجميــع فكانت النتيجة : (( فنزل معاوية فقطع خطبته )). ورد في خطاب الإمام ذكر الضمير في الجملة الخبرية  : ((  وأنا ابن علي ، وأنت ابن صخر)؛ للدلالة على المتكلم وهو الإمام الحسن (أنا ) والمخاطب (معاوية ) بينما عبَّر عمَّن يمُتُّ لهما بصلات القربى بالكلمات في : (جدّك) و(جدّي) ، و(اُمّك) و(اُمّي ) ، و(جدّتي) و(جدّتك) ؛ ليتمكن الناس من استحضار ما يتعلق بهم من خصال حسنة أو سيئة بحسب ما ارتبط دلاليا بكل اسم من هذه الأسماء .

وقد أخذ بسطاء الناس وجهَّالهم بترديد ما كان يقوله الأمويون في حق أهل البيت عليهم السلام من غير هدى أو بصيرة ، كما في قول أحد الشاميين حين  رأى الإمام راكباً فجعل يلعنه والحسن عليه السلام لا يردّ، فلمّا فرغ أقبل الحسن فسلّم عليه وضحك فقال : (( أيّها الشّيخ أظنّك غريباً ولعلّك شبّهت، فلو استعتبتنا أعتبناك، ولو سألتنا أعطيناك، ولو استرشدتنا أرشدناك، ولو استحملتنا أحملناك، وإن كنت جائعاً أشبعناك، وإن كنت عرياناً كسوناك، وإن كنت محتاجاً أغنيناك، وإن كنت طريداً آويناك، وإن كان لك حاجة قضيناها لك، فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك ؛ لانّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً )). فلمّا سمع الرّجل كلامه بكى، ثمّ قال: (( أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي والآن أنت أحب خلق الله إلي ، وحوَّل رحله إليه ، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم.))(6)

الملاحظ على هذا النص ما يأتي :

إظهار الأدب في الخطاب الذي رد به الإمام على من أساء إليه ؛فأبان حلمه بإزاء طيش مَنْ خاطبه وجهله بقيمة مَنْ يكلِّمه ، حيث ابتدأ الإمام بالنداء مع تلمس العذر للمخطئ في  : (( أيها الشيخ أظنك غريبا ولعلك شبهت ))، فلو كان من أهل المدينة ما تجرأ على الإمام ، ولو عرفه حق معرفته ما تفوه بما نطق ، مستعملا ما يدل على عدم الجزم بالمعرفة في : (( أظنُّك و لعلَّك )) فكانت بداية موفقة تدل على شخص سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وما ينبغي له من الأدب الجم . غلبة استعمال أداتي الشرط ( لو) و ( إنْ )إذ جاءت كل واحدة خمس مرات بشكلٍ متتالٍ بحيث أدخل فعل الشرط في طباق مع جوابه  مستعرضا حاجات الغريب الذي يفد على غير مدينته من دون أن يستثني حاجة واحدة . إنَّ أفعال الشرط مع الأداة (لو): ( استعتبتنا ، و سألتنا ، و استرشدتنا واستحملتنا ) جاءت مباشرة بعدها وكان جوابها مشتقا منها : أعتبناك وأرشدناك وأحملناك ؛ ليجعل الجواب ألصق بالسؤال من خلال المباشرة به والاشتقاق صوتيا ودلاليا منه .

أما السؤال فالأنسب في جوابه (أعطيناك) ؛ لأنه لم يكن بصيغة (استفعل ) التي تعني الطلب حيث يمكن اشتقاق الجواب منها كما جاءت في الأفعال الثلاثة الأخرى .

استعمال الفعل الماضي الناقص المسند إلى كاف الخطاب ( كنت ) مع أداة الشرط (إن) عند التعبير عن الحاجات الفسيولوجية الشعورية الأساسية كالجوع والعري والخوف ، أو الحاجات المؤدية إليها كالفقر . (( وما بين( لو ) و( إن ) فرق في المعنى، لا بد من مراعاته، والوقوف عليه، ويتلخص في أن الأصل في( لو ) أنها أداة تمن، ثم نقلت إلى الشرط؛ وذلك من باب تعدد المعنى الوظيفي للمبنى الواحد ومن خواصها فرض ما ليس بواقع واقعًا ولهذا تستعمل فيما لا يتوقع حدوثه، وفيما يمتنع حدوثه، أو فيما هو محال، أو من قبيل المحال أما( إن ) فهي في الأصل موضوعة للشرط، ومن خواصها أن الفعل معها ممكن الوقوع، وغير ممكن)) (7)

مما يشير إلى دقة الإمام في اختيار بنى تراكيبه اللغوية وينم عن تبحر في أساليب العرب الراقية المعبرة واستغلال طاقات التركيب بالشكل الأمثل .

إنَّ استعمال (كنت) مع ( إن)  تعني اتصاف هذا الرجل بالصفات التي تلتها وهي أخبار لفعل (كان) الناقص الذي نكرر بعد ( إن ) في (جائعاً ، عرياناً ، محتاجاً  ، طريداً ، لك حاجة )) مما يستلزم منه الأدب في طلبها ولاسيما أنَّه غريب ، لا سوء الخلق الذي يخالف منطق الأشياء في أصول الطلب . الرجوع إلى استعمال لو ؛ لتظهر أدب الإمام وكرمه وحبه للضيافة فكأنه يتمنى نزول هذا الضيف على سوء فعله  وقلة أدبه مع الإمام في التصرف والحوار ، حيث قال الإمام في أدب جم وحلم كبير : (( فلو حرّكت رحلك إلينا وكنت ضيفنا إلى وقت ارتحالك كان أعود عليك )) ربط الإمام الشرط المتتالي بالأسباب الموجبة له في قوله لذلك الرجل معلِّلا : (( لانّ لنا موضعاً رحباً وجاهاً عريضاً ومالاً كثيراً )) . اتضح تأثير منطق الإمام وحسن رده وعظيم حجاجه في رد فعل الرجل المحاور وجوابه ، وتغير موقفه من الإمام بعد ما اتضحت له رفعة مكانته إلى عكس ما كان قبل محاججته كما تنقله المصادر : (( فلمّا سمع الرّجل كلامه بكى، ثمّ قال: (( أشهد أنّك خليفة الله في أرضه، الله أعلم حيث يجعل رسالته وكنت أنت وأبوك أبغض خلق الله إلي والآن أنت أحب خلق الله إلي ، وحوَّل رحله إليه، وكان ضيفه إلى أن ارتحل، وصار معتقدا لمحبتهم.))(8)

وقد يستعمل الأمويون مع اللعن الحوار الدال على أنهم أفضل من أهل البيت عليهم السلام ، كما حصل مع معاوية إذ قال عن الإمام الحسن (( أنا خير منك يا حسن، قال ــ الإمام الحسن (ع) ــ : وكيف ذاك يا ابن هند؟ ! ، قال : لأنّ الناس أجمعوا عليّ ولم يجمعوا عليك.))(9) وقد  تأملت  النص فبدا لي الآتي :

ـ أجاب الإمام خبر معاوية  (أنا خير منك يا حسن ) باستفهام إنكاري مع ندائه معاوية باسم أمه هند  الذي يدَّعي أفضليته على الإمام بما يبيِّن حقد عائلته ومحاربتها الدين ، مستعملا تقنية الحذف في ( وكيف ذاك ) إذ حذف كلمة ( الأمر) فأصل الكلام ( وكيف ذاك الأمر)  ؛ لجعل طرفي الكلام الاستفهام والنداء مندمجين من خلال حذف ما يمكن تقديره.

ـ أجاب الإمام الحسن ـ عليه السلام ـ تعليل معاوية مدعيا الفضل عليه  بإجماع الناس على معاوية وعدم إجماعهم على الإمام  الحسن عليه السلام بقول الإمام الذي سأورده كاملا لبيان تلاحم معانيه ، ثم أفصَّله بتجزئته : (( هيهات هيهات لشرّ ما علوت ، يا ابن آكلة الأكباد ، المجتمعون عليك رجلان : بين مطيع ومُكرَه ، فالطائع لك عاص لله ، والمُكرَه معذور بكتاب الله ، وحاش لله أن أقول : أنا خير منك فلا خير فيك ، ولكنّ الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل))(10) ويبرز من خلاله الآتي :

ـ المقارنة : استعمال المقارنة ، وهي إبراز أوجه التشابه وأوجه الاختلاف بين موقفين ، أو عبارتين ، أو مفهومين ، أو مثالين ، أو واقعتين ...ولها أثر بارز في

ـ الحجاج حيث يكون من الضروري الموازنة بين فكرتين أو أكثر للانتصار لهذه الفكرة أو تلك ، كما أنها مهمة من جهة حاجة المحاجج إلى هذه الآلية ؛ لإبراز أوجه التشابه والاختلاف بينه وبين مخاطبه من حيث القيم ، أو الأهداف المشتركة ، وهذا ما برز في الموازنة التي عملها معاوية لنفسه مع الإمام فأخذ الإمام (ع) بتفنيدها وقلبها  وإبراز ضعة خصمه أمام عظمته ورفعته من خلال ذكر ما عرفه الناس عن كل منهما .

ـ عمد الإمام إلى أسلوبي الطلب الأمر والنداء ، فالأمر في (( هيهات هيهات  لشرّ ما علوت )) ،حيث كرر (هيهات ) وهو اسم فعل أمر يعني ( بَعُدَ ) لتأكيد معنى بعد المفاخرة عن معاوية ؛ لأنه ركن  إلى شر ما يمكن أن يعلو به أمثاله ؛ لأنه سليل عائلة عرفت بمحاربتها رسول الله وأقرب مناصريه ، وأبرز ذلك من خلال أسلوب النداء إذ ناداه بلقب أمه في قوله : ( يا ابن آكلة الأكباد ) فهي المحرِّضة على قتل سيد الشهداء الحمزة عم رسول الله صلى الله عليه وآله غدرا والتمثيل به في معركة أحد ومحاولة أكل كبده .

ـ استعمل الإمام بعد ذلك أسلوب الخبر في قوله : (( المجتمعون عليك رجلان )) ثم تناول أسلوب الإطناب وهو أسلوب إقناعي تركيبي ، حيث أفضى إلى أسلوب التفصيل بعد الإجمال وهو من أساليب الحجاج التفسيري لإيضاح المبهم في الكلمات المجملة وقد تناوله البلاغيون القدماء ضمن أساليب البديع ، إذ فصَّل الإمام ما أجمله في كلمة ( رجلان ) بقوله : ((بين مطيع ومُكرَه ، فالطائع لك عاص لله ، والمُكرَه معذور بكتاب الله )) في نسق من المقابلة ليبين الفئتين المتضادتين اللتين كان الناس عليهما .

ـ نزَّه الإمام نفسه عن المقارنة مع معاوية باستعماله الفعل (حاش ) الذي يقرن عادة بلفظ الجلالة الداخل في شبه جملة (لله) ؛ وذلك للتعجب المؤدي إلى  تفنيد المقارنة المزعومة بقوله : ((وحاش لله أن أقول : أنا خير منك فلا خير فيك ، ولكنّ الله برَّأني من الرذائل كما برَّأك من الفضائل)) .

  والملاحظ أيضا على هذه الجمل ما يأتي :

ــ استعمال تقنية التعجب في (حاش لله) ليعضد التعجب السابق في (هيهات هيهات) ؛ ليكون أكثر تأثيرا مع إظهار تقابل المعنيين المتعجب منهما لبيان علو مكانة الإمام بمقابل ضعة مكانة معاوية.

ــ استعمال تقنية (الذِّكر) عند ذِكره الضمير المنفصل الدال على المتكلم( أنا ) ؛  لإظهار الأهمية  لتقابل تقنية الحذف السابقة .

ــ بروز أسلوبي التكرار في (خير) و(برَّأ) بعد أن جعل (خير) داخلة في نفي التفاضل ونفي جنس الخير عن الخصم في : ((أنا خير منك فلا خيرَ فيك)) ، وبعدها أدخل الفعل ( برَّأ ) في أسلوب تضاد بالمقابلة على اختلاف الضمير الذي أسندت إليه ، في : (( ولكنّ الله برأني من الرذائل كما برأك من الفضائل)) فالإمام بريء من الرذائل بمقابل خصمه البريء من الفضائل ليتوضح الفرق والتقابل بين الشخصيتين .

 

الثاني : الخطاب الحجاجي للإمام الحسين عليه السلام عرض وتحليل بلاغي. 

كان الإمام الحسين عليه السلام رجلا رساليا واعيا أهمية وجوده في الحياة والغاية منه، مدركا أثره في أداء الأمانة التي حملها له الله تعالى، والعمل من أجل الوصول إلى الأهداف السامية التي لابد من تحقيقها كما أمر رسول لله صلى الله عليه وآله وسلم، ليكون خط الإمامة متواصلا مع خط النبوة

إن ما وهبه الله تبارك وتعالى للإمام الحسين عليه السلام من مزايا فريدة من التمكن في العربية وبلاغتها قوة الشخصية وعلو الهمة وتوقد الذكاء وقوة الحافظة وسرعة البديهة والقدرة على الإقناع زيادة على صفاته الوراثية من كرم الأصل والنباهة والصلاح وحب الله تعالى والدعوة إليه وإذهاب الرجس عنه وعن آل بيته وتطهيرهم منه . لا ريب إن في ذلك كله لأثرا بالغا في نشأة هذه الشخصية الرسالية الفريدة وبنائها وتأثيرها منقطع النظير في كل من عرفها ممن عاصرها أو ممن قرأ آثارها إذ ابتعد في عنصر الزمن عنها .

لقد هيأ الإمام الحسين عليه السلام الأسباب التي تمكِّنه من أداء رسالته والقيام بنهضته المباركة على أكمل وجه من خلال علمه الواسع الذي دأب على تغذيته بحفظه القرآن الكريم وتدبُّر آياته ومعرفة كل ما يخصه من جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وأبيه المرتضى عليه السلام وأمه الزهراء عليها السلام .

 ولما كان الإمام على خلق عظيم ، وفي أعلى مراتب الإيمان بالله تعالى ؛ لذا كان في أحلك الظروف داعيا إلى الله تعالى ، مفصحاً عن نهجه الإصلاحي ، أستشف ذلك مما أوصى به الإمام الحسين عليه السلام أخاه محمد بن الحنفية قائلا : (( بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما أوصى به الحسين بن علي بن أبي طالب إلى أخيه محمد المعروف بابن الحنفية أن الحسين يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمدا عبده ورسوله، جاء بالحق من عند الحق، وأن الجنة والنار حق، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، وأني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا مفسدا ولا ظالما وإنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي صلى الله عليه وآله أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي ))(11)

فسيرة جده المصطفى الإصلاحية أخرجت الناس من الظلمات إلى النور من ظلمات الجهل  والشرك والظلم والعدوان والضغائن  إلى أنوار الهداية والتوحيد والعلم والعدل والمحبة والصلاح .

وسيرة أبيه المرتضى عليه السلام في نهجه الإصلاحي الذي برز في خطابه السياسي والوعظي وفي مناجاته لربه فلقد شغلته قضية إصلاح الناس والدين والمجتمع وإصلاح علاقة العباد بربهم التي ملكت عليه روحه ووقته و سخر لها نهجه وحياته حتى التحق بالرفيق الأعلى تبارك وتعالى ، فمما ورد في خطاب له وعظ فيه الناس حاثا إياهم على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، قوله عليه السلام  مناجيا : (( اللهم إنك تعلم أنه لم يكن ما كان منا تنافسا في سلطان ، ولا التماسا من فضول الحطام ولكن لنريَ المعالمَ من دينك ونظهر الإصلاح في بلادك ويأمن المظلومون من عبادك ويعمل بفرائضك وسننك وأحكامك، فإن لم تنصرونا وتنصفونا قوي الظَلَمَةُ عليكم وعملوا في إطفاء نور نبيكم. وحسبنا الله وعليه توكلنا وإليه أنبنا وإليه المصير.))(12)

فكان نهج الإمام الحسين سائرا على تلك الخطى النيِّرة ، ومن ينفذ من وراء السطور إلى فكره الحكيم عليه السلام  يجد دعوة حقَّة لله ،  وسعة في الرؤية وحيوية في المعالجة لا تليق إلا بمن نذر نفسه ليكون حلقة في سلسلة التغيير من أجل أن يصبح الإنسان جديرا بحمل الأمانة و إحسانها ، وعمارة الأرض وارتقاء سكانها .

وكان لابد له من إيصال مبتغاه بطريقة مقنعة من خلال لغة خطابية تحتوي وسائل إقناعية تجعل سامعيه مؤمنين بما يحاورهم به ؛ وبما أنَّ كل خطاب يهدف إلى الإقناع بقضية معينة لابد من استعمال كل وسيلة ممكنة في ذلك ، وتأتي الصياغة اللغوية البلاغية لتساعد على الإقناع والإمتاع في الوقت نفسه ، وقد وضح ذلك أرسطو فقال : لا يكفي أن نعرف ماذا نقول بل لابد أن نعرف كيف نقوله ببيان بليغ ؛ حتى نؤثر في عواطف السامعين (13) ، وأكبر دليل على حب الإمام الحسين لله تعالى ما ذكره الرواة من وصف ليلة العاشر من المحرم  : ((قال الراوي: وبات الحسين عليه السلام وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدوي النحل، ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد ))(14) ، فهل من حب لله أكثر من المبيت في أنواع العبادة ؟؟

هيأته وذكره الله تعالى ومحادثة الخصوم من أجل الهداية .

حاول الإمام أن يستقطب انتباه الناس بوسائل مختلفة منها ما يخص الهيئة المرافقة للكلام التي ظهر بها للناس ، ومنها ما يخص الخطاب والوسائل التعبيرية التركيبية التي تتميز بلفت الانتباه كالاستفهام الإنكاري وأنواع توكيد الأخبار والقَسَم بحسب تقديره لدرجة تصديقهم لها ؛ وبما أنهم قوم لدٌّ ، لذا حاول أن يصل إليهم ما استطاع إلى ذلك سبيلا ؛ إيمانا منه بضرورة إيضاح الصورة الحقيقية للناس بعد أن زيف الإعلام الأموي مآربه وأعطاها إطارا شرعيا ووصف الإمام الحسين عليه السلام بالخارج على أمر الخليفة من دون الإشارة إلى السبب الحقيقي لثورة الإمام الحسين الإصلاحية  ولضرورة إلقاء الحجة عليهم حتى لا يلام يوما أنه قصَّر في التبليغ  .

1ـ هيئة الإمام الحسين عليه السلام التي ظهر بها للناس : إن ما لفت انتباهي ما نقله الرواة عند وصفهم هيئة الإمام الحسين عليه السلام التي ظهر بها للناس ، المرافقة للكلام فقد لبس عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله وتقلَّد سيفه ، لتدل هيئته على قرابته من رسول الله وللشبه الكبير الذي بينه وبين جده ، فمن يجرؤ على قتاله بهذا الشكل فقد تجرأ على قتال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولاسيما أنهم قريبو عهد برسول الله وفيهم من رآه وفيهم من صحابته ، وأنهم سمعوا قوله صلى الله عليه وآله: ((وَقَالَ حُسَيْنٌ مِنِّي وَأَنَا مِنْ حُسَيْنٍ أَحَبَّ اللَّهُ مَنْ أَحَبَّ حُسَيْنًا حُسَيْنٌ سِبْطٌ مِنْ الْأَسْبَاطِ ))(15) ، وقد نص على تعمده ارتداء عمامة رسول الله وتقلد سيفه عندما حاجج الأعداء قائلا : ((قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذا سيف رسول الله صلى الله عليه وآله أنا متقلده؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: أنشدكم الله هل تعلمون أن هذه عمامة رسول الله صلى الله عليه وآله أنا لابسها؟

قالوا: اللهم نعم.)) (16) والكثير منهم ممن شهد صلاة رسول الله  صلى الله عليه وآله يتذكرون عندما : ((  كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم يصلى بالناس فاقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما وهما غلامان فجعلا يتوثبان على ظهره إذا سجد فاقبل الناس عليهما ينحيانهما عن ذلك قال دعوهما بأبي وأمي من أحبني فليحب هذين ))(17) ، وفي حديث آخر : (( سُئِلَ رَسُولُ اللهِ ( : أَيُّ أَهْلِ بَيْتِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ ، وَكَانَ يَقُولُ لِفَاطِمَةَ : ادْعِي ابْنَيَّ ، فَيَشُمُّهُمَا وَيَضُمُّهُمَا إِلَيْهِ.)) (18). فبعد هذا التذكير بأنه من أهل البيت عليهم السلام وأنه سبط من الأسباط وقد ارتبط حب الله وحب رسوله به وبأخيه الإمام الحسن الزكي عليه السلام ـ وسيأتي تفصيل ذلك ـ  وما رأوه رؤيا العين بما يذكِّرهم بسمت النبي وهيئته هل للأعداء من عذر في قتال الأمام الحسين عليه السلام ؟

لقد أدرك الإمام بفكره الثاقب أهمية توضيح الحقائق وبيان معالم ثورته المباركة من خلال إلقاء الحجة على الخصوم بما تقدَّم من وصف وحوار وبما سيأتي من الاستفادة من طاقات اللغة العربية في إفحام الخصم وإيضاح معالم نهضته المباركة .ليس لمعاصريه وحسب وإنما هي دروس للأجيال القادمة ومنها عصرنا الحالي الذي نحن أحوج ما نكون لمثال يحتذى في رفض الظلم ومقارعته والثورة عليه مهما علا صوته .

العرض البلاغي :

وسائل الحجاج التركيبية

ورث الإمام الحسين عليه السلام من جده المصطفى وأبيه المرتضى وأمه الزهراء صلوات الله تعالى وسلامه عليهم التمكُّنَ من ناصية القول والعلم بما في اللغة من أساليب بلاغية مؤثرة وكانت الأساليب التركيبية أكثرها لفتا للانتباه كاستعمال أساليب الطلب كالاستفهام الإنكاري والأمر والنداء ، واستعمار الأخبار الطلبية والإنكارية التي يكثر فيها التوكيد بأنواعه المختلفة لكي يزيل شك الخصوم في نواياه والإنكار الذي تظاهروا به نتيجة مجاهرته بخطه الإصلاحي الديني المناوئ لخط من نصبوا أنفسهم خلفاء على الناس وهم أبعد  الناس عن الله تعالى . لقد قدر أعداء الإمام الحسين مدى تأثير كلامه فهم يدركون أنه أمضى من سيوفهم وأشد إيلاما من هزيمتهم العسكرية وأشد تأثيرا من كيدهم ومكرهم وألاعيبهم ؛ لذا حاولوا عدم فسح المجال له بالكلام عندما طلب من عمر بن سعد الحديث إلى الناس ، فلما ألحَّ عليهم سمح عمر بذلك على مضض، بدا على ذلك الخطاب ألوان من انتقاء التراكيب وامتزاج الأساليب التركيبية بالأساليب البيانية والبديعية السياقية بحيث يصعب فصلها والحديث عنها منفردة ، وكان من أظهرها :

الاستفهام :  من المعروف أنَّ الاستفهام هو طلب  الفهم إذا كان حقيقيا على وجه الاستعلاء والإلزام ، وقد يخرج إلى غايات بلاغية منها لفت الانتباه ، والملاحظ على خطبة الإمام الحسين مع خصومه محاولة التعريف بنفسه عن طريق الاستفهامات المتكررة مع امتزاجها بالتوكيد بإنَّ حيث قال لهم : ((فقام عليه السلام واتكأ على قائم  سيفه ونادى بأعلى صوته، فقال: «أنشدكم الله هل تعرفونني ؟

قالوا: اللهم نعم، أنت ابن رسول الله وسبطه.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدي رسول الله صلى الله عليه وآله؟»

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أمي فاطمة ابنت محمد؟»

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن أبي علي بن أبي طالب؟»

قالوا: اللهم نعم.))(19) بعدها انتقل إلى التعريف بعائلته المؤمنة الكبرى قائلا : «أنشدكم الله هل تعلمون أن جدتي خديجة بنت خويلد أول نساء هذه الأمة إسلاماً؟»

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن حمزة  سيد الشهداء عم أبي؟»

قالوا: اللهم نعم.

قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن جعفر الطيار  في الجنة عمي؟»(20)

وهكذا من أجل أن يقرُّوا بأنه ابن رسول الله صلى الله عليه وآله وأنه وأهله أصل الإيمان وحملة الدين وأن من يقاتله منافقون وطلاب دنيا ، ولقد أدانهم من أفواههم . بعدها أخذ يوازن بين ما هم عليه في الدنيا وما يمكن أن يؤول أمرهم في الآخرة قائلاً : ((قال: «أنشدكم الله هل تعلمون أن علياً عليه السلام كان أول الناس إسلاماً وأجزلهم  علماً وأعظمهم حلماً وأنه ولي كل مؤمن ومؤمنة؟» قالوا: اللهم نعم. قال: فبم تستحلون دمي وأبي صلوات الله عليه الذائد عن الحوض غداً، يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر على الماء، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة؟!! قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً!!! ))(21)

وإذا دخلنا إلى معاني هذا النص وجدنا تقابلا كبيرا بين نهج الإمام الأخروي ونهج خصومه عبيد الدنيا ، وإذا تفحصنا تركيبه وجدنا أنه آزر بين الاستفهام في ((فبم تستحلون دمي)) وبين الجملة الحالية في : ((وأبي صلوات الله عليه الذائد عن الحوض غداً)) مقربا صورة ذلك الذود من خلال التشبيه المتعانق مع الحال في  : ((يذود عنه رجالاً كما يذاد البعير الصادر على الماء، ولواء الحمد بيد أبي يوم القيامة؟!!» فلقد أراد بيان البون الشاسع بين ماء الدنيا الفاني وماء الآخرة المستديم لكنهم لم يعيروا لذلك أهمية فأجابوا بما يدل على نفاقهم : ((قالوا: قد علمنا ذلك كله ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً!!! )) فلقد بدا التوكيد من خلال استعمال قد مع الفعل الماضي التي تدل على التحقيق ، والجملة الحالية في : ((ونحن غير تاركيك حتى تذوق الموت عطشاً!!!)) فيتضح من ذلك أن هؤلاء المناوئين للإمام الحسين عليه السلام ومن نصَّب نفسه خليفة على المسلمين لاعلاقة لهم بالدين وأن إدعاءاتهم وشعاراتهم واضحة التزييف ، وبان ذلك من خلال اعترافاتهم . 

وسائل الحجاج السياقية والبيانية .

اتضح استثمار الإمام الحسين عليه السلام لوسائل الإقناع السياقية والبيانية في خطبتيه كلتيهما لكنه برز في الخطبة الثانية أكثر ؛ لذا اختلف أسلوب خطابه في خطبته الثانية بعد أن وثق من عدم الجدوى من هدايتهم ، وبانت ألفاظه الشديدة ذات الجرس القوي التي تنمُّ عن شدة تناسب هول الموقف ، وبرز فيها  الوعيد الشديد بإذلالهم وإهلاكهم كما فعل بالأمم التي كذبت الأنبياء عليهم السلام فجعلهم الله أحاديث ومزَّقهم كل ممزَّق قال : ((تباً لكم أيتها الجماعة وترحاً ، حين استصرختمونا والهين فأصرخناكم موجفين، سللتم علنا سيفاً لنا في ايمانكم، وحششتم علينا ناراً اقتد حناها على عدونا وعدوكم، فأصبحتم أولياء  لأعدائكم على أوليائكم بغير عدلٍ أفشوه  فيكم ولا أملٍ أصبح لكم فيهم.))( 22)

فيتضح من النص الآتي :

ــ الدعاء عليهم بـالإهلاك ودوام الحزن  (( تبا لكِ أيتها الجماعة وترحا )) ؛ لما بدر من ضيق آفاقهم وعمى بصائرهم لأنهم طلبوا النجدة صارخين من هول الظلم والجور  فلمَّا أجابهم الإمام الحسين مؤازرا ناصحا قادما لنصرتهم خذلوه وقاتلوه من أجل الباطل ، وهذا هو فعل المنافقين ناكثي العهود .

ــ استعمال الألفاظ ذات الجرس القوي مع تكرار أصواتها من خلال الجناس الاشتقاقي في قوله : ((استصرختمونا  ، فأصرخناكم ))

 والتوازي الصوتي في : (( والهين و موجفين)) وهما بصيغتي الحال لإبراز سرعة النجدة .

ومنها الكلمات الويلات ـ مشيمٌ ، والجأش ، ضامرٌ ، يستحصف)) في قوله : (( فهلا ـ لكم الويلات ـ تركتمونا والسيف مشيمٌ والجأش ضامرٌ والرأي لما يستحصف، ولكن أسرعتم إليها كطير الدبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش ، فسحقاً لكم يا عبيد الأمة، وشرار الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة  الشيطان، ومطفئ السنن، أهؤلاء تعضدون، وعنا تتخاذلون؟!))(23)

والملاحظ على هذا النص الآتي :

ـــ بدا فيه الإمام غاضبا جدا من هؤلاء الذين لم يتركوا الإمام بل دعوه بكتبهم الموقَّعة حتى إذا جاءهم حاربوه ناكثين بعهودهم ، إذ أعاد الدعاء عليهم بأكثر من أسلوب في قوله : ((لكم الويلات ) ،و ( فسحقاً لكم)

ـ وصفهم بأوصاف الشر المتتالية مستعملا النداء  وهو من أساليب الطلب التي تسترعي الانتباه في : ((يا عبيد الأمة، وشرار الأحزاب، ونبذة الكتاب، ومحرفي الكلم، وعصبة الآثام، ونفثة  الشيطان، ومطفئ السنن))

ــ استعمال التشخيص والتجسيم وهما من خصائص الاستعارة المكنية في قوله : ((عصبة الآثام ونفثة الشيطان ومطفئي السنن )) .

التضاد عند وصفه حالهم في قوله :

 (( عضدوا الأشرار وتركوا الأخيار ))

ــ استعمال التشبيه المتتالي الذي يبين ذلك صفة  إسراع الأشرار لدعوة الإمام وأهل بيته في قوله :  ((ولكن أسرعتم إليها كطير الدبا، وتداعيتم إليها كتهافت الفراش ))(24)

ــ العودة إلى التضاد في قوله : ((أجل والله غدرٌ فيكم قديم وشحت عليه  أصولكم، وتأزرت عليه فروعكم ))(25)

 للدلالة على أن الغدر مركوز في أصولهم متوارث في خصالهم ، وسيستمر فيهم ليظهر في فروعهم الخبيثة التي ستمضي في نهج الإيذاء لآل النبي صلوات الله عليهم أجمعين .

ـ استعمال الإجمال والتفصيل والتكرار في قوله : ((ألا وإن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين: بين السلة، والذلة، وهيهات منا الذلة،))(26) فقد أجمل في قوله : اثنتين وفصِّل في قوله : ((بين السلَّة والذِّلَّة )) مبينا أنهم لن يختاروا الذلة ؛ لأنهم عنوان الكرامة : ((وهيهات منا الذِّلة )) ، وتلك كلمة ذهبت شعارا للأحرار .وقد بيَّن السبب في عدم اختيار الذِّلة بقوله : (( يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون )) أي أن الله تعالى أذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا ورسوله لا يرتضيه لهم لأنهم أولاد أنبياء وأئمة معصومون كما لا يرتضيه المؤمنون لأنهم مثلهم الأعلى  .

كما لا ترتضيه أصولهم الطيبة التي تأبى الذل والخنوع ولا يرتضيه إباؤهم وحميتهم (( وحجور طابت وحجور طَهُرَتْ وأنوفٌ حميةٌ ونفوسٌ أبيَّةٌ : من أن تؤثر طاعة اللئامِ على مصارعِ الكرامِ )). فهذه النصوص تظهر امتزاج أساليب البلاغة بعلومها الثلاثة في إبراز الإقناع .

ـ لقد تضمن التفصيل جناسا ناقصا بتغيير الحرف الأول في ( السلَّة والذِّلة ) وتكرارا لكلمة الذلة ركز فكرة إبعاد هذه الصفة عن هذا البيت النبوي الطاهر .

ـ استعمال ثلاث تشبيهات في تعبير تضمَّن توكيدات متعددة في قوله ((أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريثما يركب الفرس )) فقد بيَّن أنهم ليسوا ماكثين في دولتهم إلاَّ قليلا )) موضحا أن بناءها هش قلق وقد عزَّز صورة الدوران بتشبيهين بيَّنا  دوران الأحداث عليهم ، في قوله : (( حتى يدور بكم دور الرحى ويقلق بكم قلق المحور )) وكانت التشبيهات الثلاثة غرضها بيان مقدار حال المشبه أي حال البقاء وكيفيته .وقد تآزر مع التوكيد في (( أما ، والقسم والله )) ؛ ليتيقَّن السامع من وقوع ذلك وأنه عهد من الله لرسوله أبلغه أمير المؤمنين للإمام الحسين عليه السلام .

ــ استعمال الاقتباس القرآني في قوله : ((فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ )) (27) وهو اقتباس بالنص ؛ ليذكِّرهم بأن مصيرهم الهلاك كمصير من خالف الأنبياء ومنهم قوم النبي يونس عليه السلام وليدلل على استحضار الإمام لكتاب الله تعالى ؛ لتعزيز الحجج بوصف التناص القرآني وسيلة مهمة من وسائل الإقناع .

المبحث الثالث: الخطاب الحجاجي للإمام زين العابدين والسيدة زينب عليهما السلام في مواجهة جذور التكفير، عرض وتحليل بلاغي. 

لا ريب  أن الإمام السجاد عليه السلام قد تعرض وأهل بيته إلى حملة من التعنيف والتكفير وإلقاء الأوصاف التي لا تليق بشخصه المبارك مثل الكافر والخارجي ، من أجل تسويغ أفعال بني أمية في قتل أهل البيت عليهم السلام وقطع رؤوسهم وحملها على الرماح من بلد إلى بلد وسبي نساء آل النبي وترويعهن وترويع الأطفال ، وجعل تلك الأعمال مقبولة  لدى الناس ، وحملة التضليل الإعلامي ضدهم لا لشيء إلا لأنهم أحق منهم وأفضل ، ولأنهم يختلفون عنهم في الرأي والنهج وهذا ما يفعله التكفيريون اليوم مع المختلفين عنهم في الرأي والأسلوب والنهج  ، فلا يتورعون عن أذاهم وقتلهم وقطع رؤوسهم وكسب تأييد أمثالهم ممن يوافقونهم في أفكار التكفير والإرهاب ووسمها بالدين أو بالدفاع عنه  والذب عن حياضه .

لقد واجه الإمام السجاد والعقيلة زينب عليهما السلام  بعد استشهاد الإمام الحسين وأهل بيته وأصحابه عليهم السلام تلك الحملات بكل بسالة وكياسة وحاولا بيان الحقيقة وإجلائها وتخليصها مما شابها من التشويه والخلط والتضليل ، مما قلبَ الأمور رأسا على عقب واستل النصر الموهوم من الأعداء وقلب فرحهم حزنا ونصرهم هزيمة .

فمن ذلك ما شنَّه عبيد الله بن زياد من حملة إعلامية ضد الإمام السجاد وعمته العقيلة عليها السلام ووصفهم بالخوارج وأن الله تعالى قتلهم نقرأ من ذلك قوله للإمام السجاد عندما التفت إليه (( فقال: من هذا ؟ فقيل: علي بن الحسين، فقال: أليس قد قتل الله علي بن الحسين ؟ فقال علي: قد كان لي أخ يسمى علي بن الحسين قتله الناس، فقال: بل الله قتله، فقال علي: ( الله يتوفى الأنفس حين موتها والتي لم تمت في منامها )(28) ))(29)

فقد دمغه بالدليل القرآني الذي لا سبيل لردِّه لدحض ما قاله الطاغية : إنَّ الله تعالى قتل الحسين (ع) . وقد أثر استدلال الإمام وحجاجه بابن زياد فاستشاط غضبا قائلا : ((و لك جرأة على جوابي ؟ اذهبوا به فاضربوا عنقه ))(30) .مما أدى إلى تعلق عمَّته السيدة زينب (ع) به وتخليصه من حكم هذا الدَّعي .

وبمنطق ابن زياد نفسه خاطب يزيد الإمام السجاد قائلا : عندما أدخل مع أهل بيته أسارى على يزيد ، فقال له يزيد : (( يا علي الحمد لله الذي قتل أباك!

قال علي عليه السلام: قتلَ أبي الناسُ.

قال يزيد: الحمد لله الذي قتله فكفانيه!

قال علي عليه السلام : على من قتلَ أبي لعنةُ الله، أفتراني لعنت الله عزَّ وجل؟))(31)

ولو تفحَّصنا هذا الخطاب والاحتجاج الذي ورد فيه لوجدنا الإمام زين العابدين قد أفاد من طاقات اللغة التركيبية لإثراء دلالة خطابه وجعله مقبولا عند السامعين  فقد بدأ يزيد حواره بجملة اسمية أراد منها ثبوت معنى واستمراره ، وهو أنَّ الله تعالى هو الذي   قتل الإمام الحسين فدحض الإمام السجاد إدعاء يزيد بجملة فعلية  في قوله : قتل أبي الناس ؛ ليدل على أن ما حصل جريمة بشرية وليس قضاء إلهياً حكم به على سبط نبيه (ع) ؛ لأن هذه الجملة ـ الفعلية ـ تدل على التجدد والحدوث (32)

؛ لتناسب ما أراد الإمام التعبير عنه فالظالمون مستمرون في جريمتهم بقتل أبيه الإمام الحسين (ع) وما تبعها من إيذائه وأسر أهل بيته .فرجع يزيد إلى توكيد رأيه بقوله :(الحمد لله الذي قتله فكفانيه!) ، فردَّ عليه الإمام مفنِّدا رأيه من خلال الاستدلال واستعمال تقنيتين تركيبيتين  بقوله : ((على من قتل أبي لعنة الله أفتراني لعَنْتُ الله عز وجل؟)) ، حيث استعمل فيها تقنية تقديم  شبه الجملة الواقعة خبرا (على من قَتَلَ أبي) على المبتدأ المؤخر ( لعنة الله) لغرض خصِّ القتلة باللعن ؛ ليفضي ذلك إلى استدلاله الذي أورد فيه تقنية تركيبية أخرى هي الاستفهام الإنكاري لإبعاد اللعن عن الله تعالى ودحض شبهة يزيد  أنَّ الله تعالى قتل الإمام الحسين (ع).

وعندما كان في مجلس يزيد أمر يزيد أحد الخطباء أن يصعد المنبر فيذم الحسين وأباه صلوات الله عليهما ويصفهما بالخروج من الدين ، فصعد الخاطب وأخذ بذم أمير المؤمنين والحسين الشهيد صلوات الله عليهما بشكل مبالغ فيه والمدح لمعاوية ويزيد،(( فصاح به علي بن الحسين عليه السلام: ويلك أيُّها الخاطب اشتريتَ مرضاة المخلوق بسَخَطِ الخالق، فتبوَّأْ مقعدك من النار))(33)، والملاحظ التركيز في الرد بما يدل على سوء فعال هذا الخاطب ومن أمره مما يدل على أن المخلوق ( يزيد ) رضاه كان مقابلا لسخط الله لأنه يفعل ما يخالف ثوابت الدين من تبجيل أهل البيت وتوقيرهم والاعتراف لهم بالفضل والأحقية امتثالا لأمر الله تعالى الذي أذهبَ عَنْهمُ الرِّجْسَ وطهَّرهم تَطْهِيرًا ، وأوجب مودتهم في قوله سبحانه : ((قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ))(34).

فقد أوضح الإمام أن ما فعله الخاطب يستحق أن يجعله الله في نار جهنم ؛ لأنه خالف أوامر الله تعالى وأوامر رسوله بحب أمير المؤمنين والإمام الحسين عليهما السلام ، وبيان مكانتهما ، والأحاديث في ذلك كثيرة منها ما نقلته السيدة  (( أَسْمَاءُ بِنْتُ عُمَيْسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِعَلِيٍّ أَنْتَ مِنِّي بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى إِلَّا أَنَّهُ لَيْسَ بَعْدِي نَبِيٌّ ))(35) وقوله  لمن سأله : (( يا رسول الله من أصحاب الجنة ؟ قال: من أطاعني وسلم لهذا من بعدي قال: وأخذ رسول الله صلى الله عليه وآله بكف علي عليه السلام وهو يومئذ إلى جنبه فرفعها وقال: ألا إن عليا مني وأنا منه، فمن حاده فقد حادني ومن حادني فقد أسخط الله عزوجل ثم قال: يا علي حربك حربي، وسلمك سلمي، وأنت العلم بيني وبين أمتي ))(36): ((الْحَسَنُ وَالْحُسَيْنُ سَيِّدَا شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ))(37) ، وكان الموقف يتطلب من الإمام زين العابدين عليه السلام بيان الحقيقة وإظهارها للناس بأسلوب بلاغي مؤثر وهذا ما حصل ، فلقد طلب من يزيد أن يرتقي المنبر ؛ ليفصح عن نفسه ويبيِّن  هويته والى مَنْ ينتسب ، وقد تحقَّق له ذلك بعد ممانعة يزيد ؛ لخوفه من منطق أهل البيت وتأثيره على السامعين  ، ثم موافقته بعد ذلك نتيجة إلحاح الناس عليه فقال الناس: يا أمير المؤمنين ائذن له فليصعد المنبر فلعلنا نسمع منه شيئا فقال: إنه إن صعد لم ينزل إلا بفضيحتي وبفضيحة آلِ أبي سُفيان فقيل له: يا أمير المؤمنين وما قدرُ ما يحسن هذا ؟ فقال: إنَّه من أهل بيت قد زُقُّوا العلم زقَّا قال: فلم يزالوا به حتى أذِنَ له فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم خطب خطبة أبكى منها العيون، وأوجل منها القلوب...))(38) وقد عرَّف الإمام زين العابدين بنفسه ؛ لإقناع الناس بشخصيته ، وإثبات أهميتها وأهمية وجود أهل البيت في وبيان ما خصهم الله تعالى به من دون العالمين  (( أيها الناس أعطينا ستا وفضلنا بسبع: أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين، وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة))(39) ، فقد استعمل أسلوب الإجمال والتفصيل في ذلك فقد أجمل في قوله : ((أعطينا ستا وفضلنا بسبع)) ثم فصَّله في قوله ع مجيبا بتسلسل  )) أعطينا العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبة في قلوب المؤمنين)) تبعه بقوله مباشرة  وفضلنا بأن منا النبي المختار محمدا، ومنا الصديق، ومنا الطيار، ومنا أسد الله وأسد رسوله، ومنا سبطا هذه الأمة)) ممَّا دلَّ على أنهم بما أعطوا وما فضِّلوا به : من صفات أهَّلتهم لحمل الرسالة وهم معدن الدين وأصله وهم حملته في قلوبهم الطاهرة وحماته بأيديهم الضاربة وهم من يسير به على هدى وبصيرة حين تختلط المفاهيم على هذه الأمة .

ـ لقد بيَّن للسامعين تضلُّع الإمام في معرفة القرآن الكريم وحفظه والإفادة منه ومن الحديث الشريف معنى ونصا فقد بان من تعريف الإمام بأهل البيت صفات لهم ذكرها القرآن الكريم وقد ركَّز الإمام عليها ؛ لأن المسلمين جميعا لا جدال لهم في صحة الآيات القرآنية ففي قوله مبينا ارتباطه برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : (( ابن من اسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى أنا ابن من بلغ به جبرئيل إلى سدرة المنتهى أنا ابن من دنى فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى أنا ابن من صلى بملائكة السما ، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى أنا ابن محمد المصطفى ))(40) فقد حوى النص إشارات وردت في آيات قرآنية كريمة من مثل قوله تعالى: ((سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آَيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ))(41) ، وقوله سبحانه : ((وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ، مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ، وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ، إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ، عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ، ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ، وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ، ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى، فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ، فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ، مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ، أَ فَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ، وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ، عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ،  عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ،  إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ، مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ))(42) ، فهذه الآيات حوت تعظيما لقدر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، فذكرها الإمام لإلقاء الحجة عليهم ، فقد قصَّروا بحق هذا النبي الذي اصطفاه الله وأحبه ورفعه مكانا عليا، وآذاه هؤلاء وتنكَّروا له ولذريته بقتلهم وسبيهم وهتك حرماتهم ، وربط ذلك بالتصريح باسم رسول الله صلى الله عليه وآله: (( ابن محمد المصطفى)) .وتحدَّث عن جده أمير المؤمنين مبينا صفاته ومآثره التي لا تلحق فقال: (( أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا اله الا الله أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين وقاتل ببدر وحنين ولم يكفر بالله طرفة عين )) (43) فكل صفة أوجزها يمكن أن توضح بنصوص طويلة ، جاعلا المجاز سبيلا للتوصيف ؛ ليكون أكثر تأثيرا كما في (من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا لا اله إلا الله )

ـ  بروز صيغة  المثنى في :( ضرب بسيفين وطعن برمحين وهاجر الهجرتين وبايع البيعتين) ؛ ليعطيه شجاعة أكبر فلئن قاتل الشجعان بسف وطعنوا برمح فلقد قاتل أمير المؤمنين بسيفين وطعن برمحين  وليبرز سبقه، فهو الأول في الإسلام ، والأسرع للذب عن رسول الله صلى الله عليه وآله يوم لم يكن له إلا الله تعالى وقلة من الناصر أولهم أمير المؤمنين ، بينما يترأس السلطة الطلقاء وأبناء الطلقاء وينحَّى عنها ويسب على المنابر من بايع البيعتين وهاجر الهجرتين ، ويساء إلى أولاده فيقتَّلوا وتسبى عياله.

وقد ادخل الإمام زين العابدين أساليب البيان في بيان أوصاف جده أمير المؤمنين كما في قوله : إنه (( سهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، وولي أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علمه ))(44) لقد برزت التشبيهات البليغة في : (( سهم من مرامي الله )) ((وبستان حكمة الله)) (( وعيبة علمه )) ، كما وردت أمثلة أخرى متتالية للتشبيهات البليغة في وصف أمير المؤمنين تعانقت مع تشبيهين استعمل فيها المصدر  كما في قول الإمام زين العابدين (ع) ((أسد باسل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة، طحن الرحا ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وكبش العراق )) (45) ففي (أسد باسل) و (( ليث الحجاز، وكبش العراق )) تشبيهات بليغة مثَّلت قوته في الحجاز والغدر به في العراق ، وقد عضَّد القوة في : ((يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة، طحن الرحا ويذروهم فيها ذرو الريح الهشيم)) حيث فصَّل في صفة طحنه الأعداء في الحروب وذروهم ، محددا الموقف ببيان وقت الطحن والذرو (إذا ازدلفت الأسنة، وقربت الأعنة) ؛ ليكون ذلك أكثر تصويرا وإقناعا لأن الناس على عهد قريب بتلك الشجاعة التي عز نظيرها .

كما برزت الاستعارة المكنية في : )) ولسان حكمة العابدين )) .والملاحظ على هذه التشبيهات والاستعارات أنَّها كانت لغرض إقناعي تذكيري وليس لغرض تصويري ؛ لأنها قريبة التصور لا يحتاج الخيال إلى الكثير من الإمعان لإدراكها .

إن استعمال التصوير المتتابع بوسائله المختلفة أفاد الإقناع لتغيير الصورة المضللة في أذهان الشاميين عن أمير المؤمنين (ع) .

ـ كما أنه أشار إلى أمه وجدته سيدتي نساء العالمين عليهما السلام ، لبيان فضلهما والى أبيه الأمام الحسين عليه السلام في قوله : ((أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن خديجة الكبرى، أنا ابن المقتول ظلما، أنا ابن المجزوز الرأس من القفا، أنا ابن العطشان حتى قضى، أنا ابن طريح كربلا، أنا ابن مسلوب العمامة والرداء، أنا ابن من بكت عليه ملائكة السماء، أنا ابن من ناحت عليه الجن في الأرض والطير في الهواء، أنا ابن من رأسه على السنان يهدى، أنا ابن من حرمه من العراق إلى الشام تسبى ))(46) فقد أشار إلى فضل أبيه والى مظلمته ؛ وقد رفع بهذا الخطاب وببيان شرف هذا الانتساب التضليل  الذي ران على أفكار السامعين من جرَّاء التعتيم الإعلامي الأموي حتى نقل الرواة تأثير خطابه بقولهم : (( فلم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد لعنه الله أن يكون فتنة فأمر المؤذن فقطع عليه الكلام ))(47)

ـ أفاد الإمام حتى من قطع خطابه بالأذان الذي أمر يزيد برفعه لإقامة الحجة على يزيد ، ولنرجع إلى ما قاله الرواة : (( فلما قال المؤذن الله أكبر الله أكبر قال علي: لا شيء أكبر من الله، فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله، قال علي بن الحسين: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي،))(48) وقد استثمر الإمام ذكر رسول الله في إقامة الحجة ((  فلما قال المؤذن أشهد أن محمدا رسول الله التفت من فوق المنبر إلى يزيد فقال: محمد هذا جدي أم جدك يا يزيد ؟ فإنْ زعمت أنَّه جدك فقد كذبت وكفرت، وإن زعمت أنه جدي فلم قتلت عترته ؟)) (49)

ولم يقتصر بيان زيغ أعداء أهل البيت على رجالهم فقد أرتنا نساؤهم منتهى البلاغة في الإيجاز والإيضاح والرد على جذور التكفير ، وقد تمثَّل ذلك في عقيلة بني هاشم السيدة زينب عليها السلام وقد اتضح ذلك في ردها على أزلام التكفيريين الأوائل كعبيد الله ابن زياد عندما خاطبها متشمِّتا قائلا: (( الحمدُ لله الذي فضحكم وأكذبَ أحدوثتكم!! فقالت: إنما يُفتضَحُ الفاسق ويُكذَّبُ الفاجر، وهو غَيرُنا.فقال ابن زياد: كيف رأيتِ صُنْع الله بأخيكِ وأهلِ بيتكِ؟فقالت: ما رأيتُ إلاَّ جميلاً، هؤلاء قومٌ كتبَ اللهُ عليهم القتلَ، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمعُ اللهُ بينك وبينهم، فتحاجّ وتخاصم، فانظرْ لمـَنْ الفَلَج يومئذ، هبلَتكَ ـ أي ثَكِلتْكَ ـ أمُّكَ يا ابنَ مرجانة..))(50) فقد رفعت عن أهل بيتها الفضيحة والكذب بما صغَّر قدر الدعي ابن زياد أمام الناس ولاسيما أنه جمعهم ليظهر التشفِّي بأهل البيت عليهم السلام أمامهم فإذا بالعقيلة تظهر نتانة منبته وصغر حجمه أمام عظمة الشهداء من أهل بيت الرحمة .

وعندما خاطبها يزيد مدَّعيا خروج الإمام الحسين عليه السلام من الدين بقوله مكفَّرا الإمام الحسين وأباه أمير المؤمنين عليهما السلام : (( إنما خرج من الدين أبوك وأخوك، فقالت: بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديت أنت وجدك وأبوك، قال: كذبت يا عدوة الله قالت: أمير يشتم ظالما ويقهر بسلطانه .))(51)

أو قولها مخاطبة يزيد ((أمن العدل يا بن الطلقاء؟! تخديرك حرائرك وإماءك، وسوقك بنات رسول الله سبايا، قد هتكت ستورهن، وأبديت وجوههن، تحدو بهنَّ الأعداء من بلد إلى بلد، وتستشرفهن المناقل ويتبرزن لأهل المناهل  ويتصفح وجوههن القريب والبعيد، والغائب والشهيد، والشريف والوضيع، والدني والرفيع ليس معهن من رجالهن ولي، ولا من حماتهن حمي، عتوا منك على الله  وجحودا لرسول الله، ودفعا لما جاء به من عند الله))(52) فذكَّرته أنه ابن طليق وحفيد طليق وهم الكفار الذين حاربوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعفا عنهم  وهي والنسوة بنات رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وأن ما فعله عتو وتطاول منه على الله تعالى وعدم وفاء لرسوله الكريم ، فاتضح للسامعين الحاضرين أنها وأهل بيتها ليسوا من سبي الروم أو من الخوارج إنما هم أبناء رسول الله تعالى .لقد أظهر الخطاب الشريف لأهل البيت ردودا مفحمة على من حاول تكفيرهم وأسس أساس فكر التكفير محاولا تسويغه وتسويقه عن طريق تشويه الحقائق والتعمية على الناس من خلال التضليل الإعلامي الذي انفق في سبيله بنو أمية الأموال الطائلة ، وما أشبه الجذور بالامتدادات ، فها نحن اليوم نرى الأموال الطائلة التي تنفق للتضليل الإعلامي في القنوات الإعلامية المغرضة  لتشويه صورة مذهب أهل البيت ووسمهم بالكفار وعبدة الأوثان أو الطين أو عبدة القبور

الخاتمة والنتائج :

بعد هذه الرحلة في خطب أهل البيت عليهم السلام الإمام الحسن الزكي والإمام الحسين والإمام علي بن الحسين زين العابدين والسيدة زينب  (عليهم السلام ) في الرد على جذور التكفير من الأمويين الذين حاولوا تكفير أمير المؤمنين وولديه سبطي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وما فيه من حجج قوية أقنعت سامعيهم بصدقهم ، وكذب إدعاءات أعدائهم تبيَّنت لي مجموعة من النتائج أفرزها طول التأمل في ذلك الخطاب الشريف وعرضه وتحليله بلاغيا ، وكان من أبرزها :

ـ تعد دعوة الأمويين للعن أمير المؤمنين الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام  والنيل منه وتكفيره أساسا للفكر التكفيري الذي أخذ تأثيره يتعاظم بشكل أثر على صورة الإسلام وشوهها في أعين الخلق وكرَّه الخلق بهذا الدين القويم من خلال الحكم عليه قياسا على ما يظهر للناس من أفعال التكفيريين وانتهاك حرمات الناس وقتلهم وترويعهم .

ـ إن تصدي أهل البيت لتلك الدعوات الهدَّامة التي بذلت فيها أموال طائلة بالحجج الدامغة وبالفكر النير وبكشف زيف أفكار الأعداء هو السبيل القويم الذي انتهجه أتباعهم اليوم في الذب عن مذهب أهل البيت عليهم السلام ، وبيان حسن خلقهم واعتدال فكرهم الأصيل وهو امتداد لفكر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ولآله الأطهار عليهم السلام لمواجهة  دعوات التكفيريين الضالة المضلة .

ـ  انتهج أهل البيت عليهم السلام نهجا قويما وأدبا جما في الرد على أعدائهم عماده الحكمة وفصل الخطاب ، والاستشهاد بالقرآن الكريم والاحتجاج  به ؛ لأنه يخرس ألسن المتبجحين فهو القول الفصل عند المسلمين جميعا .

ـ لابد لمن ينبري للرد على التكفيريين أن يتسلَّح بالعلم الغزير والفكر الثاقب والحجج الدامغة العقلية والنقلية بما يدحض حجج الخصوم ، وان يتميز على أعدائه بالأدب الجم وحسن الخلق ؛ حتى يقنع سامعيه بامتلاء شخصيته علما واعتدالها تصرفا ومنطقا .

ـ لأهل البيت عليهم السلام رجالا ونساء لغة متميزة بروعة بلاغتها وعظيم تنوع أساليبها ، وقدرة متميزة على تطويعها  بما يبرز القدرة البلاغية لديهم التي تنم عن تمكُّن من ناصية العربية ، فلهم معجم أدبي عزَّ نظيره عند البلغاء ، وقدرة كبيرة في التحكم بأنواع الأنساق البلاغية التي تستوعب خطابهم المميز

ـ لقد ظهرت الآيات القرآنية الكريمة في جميع خطابات أهل البيت عليهم السلام  لتفصح عن مدى ارتباطهم بكتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه  فقد طعموا كلامهم بكلام الله حتى لا فكاك لهم  منه .

ـ  كانت حجج الأئمة على خصومهم متخذة أساليب متنوعة امتزجت فيها طاقات التركيب  من استعمال الأساليب الخبرية والإنشائية وإيراد الحذف أو الذكر والتعريف والتنكير ، أو الشرط والاستلزام ، بما في السياق من آليات حجاجية كالتكرار والإجمال والتفصيل مع الاستعانة بما في التشبيه والاستعارة من قدرة إقناعية أكثر من كونها تصويرية .

ـ يتضح للمتأمل أن منهج الأئمة  عليهم السلام  ولاسيما ثورة الإمام  الحسين عليه السلام ليست صرخة في واد ، بل هي جذوة في قلب كل مؤمن رافض للظلم والعدوان في وجه التعسُّف والطغيان وهي شعلة تنير دروب الأحرار في كل مكان من الأرض .

ـ عظمة الإنسان لا علاقة لها بجنسه فكم من عظيمة من النساء فاق أثرها مئات الرجال ، ولقد أكد القرآن الكريم الأثر العظيم للمرأة من خلال ضربها مثلا للذين آمنوا ؛ لمواقف عظيمة بدرت منهن في الإيمان بالله والصبر في جنبه العظيم كما حصل مع السيدتين آسيا زوج فرعون ومريم ابنة عمران عليهما السلام وكان تأثير السيدة زينب كبيرا في الرد على الطغاة ومؤسسي دعوة التكفير أمثال يزيد وأذنابه كابن زياد وإفحامهم وبيان صغر أحجامهم أمام الناس الذين جمعوهم للنيل من أهل البيت ليهم السلام وتكفيرهم أمامهم ، لذا تقع على النساء القادرات أيضا مسؤولية الرد على التكفيريين أسوة بالرجال .

الهوامش والمصادر

كتاب سُليم بن قيس الهلالي ،للتابعي الكبير سُليم بن قيس الهلالي (و2 قبل الهجرة – ت 76 هجرية) تح محمد باقر الأنصاري الزنجاني الخوئيني ، مؤسسة نشر الهادي ، قم المقدسة ، ط5 ، 1428هــ: 2 / 894 . أعلام الهداية ، الإمام الحسن المجتبى عليه‌السلام . لجنة التأليف في المجمع العالمي لأهل البيت عليهم‌السلام ، مط ليلى ،ط1، قم المقدسة ، ١٤٢٢ هـ ق  :4 /7 .  البيان والتبيين ، لأبي عثمان عمرو بن بحر الجاحظ (ت255هـ)، تح: فوزي عطوي، دار صعب، بيروت، (د.ت) : 1/ 23  . كتاب سُليم بن قيس الهلالي : 2 /  624. الاحتجاج لأبي منصور أحمد بن علي بن أبي طالب الطبرسي ، تعليقات وملاحظات السيد محمد باقر الخرسان ، سلسلة كتب المناظرات (5) إعداد مركز الأبحاث العقائدية ، د.ت  : 1 / 420 ورد في نصِّ الكتاب: (( أين علي بن أبي طالب ))، إذ لا معنى لذلك التساؤل بعد استشهاد الإمام علي عليه السلام ، وقد اشتهر معاوية بسب الإمام علي عليه السلام في مفتتح خُطَبه مما يجعل ما نقله المجلسي فـــــــــي ( البحار) عن النسخة التي بين يديه من الاحتجاج التي نصَّت على السب أقرب إلى روح النص والى نهايته التي ظهرت فيها الإشارة إلى اللعن  ، وقد يكون ما ورد في نسخة الاحتجاج التي بين أيدينا  تصحيفا لـ (( نال من علي بن أبي طالب ))  الواردة في بحار الأنوار الجامعة لدرر أخبار الأئمة الأطهار ، العلامة الشيخ محمد باقر المجلسيى ، مؤسسة الوفاء  بيروت - لبنان ، ط2 المصححة 1403 هـ‍ - 1983 م : ج44 / 90 ـ91     بحار الأنوار : 43 / 344. من أسرار الإعجاز البياني في القرآن ، محمد إسماعيل عتوك شبكة الأنترنت . بحار الأنوار : 43 / 344. م .ن :  44/ 104  . م .ن : الصفحة نفسها  . بحار الأنوار : 44 /  329 . تحف العقول عن آل الرسول ، ابن شعبة الحراني  ، رابطة أهل البيت الإسلامية العالمية ، قم المقدسة ، ط1 ،  1376 هـ  ـ ش : 239 . ينظر : في بلاغة الحجاج والإقناع ، رسالة ماجستير ، أيمن أبو مصطفى ، مقدمة الرسالة ، منشورة على شبكة الأنترنت ،ملتقى أهل التفسير ، ملتقى الرسائل الجامعية في الدراسات القرآنية . الملهوف على قتلى الطفوف ، رضي الدين ابي القاسم علي بن موسى بن جعفر بن طاووس ، ت 664 هـ ، تح الشيخ فارس تبريزيان «الحسون» ،سلسلة الكتب المؤلفة في أهل  البيت عليهم السلام (42)إعداد مركز الأبحاث العقائدية : 154 . مسند الإمام أحمد بن حنبل ،  أحمد بن حنبل ، تح : شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة ، ط2، 1420هـ ، 1999م . 4 / 172 رقم الحديث : 17597 الملهوف على قتلى الطفوف : 147. السنن الكبرى لأبي عبد الرحمن أحمد بن شعيب النسائي تحقيق دكتور عبد الغفار سُليمان البنداري وسيد كسروي حسن ، الجزء الخامس دار الكتب العلمية بيروت - لبنان د.ت : 5/ 49 المسند الجامع المعلل لأبي الفضل السيد أبو المعاطي النوري ت 1401 هـ ، تح د. بشار عواد معروف أحمد عبد الرزاق عيد ، وأيمن إبراهيم الزاملي ومحمود محمد خليل ط2 ، د.ت : 2 / 2 الملهوف على قتلى الطفوف : 145 ـــ 146 م .ن : 146 . م .ن : 147 . م .ن : 155 . م .ن : 156 . م .ن : الصفحة نفسها. م .ن : الصفحة نفسها. م .ن : الصفحة نفسها. سورة يونس : 71 . سورة الزمر : 42         . بحار الأنوار : 45 / 117. م .ن : الصفحة نفسها  . الاحتجاج : 2 / 38 ـ 39 . ينظر : عندما نتواصل نغير، عبد السلام عشير،  إفريقيا الشرق، الدار البيضاء، المغرب 2006م ، 120. بحار الأنوار : 45 / 137 . سورة الشورى : 23. مسند الإمام أحمد بن حنبل : 45 / 14 . بحار الأنوار :  24/ 261 . مسند الإمام أحمد 18 / 138. بحار الأنوار : 45 / 138 . م .ن : الصفحة نفسها  . م .ن : الصفحة نفسها  . سورة الإسراء : 1. سورة  النجم : 1ـ17. بحار الأنوار :45 / 139 . م .ن : 45 / 139 . م .ن : الصفحة نفسها  . م .ن : 45 / 174. م .ن : 45 / 139 . م .ن : الصفحة نفسها  . م .ن : الصفحة نفسها  . م .ن :  45 / 115. الاحتجاج :  2/38. م .ن : 2/35.

gate.attachment