351 ــ كاظم الأزري البغدادي: (1143 ــ 1211 هـ / 1730 ــ 1796 م)

كاظم الأزري البغدادي: (1143 ــ 1211 هـ / 1730 ــ 1796 م)

قال من قصيدة في الإمام الحسين (عليه السلام) تبلغ (83) بيتاً:

يهنيكِ يا (كربلا) وشيٌ ظفرتِ به      من صنعةِ اليُمنِ لا من صنعةِ اليمنِ

للهِ فــخــرُكِ مـا فـي جـيــدهِ عطلٌ     ولا بـمـرآتِــهِ الأدنـــى مـن الـــدرنِ

كمْ خرَّ في تربِكِ النوريِّ بدرُ تقىً     لــولاهُ عــاطـلـةُ الإســلامِ لــم تـزنِ (1)

وقال في رثائه (عليه السلام) من قصيدة تبلغ (98) أبيات:

هـي الــمعالم ابـلتـها يـد الغـير             وصارم الـدهر لا ينفـك ذا أثر

للهِ مــن فــي مــغــانـــي (كربلاءَ) ثوى      وعنده علمُ ما يجري من القدرِ

إذا الـشيــاطــيـنُ بـــارتــه انبرتْ شهبٌ      تـرميهمُ عن شهابِ اللهِ بالشررِ

ما أومضتْ في الوغى منهمْ بروقُ ظبا      إلّا وفاضَ سحابُ الهامِ بالمطرِ (2)

ومنها:

سَلْ (كربلا) كمْ حوتْ منهم بدورَ دجىً      كـأنَّـهــا فـلـكٌ لـلأنـجـمِ الـزهـرِ

لــمْ أنــسَ حــامـيـةَ الإســـلامِ مُـنـفـرداً      صفرَ الأناملِ من حامٍ ومُنتصرِ

رأى قـنـا الـديـنِ مـن بـعـدِ اسـتـقـامتِها      مـغـمـوزةً وعليها صدعُ مُنكسرِ

ومنها:

يا صفقةَ الدينِ لم تـنـفقْ بضـاعـتَـها      في (كربلاءَ) ولم تربحْ سوى الضررِ

وموسماً للوغى في (كربلاء) جرى      بـبـيـعـةٍ فـازَ فـيـهـا كـــلُّ مُـــتَّــجــــرِ

أنـظـرْ إلـى الـدهرِ قد شلّْتْ أنـامـلُـه      والـعـلـمُ ذو مُــقـلـةٍ مـكـفـوفـةِ البصرِ

وقال من قصيدة تبلغ (44) بيتاً:

قبرٌ بساحةِ (كربلا) فاقت على     بحبوحةِ الفردوسِ ساحةَ لحدهِ

ولـقـد غـدا غـابُ النبوَّةِ والفتوَّ     ةِ والأبـوَّةِ خـالـيـاً مـــــن أسْدِهِ

وَجَـدَ الـوجـودُ بـقـاءَه بـفـنـائِهِ      مـن بـعـدِ من فقدَ الوجودَ لفقدِهِ (3)

ومنها:

أسـلِ الدموعَ ولا تسلْ عمَّا جـرى     فـي غورِ حائرِ (كربلاءَ) ونجدهِ

نَـهَـرَ الـنـهـارُ غـداةَ فـجَّــرَ فجرَه      عن عمرِهِ انكشفَ الفجورُ وزيدِهِ

مَنْ لم يوالِ الخمسَ أصحابَ العبا      إتـيـانُ خـمـسِ فـروضـهِ لمْ يُجدِهِ

الشاعر

كاظم بن محمد بن مراد بن مهدي بن إبراهيم بن عبد الصمد بن علي البغدادي التميمي (4)، شاعر أهل البيت (عليهم السلام) وصاحب الملحمة الأزرية الألفية المشهورة في أمير المؤمنين (عليه السلام)، كان من فحول شعراء القرنين الثاني عشر والثالث عشر.

يقول الشيخ عبد الحسين الأزري: (بيت الأزري: بيت علم وثراء، ويظهر من ورقة الوقف المشهورة بوقف بيت الأزري، وبعض الحجج الشرعية القديمة أن أسرة هذا البيت كانت تقطن بغداد منذ أكثر من ثلاثة قرون. أما قبل ذلك فلا نعلم عنها شيئاً وقد اشتهر من بينها علمان هما: الشيخ كاظم، والشيخ محمد رضا وكان لهما أخ ثالث أكبر منهما سنا هو الفاضل الشيخ يوسف الأزري

ويوجد في مكتبة المغفور له السيد حسن صدر الدين مؤلف للشيخ يوسف المذكور في علم النحو شبيه بكتاب قطر الندى لابن هشام، كتب على ظهره:

هذا ما ألفه الشيخ يوسف بن الحاج محمد بن مراد الأزري البغدادي التميمي، ومن هذا الكتاب تأكدنا أن هذه الأسرة ترجع إلى قبيلة تميم في العراق. وقد أعقب الشيخ يوسف هذا ولدين هما الشيخ مسعود، والشيخ راضي وكان الأول منهما أديباً وشاعراً، وقفنا على بند له شبيه بالبند المعروف للشاعر ابن الخلفة). (5)

 وقد تحدثنا عن تاريخ هذه الأسرة وسبب تلقيبها بالأزري وأول من لقب بهذا اللقب منها في موضوع الشيخ عبد الحسين الأزري

ولد محمد كاظم الأزري في بغداد، وكان أبوه من تجار بغداد وأثريائها، فعاش حياة ميسورة في بداية حياته، وعُرف بشغفه بالأدب حيث وصفته المصادر بما نصه: (والمشهور بـ ملا كاظم بن محمد بن مهدي الأزري البغدادي يسكن بغداد ومدرسة النجف، صريحاً في الرأي قوي الحجة مهيباً في المطلع، وكان يتمتع بمكانة سامية في كافة الأوساط الأدبية، ولدى جميع الطبقات الشعبية، لم يكن في بغداد أشعر منه منذ نهاية العصر العباسي حتى عهده الذهبي وعاصر من العلماء الأعاظم : السيد مهدي بحر العلوم الطباطبائي، والشيخ جعفر كاشف الغطاء النجفي الكبير.

لكن حياة الغنى لم تستمر مع الأزري فقد انقلب عليه الحال فكان يفشل في الحصول على أسباب الرزق ولا يجد ما يستعين به على زمانه، ولكنه كان يتجلّد فنجده يقول:

أيروعني الزمنُ الذي لا جودُه     جـودي ولا إقــدامُـه إقــدامــــي

لـمْ يُـعْـيِـنـي طـلـبـاً ولكنْ رُبَّما     أتتْ السهامُ خلافَ قصدِ الرامي

وإذا طـبـتْ مِنِّي ولم أظفرْ بِها     فـالـعـضـبُ قـد يـنـبـو نُـبُوَّ كهامِ (6)

وهذه الأبيات تدل على شاعر يعتدُّ بنفسه ويعتزُّ بأدبه. ويجده خير بديل لوراثة المال والتجارة، ولاشك أن ضيق يده وتقطع أسباب الرزق عليه هو الذي جعله في دخيلة نفسه يؤمن بالحظوظ بالدرجة الأولى وينسب كل نجاح أو فشل إليها فنراه يقول:

حدث عن السعد لا نكر ولا عجب فالسعد بحر من الأقدار منسكب

لولا الحظوظ لما ألفيتَ ذابلةً     يجني النظارَ وشهمُ القومِ يحتطبُ

تالله كم قاعدٍ يُؤتى خزائـنـها     وربَّـمـا لا يـنـالُ الـقـوتَ مـكـتسبُ (7)

ويقول في موضعٍ آخر:

وما هو إلا الحظ يولي معاشراً     نحوساً ويولي آخرين سعودا (8)

وله من هذا النحو في إرجاع كل شيء إلى الحظ القول الكثير الذي يدل على تأثّره النفسي الذي اضطره إلى الإيمان بالحظ الإيمان المطلق كأكثر الناس الذين لا يكون حليفهم النجاح في حياتهم المادية، وبعد هذا يستطيع الباحث أن يستخرج كثيراً من أفكاره وأحواله الشخصية من شعره، ولولا أن هذا المقال قد خُصِّصَ للحديث عن شعره ولا يتسع لأبحاث أخرى لتطرّقنا إلى الكثير من جوانب حياته الاجتماعية، ولعل هذه الترجمة المختصرة تفتح الباب لمن يريد الإحاطة بأحوال هذا الشاعر الكبير الذي يُعدّ بحق مفخرة للشعر العربي وأن يوليه الدارسون الاهتمام الذي يستحقه كأحد الشعراء الكبار في تاريخنا الأدبي.

شاعرية فذة

كان محمد كاظم الأزري من شخصيات بغداد اللامعة الذين يُشار إليهم بالبنان، ليس فقط لانتسابه لآل الأزري أشهر بيوتات بغداد في القرنين المذكورين فحسب، إنما كان مثارَ إعجاب الأدباء والعلماء بشاعريته وأدبه وعلمه، فكان مبجّلاً عند السيد بحر العلوم، وينقل عن شيخ الفقهاء الشيخ محمد حسن صاحب الجواهر أنه كان يتمنى أن يكتب في ديوان أعماله الملحمة الأزرية مكان كتابه (جواهر الكلام) الذي اشتهر به والذي يُعد الذروة في الفقه ووُصِف بأنه: (لم يكتب مثله). (9)

قالوا في الأزري

قال السيد محسن الأمين: (درس العلوم العربية ومقداراً غير قليل من الفقه والأصول على فضلاء عصره ولكنه ولع بالأدب وانقطع عن متابعة الدرس. وأخذ ينظم الشعر ولم يبلغ العشرين عاماً. كان سريع الخاطر حاضر النكتة وقاد الذهن قوي الذاكرة كما كان محترم الجانب لدى العلماء والوجهاء من أبناء عصره حتى أن السيد مهدي بحر العلوم كان يقدمه على كثيرين من العلماء لبراعته في المناظرة ولطول باعه في التفسير والحديث ولاطلاعه الواسع على التاريخ والسير..) (10)

وقال السيد حسن الصدر: (كان فاضلاً متكلماً حكيماً أديباً شاعراً مفلقاً تقدم على جميع شعراء عصره). (11)

وقال الشيخ محمد السماوي: (كان فاضلا، يزل الفكر أن يصل إلى سمته، ةتقصر العبارة عن وصفه ونعته، وأديبا أقسم الأدب بالمثاني أن لا يكون له في عصره ثاني، وشاعر حلو صياغة الألفاظ، فخم جزالة المعاني، بديع صناعة المقاصد، أكثر من مدائح أهل البيت عليهم السلام ومراثيهم...) (12)

وقال عنه رضا كحالة: (أديب شاعر مشارك في الحديث والتاريخ والكلام، والتفسير والحكمة). (13)

وقال محمد حرز الدين: (فاضل و شاعر أديب أوحدي مبجل نظم الشعر بفنونه و كان يعد من الطبقة الأولى في الجودة فى عصره، له نظم كثير جداً) (14).

عصر الشعر

يكاد الأزري يشبه المتنبي في عصره فكلاهما عاشا عصراً أدبياً زاخراً بالشعراء المجيدين وكلاهما برزا في عصريهما، ولكن ما يميّز العصرين أن عصر المتنبي كان متمِّماً لما قبله من العصور الزاخرة بالأدب، أما عصر الأزري فكان عصر نهضة أدبية جديدة بامتياز بعد أن تدنّت الروح الأدبية في العالم العربي لعدة قرون، وتأخرت وتجمَّدت فيها وأصبحت صناعة لفظية باهتة، وقد بدأ الركود الأدبي منذ القرن السابع الهجري، وكلما تقدّم الزمن كانت هذه الصناعة تزداد سوءاً حتى بلغ أقصى تدنيها في القرن العاشر والحادي عشر.

بعد أن بلغت الحركة الأدبية أسوأ أدوارها ظهرت فجأة تباشير حركة أدبية عالية ومتجدّدة في العراق في النصف الثاني من القرن الثاني عشر، فكان الأزري وأخوه الشيخ محمد رضا الأزري من ألمع شخصيات هذه الحركة، ولم تُعرف الأسباب الحقيقية لتلك الحركة المفاجئة على التحقيق وإن كانت التكهنات كثيرة في حين أن ذلك القرن كان كالذي قبله من أظلم القرون من الناحية السياسية التي مرّت على البلاد الإسلامية عامة والبلاد العربية خاصة ولا سيما العراق الذي كان في تلك الأيام ساحة للصراع العنيف بين الحكومتين الإيرانية والعثمانية من جانب وبين القبائل العراقية مع إحدى هاتين الحكومتين وفيما بينها من جانب آخر، وهذا عادة مما يسبب خمود كل حركة فكرية وأدبية في البلاد.

ولكن رغم تلك الأوضاع المزرية إلا أن النهضة والحركة المتجددة لم تقتصر على الساحة الأدبية فقط، إذ اتفق ظهور حركة واسعة لم يسبق لها مثيل للعلوم الدينية في العتبات المقدسة في النجف وكربلاء والكاظمية، وبرز في هذه الظروف علماء مجتهدون جدَّدوا في الفقه وأصوله، وجدَّدوا في نوع التفكير وأسلوبه، ولا تزال الدراسات العلمية تستقي من ينبوعهم إلى الآن.

لسنا هنا بصدد البحث والمقارنة بين ظهور الحركتين، وهل كان هذا الظهور بمحض الصدفة أو أن الحركتين كانتا تستقيان من منبع واحد؟ فإن ذلك يحتاج إلى بحث طويل، ولكن كل الذي أردناه هو الإشارة إلى اقتران الحركتين اللتين أثّرت إحداهما في الأخرى، فكان أكثر الفقهاء من الأدباء وأكثر الشعراء من العلماء المتفقهين، وقد اجتمع للأزري هاتان الفضيلتان، إذ درس في النجف الأشرف على يد كبار العلماء.

ولا شك أن دراسته هذه كان لها الأثر الكبير في نمو ملكته الأدبية، وما انتقل إلى بغداد إلا وكان من أقطاب الحركتين العلمية والأدبية فيها، بل على يديه وعلى يدي شعراء قلائل في بغداد والنجف والحلة بدأ ظهور الحركة الأدبية القوية والناضجة في القرن الثاني عشر ومنهم استمدت هذه الحركة واستمرت إلى القرن الثالث عشر كله، فبلغت أوجها في أخرياته، وكان لهذه الحركة الفضل في تطوّر الشعر في القرن الرابع عشر. (15)

شاعريته

أُغرم الأزري بالشعر إلى حدِّ الافراط حتى صار يأكل معه ويشرب:

أبى الشعرُ إلّا أن يحلّ بساحتي     فيأكلُ من زادي ويشربُ من شربي

إذا أنا لـم أعـبـأ بـه عمر ساعة     تـوهّـمَ هـجـرانـي فـلاذَ إلـى جـنـبـي (16)

برع الأزري في جميع فنونِ الشعر وأغراضه وفي كلها له آية تدل على ريادته لشعراء عصره، يقول السيد الأمين:

(استقبل الناس شعر الشيخ كاظم الأزري كفصل الربيع من السنة في نسيمه المنعش وأزهاره العبقة. جاء بعد شتاء مجهد طويل لأنه جمع بين جزالة اللفظ وجمال الأسلوب ورصانة التركيب وحسن الديباجة، وفيه جاذبية، فالذي يقرأ قصيدة من شعره لا يتركها حتى ينتهي منها. وفيه نشوة كالراح تدفع شاربها إلى المزيد منها ليزداد نشوة وسرورا. وأكثر الخبراء بالأدب يعدون الشيخ كاظم الأزري في طليعة شعراء العراق وذلك في بعض مناحيه الشعرية، ومن فحولهم البارزين في المناحي الأخرى.

ويصعب التمييز بين قصائده من ناحية السلاسة والطلاوة والرقة والانسجام وهو صاحب الهائية التي تنوف على أكثر من خمسمائة بيت ويعرفها الناس بقرآن الشعر وبالملحمة الكبرى وهذه القصيدة الفذة في بابها هي صدى نفسه الكبيرة وفكره الخصب الممرع طبعت على حدة مع تخميسها للشيخ جابر الكاظمي.

أما ديوانه فقد عني السيد رشيد السعدي بطبعه سنة 1320. وتلاقفته الأيدي بوقته ولم تبق منه نسخة معروضة للبيع ولا زال الناس يتطلبونه ويستنسخونه. على أن الديوان لم يستوعب شعره كله بل لا يزال عند بعض الحريصين على الأدب قسم منه غير مطبوع....) (17)

ويقول العلامة محمد رضا المظفر في مقدمة الأزرية: (أن الذي يقرأ شعره يرى فيه لفتات الفاضل العالم بالمعارف الإسلامية. بل أكثر من ذلك يجد أنه قد درس الفلسفة، وفهم دقائقها...) (18)

ويقول الأستاذ رشيد داود السعدي في تحقيقه لديوان الأزري: (لمّا رأيت ديوان فريد دهره وشمس عصره الشيخ كاظم الأزري البغدادي مدّاح حضرة أمير المؤمنين، ويعسوب الموحدين، الإمام علي المرتضى عليه السلام تشتاق إليه الأدباء لجودة شعره وسهولته وعذوبته أحببت أن أتحفهم بطبعه...) (19)

شعره

للأزري في رثاء الإمام الحسين (عليه السلام) من الشعر الخالد قصائد كثيرة لا تزال تقرأ على المنابر وتُعد في الطليعة من الشعر العربي أشهرها قصيدته الرائية التي تبلغ (98) بيتاً وقد قدمناها يقول في مطلعها:

هيَ المعاهدُ أبلتها يدُ الغِيرِ     وصارمُ الدهرِ لا ينفكُّ ذا أثرِ

ومنها قوله:

وكـيـفَ تـأمـنُ مـن مكرِ الزمانِ يداً     خـانـتْ بـآلِ عـلـيٍّ خـيـرةِ الــخِيَرِ

أفدي القرومَ الأولى سارتْ ركائبهمْ     والموتُ خلفهمُ يسري عـلى الأثرِ

ما أبـرقـتْ في الوغى يوماً سيوفهمُ     إلا وفـاضَ سـحـابُ الـهامِ بالمطرِ

يـسـطـو بـكـلِّ هـلالٍ كلِّ بدرِ دجىً     بجنحِ ليلٍ من الـهـيـجـاءِ مُـعـتـكـرِ

هـمُ الأسـودُ ولـكـنَّ الـــوغـى أجـمٌ     ولا مـخـالـبَ غـيرَ البيضِ والسمرِ

ثاروا ولولا قضاءُ اللهِ يـمـسـكـهــمْ     لـم يـتـركوا لبني سـفـيـانَ مِـن أثـرِ

أبدوا وقـائـعَ تـنـسـي ذكـرَ غيرهمُ     والوخزُ بالسمرِ يُنسي الوخزَ بالأبرِ

غرُّ المفارقِ والأخلاقِ قـد رفـلـوا     مـن الـمـحـامـدِ فـي أسنى من الحبرِ

ومنها:    

لم أنسَه وهو خوَّاضٌ عـجـاجَتَها     يـشـقُّ بـالـسيفِ منها سورةَ السُّورِ

كـمْ طـعـنـةٍ تـتـلـظـى مـن أناملِه     كالبرقِ يقدحُ من عودِ الحيا النضرِ

وضـربـةٍ تـتـجـلّـى مِـن بـوارقـهِ     كالشمسِ طـالـعـةٌ مـن جـانبي نهرِ

وواحـدُ الـدهـرِ قـد نـابته واحـدةٌ     مـن الـنـوائـبِ كـانـت عـبـرةَ العِبَرِ

مِنْ آلِ أحـمـدَ لـم تـتـرك سوابقُه     فـي كـلِّ آونــةٍ فــخـراً لــمــفـتـخـرِ

إذا نضى بردةَ التشكيلِ عنه تجدْ     لاهوتَ قـدسٍ تـردّى هـيـكلُ البشرِ

مـا مـسَّه الخطبُ إلا مَسَّ مُختبرٍ     فما رأى مـنــه إلّا أشـرفَ الـخـبـرِ

ومن روائعه في الإمام الحسين (عليه السلام) النونية التي تبلغ (83) بيتاً وقد قدمناها:

ألا تــذكــرتَ أيـامـاً بـهـا ظـعـنــتْ     لـلـفـاطـمـيـيـنَ أظـعـانٌ عـن الـوطــنِ

أيــامَ طـــلَّ مــن الـمـخـتـارِ أيَّ دمٍ     وأدمـيـتْ أيَّ عـيـنٍ مـن أبـي حـســـنِ

أعـززْ بـنـاصـرِ ديـنِ اللهِ مُـنـفـرداً     في مـجــمـعٍ مـن بـنـي عـبَّــادةِ الـوثنِ

يـوصـي الأحبَّةَ أن لا تقبضوا أبداً     إلا عـلى الـديـنِ فــي سـرٍّ وفـي عــلـنِ

وإن جرى أحدُ الأقدارِ فاصطبروا     فـالـصـبرُ في القدرِ الجاري من الفطنِ

ثم انـثـنـى لـلأعادي لا يرى حكماً     إلا الـذي لـم يـدعْ رأســـاً عــلــى بـدنِ

سـقـيـاً لـهـمَّـتــهِ ما كـان أكـرمَـهـا     في سقي ماضي المواضي من دمٍ هتنِ

وللظبا نـغـمــــاتٌ فـي رؤوسِــهـمُ     كـأنَّـهـا الـطـيـرُ قــد غـنَّــتْ عـلـى فننِ

يا جـيـرةَ الـغـيِّ إن أنـكرتمُ شرفي     فـإن واعـيـةَ الــهــيــجــاءِ تــعــرفـــني

لا تـفـخـروا بـجـنـودٍ لا عــدادَ لها     إن الـفـخـارَ بـغـيـرِ الـسـيــفِ لـم يـكـنِ

ومُذ رقـى مـنـبـرَ الهيجاءِ أسمعها     مـواعـظـاً مـن فـروضِ الطعنِ والـسننِ

للهِ مـوعـظـة الـخطيِّ كـم وقـعـتْ     من آلِ سـفـيـانَ فـي قـلـبٍ وفــــــي أذُنِ

كـأنَّ أسـيـافَـه إذ تـسـتـهـلُّ دمــــاً     صـفـائـح الـبـرقِ حـلّـت عـقـدةَ الـمُــزنِ

للهِ حـمـلـتـه لـو صــادفـتْ فـلـكـاً     لـخـرَّ هـيـكـلـه الأعـلـى عـلــى الـذقــــنِ

بعـزمةٍ فـي عـرى الأقـدارِ نافذةٍ     لـو لاقـتِ الـمـوتَ قــادتـــه بـــلا رســنِ

ويقول من قصيدة في أهل البيت (عليهم السلام) تبلغ (17) بيتاً:

بكمْ آلُ بيتِ المصطفى مُيّز الهدى     عن الغيِّ والتوحيدُ والفضلُ والعدلُ

فـكـلُّ أخـي فـضلٍ ومجدٍ وأن علا     فـمـفـخـرُهـم بـعـضٌ وعـنـدكمُ الكلُّ

وإن قِـيـسَ جدواكمْ بجدوى سواكمُ     فـجـودِكـمُ يـمٌّ ومِـن بـعـضِــه الوبلُ

وما سـيِّـدٌ يـعـلو عـلـى مـتـنِ منبرٍ     لـيـهـدي الـورى إلا لـذكـرِكـمُ يـتـلو

وقـربـكـمُ مـن كـلِّ لاســبــهِ رقـىً     وقـولـكـمُ فـصـلٌ وحـبـلـكـمُ وصــلُ

وحـبُّـكـمُ سـعـدٌ وبـغـضـكـمُ شـقــاً     بـذا حـكـمَ الـتـنـزيـلُ والعقلُ والنقلُ

لـقـد خُـيِّـبَ الساعي إذا أمَّ غيركمْ     إذا لم يفزْ فيكم فلا أجـمـلـتْ جـمــلُ

سـفـيـنـةُ نـوحٍ لـلـنـجـاةِ ورفـدكـمْ     هوَ الخصبُ للدنيا إذا أعوزَ الـمـحلُ

وعـلـمـكـمُ مـا لا يـحـاط بـوصفهِ     لـقـد ضاقَ عنه اليمُّ والوعرُ والسهلُ (20)

وقال مادحا أمير المؤمنين علي (عليه السلام) وطالبا شفاعته إلى الله عز وجل في دفع الوباء الذي حل ببغداد من قصيدة تبلغ (60) بيتاً: 

أيـنَ الـمـفـرُّ ولـلـمـنـايـا غـــــــارةٌ     ثـارتْ عـجـاجـتُـهـا بـكـلِّ بـلادِ

هُـنَّ الـرواجـفُ لا يـقـيـمُ قـنـاتَــها     إلّا الـولـيُّ أخـو الـنـبـيِّ الـهادي

الـمـنقعُ الأيـامَ مـن غـلـلِ الأســـى     بـروائـحٍ مـن غـوثِــهِ وغــــوادِ

والـمـجتلي كربَ الـعـفـاةِ بــنـائـلٍ     مسحَ القذى عن طرفِ كلِّ هوادِ

والـكـاشـفُ الـجَـلـلِ الأحـمَّ بمعوزٍ     شمسُ الضحى منهُ إلى استمدادِ

كهفُ الطريدةِ من مجـامعِ روعِها     أمـنُ الـمـسـالـمِ خـوفُ كلِّ معادِ

الـمـثـقـبُ الـزنـديـنِ يــومَ سماحةٍ     يـحـيـي بـهـا ويـمـيـتُ يومَ جلادِ

طـلّاعُ كـلَّ ثـنـيـةٍ مِــن حـكـمــــةٍ     يـفـتـرُّ عـنـهـا ثـغـرُ كـلِّ رشــادِ

حامي حـمـى الـثـقـلينِ أنتَ وليُّها     فـي حـالـيَ الأشـقـــاءِ والإسـعادِ

إن كنتَ ترضى أن يطولَ وبـالها     فـرضـاكَ نِـعـمَ الروضِ للمُرتادِ

نـزلـتْ بـكَ الآمـالُ وهيَ مطاشةٌ     فـأفـضْ عــلـيها منكَ فيضَ سدادِ

تشكو إليكَ قـطـيـعـةَ الزمنِ الذي     جـعـلَ الـقـيــــودَ قـلائـدَ الأجـيـادِ

أمِنَ المروءةِ تركُ مـثـلـكَ مثلـهمْ     مــتــفــرِّقـــيـــنَ تـفـرُّقَ الأضدادِ

هيهات لم يُلقِ النزيلُ عـصـيَّــهمْ     إلّا لــتــورقَ أيــبــسُ الأعـــــوادِ

وجبتْ رعايتهم عليكَ لـقـصـدِهمْ     وعـلـى الــكـرامِ رعـايـةُ القصَّادِ

باتوا ومـرقـدُ كلِّ شخصٍ لوعــةٌ     تـسـتـلُّ مـــن جــفــنَــيهِ كلَّ رقادِ

وجدوا الذي أورتْ بـه آثـامَــهـم     والـنـارُ لا تــوري بــغـيـرِ زنــادِ

تبعوا الهوى فأثارَ نقعَ فـسـادِهـمْ     وكـذا الـهـوى هـو رأسُ كلِّ فسادِ

فاستنشقوا من ريحِ روحِكَ نكهةً     كـانـتْ مـكـانَ الــروحِ لـلأجـسـادِ

واعتادهمْ مرضُ القضاءِ فعوِّذوا     آمـالـهـمْ بـجـمـيـلــكَ الـمـعـتـــــادِ

نـقـعـتْ مـواردُه غــلـيلَ عليلِهم     وجِـلا مـمـسَّـكـه قـذى الأنـكــــــادِ

أولـسـتَ داحـي بـابِـها ومُزلزلاً     مـن كـلِّ أرضٍ أعـظـمَ الأطــــوادِ

أولـسـتَ رائـعَ جـنِّـهـا ومبيدَها     بـشـهـابِ كـوكـبِ عـزمِـكَ الــوقّـادِ

أولـسـتَ معطي كلَّ نفسٍ أمنَها     يـومَ الـقـيـامـةِ مِـن أذى الـمـيــعــادِ

أولـسـتَ سـاقيها غداً من كوثرٍ     والـمـاءُ مُـمـتـنـعٌ عـلـى الــــــورَّادِ

حسبُ المؤمَّـلُ مـنـكَ أنّكَ منقذٌ     مـا كـان بـيـن نـواجــــذِ الآســــــادِ

ولئنْ وهبتَ لها الـحـيـاةَ فربَّما     فـجَّـــرتَ بـــالأمــــواهِ قــلبَ جمادِ (21)

وقال في الإمام علي بن موسى الرضا (عليه السلام)

يرومونَ طوساً جادَ طوساً مجلجلٌ     من السحبِ خفَّاقُ البوارقِ مُمطِرِ

فـأكـرمْ بـهـا مـن بـلـدةٍ قـد تقدّستْ     بـصـاحـبِـهـا والجارُ بالجارِ يفخرُ

هـمـامٌ تــزلُّ الـعـيـنُ عنه مـهـابـةً     ويعظمُ عن رجلِ الـظـنـونِ ويكبرِ

فسلْ محكمَ الـتـنـزيـلِ عـنـه فـإنـه     سيعربُ ما عنكَ النواصبُ تضمرُ

مـغـانٍ أبـتْ إلا الـعـلـى فـكـأنّـهـا     تـطـالـبُ وتـراً عـنـد كـيوانَ يذكرُ

فـكـيـفَ وقـد جلّتْ بلاهوتِ قدرةٍ     تـحـيِّـرُ أربـابَ الـنـهـى فـتـحيَّروا

بـحـيـــثُ دلالاتِ الـنـبـوَّةِ شُــرَّعٌ     تُـجـلّـى وأنـوارُ الإمـــامــةِ تـزهرُ

وللملأ الأعـلـى هـبـوطٌ ومـعرجٌ     ولـلـعـائـذيـنَ الـهـيـمِ وِردٌ ومصدرُ

وكـمْ قـد عـلا مـنها مقامٌ ومشعرٌ     فـجـلَّ مـقـامٌ مـا هـنـاكَ ومـشـعــرُ  (22)

وقال في مدح الصحابيين الجليلين سلمان الفارسي وحذيفة بن اليمان (رضوان الله عليهما) من قصيدة تبلغ (37) بيتاً

وبـدا خـيـرُ طـالـعٍ مـن مـعـالـي     خادمِ المـصطفى فأهلا وسهلا

نـورُ عـلـمٍ لا يـمـتري الظنُّ فيهِ     إنَّـه الـشــمـسُ بـلْ أجلَّ وأعلى

وبـقـولِ الـنـبـيِّ: سـلـمــانُ مـنّــا     شرفٌ يحتذي من الشمسِ نعلا

أحـدقـتْ بـالـوجـودِ مــنـه أمـورٌ     بالغاتٌ بها غدا الـدهـرُ طـفــلا

صيَّرتْ ذاتُه الـغـيـوبَ حــيارى     ليسَ تدري أصدرُه اللوحُ أمْ لا

حـلَّ مـنـه الـنـهـى بتمثالِ لـطفٍ     كانَ بالجـوهـرِ الـربوبيِّ شكلا

كـلّـمـا حـاولـتْ مـنـى راحــتـيهِ     غـصـنَ أكـرومـةٍ دنــا فـتـدلّـى

ذاكَ روحُ القدسِ الذي مُذ حواهُ     هـيـكـلُ الـدهـرِ كانَ للدهرِ مثلا

جوهرٌ لو يُـقـاسُ بـالجوهرِ الفرْ     دُ عـلاهُ لـكـانَ أعـلـى وأغـلــى

هـيـكـلٌ طـلـسمته أيدي المعالي     فـحـشـتْ جـانـبي هيولاهُ فضلا

بـأبـي نـاظـرٌ بــمــرآةِ عـــلــــمٍ     أوجـهَ الـغـيـبِ دونــهـا تـتـجلّى

بـأبـي مـن لـه الـمـعـالـي تخلّت     مـخـلـصـاتٌ ولـلـمـعـالي تخلّى

بأبـي الـمـاجـد الـذي اتـخـذتـــه     كـلُّ بـكـرٍ مـن الـفـضـائـلِ بَعلا

يـا أخـا الـمـكـرمـاتِ إنَّ ذنوبي     حـمـلـنـنـي إلـى مـعـاديَ ثـقــلا

إن تكنْ شافعي فـغـيـرُ عـجـيبٍ     أنـتَ بـالـسـيِّـدِ الـمـشـفَّـعِ أولـى

مَن مـعـيـني عـلـى مـدائحِ ندبٍ     صـحَّ عـنـه الـكمالُ نقلاً وعقلا

وأخـيـهِ الـفـتـى حـذيـفـــةَ لا يرْ     هـجُ قـولاً ولا يــرنِّــقُ فـعــــلا

وأمـيـنُ الـنـبـيِّ فــي كــــلِّ سرٍّ     كــانَ لـلـمـخـبـرِ الإلـهـيِّ أهـلا

كيف يطوي النفاقَ أهـلوهُ عمَّن     حـشـيَ الـعـلـمَ فـيـه حاشا وكلا

لـحـظـتْ مـقـلـةُ الـشـجاعةِ منه     أسـداً لـم يـزلْ لـه الـموتُ شبلا

سـيِّـدٌ يـلـتقي صدورَ الـمعـالـي     مـثـلـمـا تـلـتـقـي الـجواهرُ وبلا

سَلْ قنا الخطّ أو ظبا الهندِ عنه     تـلـفَّ عـزَّ الـدنــا بـكـفّــيــه ذلّا  (23)

قراءة في ملحمة الأزرية...

إذا كان للملحمة أن تعبر عن ارتباطها بالحاضر ونقل الحسّ التاريخي الملحمي إلى الأجيال فلابد من توفّر الحقائق التاريخية التي لا تخضع للأهواء والخرافات وأن لا تكتنفها الأساطير والموضوعات، فالملحمة تمثل للأمة وجودها التاريخي وصراعها من أجل كرامتها ومسيرتها الحضارية، وإثبات حقها وتدعيم مواقفها وأحداثها.

إنها الالتحام بين الحاضر والماضي لخلق هدف إنساني يكون مجسداً لما يحمله المجتمع من قيم ومبادئ ومعتقدات وليس لخلق حالة من الزهو الذاتي الفارغ الذي تمثله الكثير من الملاحم التي اختلطت فيها الحقائق بالخرافات، وجسدتها شخصيات اختلف في وجودها من عدمه، والتغنّي ببطولات وأمجاد قومية وقبلية ضائعة في ظلمات التأريخ وتيه الصحراء، من التبجّح بالأنساب، والغلو بالمحامد والمدائح الذي يضاهي الخوارق، والتفاخر بالغزو والسلب وغيرها.

إننا أمام ملحمة حقيقية توفّرت فيها الشروط الكاملة للملحمة حيث ارتبطت حوادثها بحياتنا وتأريخنا وديننا، وقد توحّد فيها الموضوع وتسلسلت الأحداث وتعدَّدت الصور والوقائع والحقائق التاريخية بألفاظ رصينة وتراكيب تنقّلت بين الرقة والقوة على بحرٍ واحد وإيقاع جميل منساب، ورغم خلوها من عنصر الأسطورة وحالة (الإدهاش) الذي عبر عنه أرسطو بأنه: (مستحب دائماً) والذي اعتمدت عليه الملاحم كثيمة دائمة، إلا أن هذه الملحمة مثّلت بمجملها أوج الفن الملحمي التاريخي الذي ينتصر للحق والعقيدة ويمجد المبادئ السامية والأخلاق العظيمة والصفات الفاضلة التي حملها أهل البيت (عليهم السلام) في مقابل نزوع الملاحم الأخرى إلى تمجيد القوة والبطش.

الأُزرية...

تُعدّ الأزرية آية في الفن الملحمي، ومفخرة من مفاخر الشعر العربي، بل معجزة من معاجزه، لم يسبقها إلى مثلها في طول نفسها سابق، ولم يلحقه في روعة أُسلوبها لاحق. جمعت إلى جانب المتانة والجزالة ورقة المعاني ودقة التعبير وتركيز الفكرة وقوة الحجة وسلاسة البيان وسلامة اللفظ والاستدلال المتين على العقيدة الحقة والمناحي الأخلاقية ومدح الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله) وآله الطاهرين (عليهم السلام) والتركيز على الحق المغتصب لأمير المؤمنين (عليه السلام) في الولاية المنصوص عليها من الله ورسوله وظلامته، إلى جانب ذكر الكثير من الحقائق والقصص في التاريخ الإسلامي وبخاصة صدر الاسلام.

اشتهرت في الآفاق واقتناها روّاد الأدب والمعرفة وحفظها أهل المنابر والخطباء وخلدت شاعرها في الطبقة الأولى من شعراء العربية، إنها القصيدة الأزرية أو (ألفية الأزري) التي أربت على الألف بيت والتي تعد ملحمة شعرية أرّخَت أهم حقبة من حقب التاريخ الإسلامي ومثّلت رأي الشيعة الإمامية في النبوة والإمامة كاملاً، كما تضمّنت الكثير من المباحث الكلامية وإقامة الحجج عليها في باب الإمامة، تُغني بجملتها عن مجلدات ضخمة، ولا شك أن تركيز الفكرة واختصار العرض وإيجاز الدليل وتلخيص الوقائع ودقة التعبير، كل ذلك لا يحصل بالنثر كما يؤديه الشعر مضافاً الى أن للشعر تأثيره الكبير في النفوس لإقناعها وتوجيهها فهو أكثر أثراً في الجدل من النثر. والألفية على قافية واحدة وهي (الهاء) وبحر واحد وهو (الخفيف)، وهي على طولها ونسقها فإنك لا تجد بين أبياتها ضعفاً أو هبوطاً عن مستواها العالي.

خلّدت هذه الملحمة شاعرها وجعلته في مصاف (شعراء أهل البيت) ولو لم يكن له غيرها في مدحهم (عليهم السلام) لكفاه فخراً. وقد خمسها الشاعر الكبير الشيخ جابر الكاظمي (24)

يبدأ الأزري ألفيته بمقدمة وجدانية تبلغ خمسين بيتاً تستحق أن تكون قصيدة لوحدها وهي على نسق واحد من قوة البيان والبلاغة الشعرية نقتطف منها هذه الابيات:

يا خـلـيـلـيّ كـلّ بـاكـيـــةٍ لـــــم     تـبـكِ إلّا لـــعـــلـةٍ مُـقـلـتــاها

لا تلوما الورقاءَ في ذلك الوجـ     ـدِ لعلّ الذي عــرانـي عـراها

خـلّـيـاهـا وشـأنَــهـا خــلــيــاها     فـعـسـاها تـبـلُّ وجـداً عـساها

كـان عـهـدي بـهـا قريرةَ عينٍ     فـاسـألاهـا بــالله مِـــمَّ بُـكـــاها

ليت شعري هل للحمائم نوحي     أم لـديـهـا لـواعـجـي حـاشاها

لو حوتْ ما حـويـتـه مـا تغنّتْ     سلْ عن النارِ جسمُ من عاناها

ثم يتعرّض لذكر المصطفى (صلى الله عليه وآله) وإبراز خصاله الكريمة وصفاته العظيمة ومكارم أخلاقه فيقول:

معقلُ الخائفين من كلِّ خوفٍ     أوفرُ العربِ ذِمّةً أوفـاهــا

مـصـدرُ الـعـلـمِ ليسَ إلّا لديه     خبرُ الكائناتِ من مُبـتداها

هـو ظـلُّ اللهِ الـذي لـو أوتــه     أهلُ وادي جـهـنمٍ لـحـماها

ما تـنـاهـتْ عـوالـمُ الـعلمِ إلّا     وإلـى ذاتِ (أحمدٍ) مُنتهاها

أيّ خـلـقٍ لله أعـظـــمُ مــنــه     وهو الغايةُ التي استقصاها

وقد ضمّن الأزري في مدح النبي (صلى الله عليه وآله) والأئمة المعصومين (سلام الله عليهم) الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي جاءت في حقهم (عليهم السلام) وكذلك الوقائع التاريخية والمطالع لهذه الملحمة يتضح لديه مدى تضلّعه في القرآن الكريم وتفاسيره والأحاديث النبوية الشريفة ومدى اطلاعه واستيعابه للتأريخ الإسلامي وأحداثه يقول من ملحمته:

ورجـــالاً أعـــزّةً فــي بـيــوتٍ     أذن الله أن يعزَّ حـمـاهـا

سـادةً لا تــريـــدُ إلّا رضـا الله     كما لا يريد إلّا رضــاهـا

خـصَّـهـا مـن كـمـالـهِ بالمعاني     وبأعـلـى أسـمـائه سمّاها

عــلـمـــــاءٌ أئـمـةٌ حـــكــمـــاءٌ     يهتدي النجمُ باتباعِ هُداها

من يباريهمُ وفي الشمسِ معنى     مُـجـهدٌ متعبٌ لمن باراها

ورثـوا مـن محمدٍ سبقَ أولاها     وحازوا ما لمْ تَحزْ أخراها

الفلسفة في الملحمة

وتتجلى ثقافة الأزري الواسعة وخزينه المعرفي والتاريخي في مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)، ورغم أن المصادر لم تدلنا على العلوم التي درسها في النجف الأشرف وعلى يد من تلقّاها إلا أن لفتات العالم بالمعارفِ الإسلامية تلوح من خلال شعره فلا يمكن لغير الدارس للفلسفة المتذوِّق لها أن يقول في أمير المؤمنين (عليه السلام) ما نصه:

وهوَ الآيةُ المحيطةُ فـي الكو     نِ ففي عينِ كلِّ شيءٍ تراها

الفريدُ الذي مـفـاتـيحُ علمِ الـ     ـواحدِ الفردِ غيرُه ما حـواها

وهو الجوهرُ الـمـجـرَّدُ مـنه     كلُّ نـفـسٍ مـلـيـكـهـا ســواها

لم تكنْ هذه الـعـنـاصــرُ إلا     مـن هـيـولاه حيثُ كان أبـاها

فهو يعبِّر عن أمير المؤمنين (عليه السلام) بالجوهر المجرّد الذي منه تمتد أشخاص النوع في تكوينها وتزكية أخلاقها بتدبير المليك المصوِّر تعالى شأنه، فهو (عليه السلام) منبع العلوم والأخلاق, وهكذا نجد في أبيات كثيرة إذا تدبّرها القارئ سيجد أن الأزري صاحب فلسفة وعلم فضلاً عما ينطق به شعره وبراعته فيه من دراسته للعلوم الإسلامية وهذه الأبيات المتفرِّقة من ألفيته تفصح عما ضمَّت جوانحه من شتى العلوم:

جاءَ من واجــبِ الـوجودِ بما يسـ     ـتصغرُ الممكناتِ أنْ يخشاها

جــوهـرُ تـعـلـمُ الـفـلــزّاتُ من كـ     ـلِّ الــــقضايا بـأنـه كـيـمياها

هو طاووسُ روضةِ الملكِ، بلْ نا     مـوسُـها الأكبرُ الذي يرعاها

أما فيما يخص الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي نزلت وقيلت بحق أمير المؤمنين (عليه السلام) فكان شاعرنا ملمّاً بها وأعطاها حيزاً كبيراً من ملحمته ونترك للقارئ الحكم على مدى معرفته بهذه الآيات والأحاديث من خلال هذه الأبيات:

إنّما الـمـصـطـفى (مدينةُ علمٍ)     وهو (البابُ) من أتــاهُ أتــاها

هل أتتْ (هلْ أتى) بمدحِ سِـواهُ     لا ومـولـى بـذكـــرهِ حـــلّاها

فـتـأمَّـلْ بـ (عمَّ) تُـنـبِـئــكَ عنـه     نـبـأٌ كـلُّ فــــرقــــةٍ أعــيــاها

وبمعنى (أحبُّ خلقِكَ) فـانـظـرْ     تجدِ الشمسَ قد أزاحتْ دُجاها

وتـفـكّـرْ (بأنتَ مِنّي) تـجـدهــا     حـكـمـةً تـورثُ الرقودَ انتباها

أو ما كان بعدَ (موسى) أخـوه     خـيـرَ أصـحـابِـهِ وأكـرمَ جَاها

لـيـس تـخـلـو إلّا الـنـبـوةُ مـنه     ولـهـذا خـيـرُ الورى اســتثناها

وهو في آيةِ (التباهلِ) نفسُ الـ     مـصـطـفـى لـيـسَ غـيرُه إيّاها

ثــم ســلْ (إنّــمـا ولـيُّـكــم الله)     تـرَ الاعـتـبـارَ فـي مــعـنـــاها

آيــةٌ خـصّـــت الــولايـــــة لله     ولـلـطـهـرِ حـيـدرٍ بــعــدَ طــه

الملحمة والتأريخ

ويسترسلُ الأزري في تعديد فضائل أمير المؤمنين (عليه السلام) ومناقبه التي لا تُحصى فيذكر بالتفصيل حروبه ومواقفه مع النبي (صلى الله عليه وآله) في بدر وأُحد وخيبر والخندق وحنين ثم يستعرض حادثة الغدير ويقدِّم أدلة كثيرة على أحقية الإمام (عليه السلام) بالولاية كما يستعرض أحداثاً كثيرة جرت بعد وفاة الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله) يطول شرحها ولا يسعها هذا المقال وفي ختام قصيدته يقول مخاطباً أمير المؤمنين (ع) بقوله:

ليت عيناً بغيرِ روضِكَ ترعى     قذيتْ واسـتـمـرَ فيها قذاها

أنـتَ بـعـدَ الـنـبـيِّ خيرُ البرايا     والسما خيرُ ما بها قمراها

لـكَ ذاتٌ كـذاتهِ حـيـــث لو لا     إنّـهـا مـثـلـهـا لــمـا آخــاها

ونكتفي هنا بما نقلناه من هذه (الملحمة) العظيمة ولو أردنا التوسّع فيها لأخذنا سحرها إلى عوالم بلاغية وعلمية رحبة يطول الحديث عنها فهي تعد موسوعة علمية ودينية وفلسفية وتاريخية وفكرية.

التراث الضائع

بقي أن نذكر أن مما يؤسف له حقاً أن الأزري كتب ملحمته في طومار للاحتفاظ بها وهي تبلغ ألف بيت فأكلت الأرضة جملة منها والذي بقي منها (587) بيتاً، وقد خمسها العديد من الشعراء والأدباء أبرزهم الشيخ جابر الكاظمي.

أما شاعرها فقد توفي في بغداد حسبما يذكره صاحبا الذريعة والكنى والألقاب ودفن في الكاظمية المقدسة قرب مدفن السيد المرتضى علم الهدى داخل بناية مقبرة السيد مع أخيه الشاعر والعالم الشيخ محمد رضا الأزري عليهما الرحمة (25)

................................................................

1 ــ ديوان الأزري الكبير ــ الشيخ كاظم الأزري التميمي الطبعة الأولى 1400 ــ 1980 م تحقيق شاكر هادي شكر / دار التوجيه الإسلامية بيروت – كويت ص ٤٣١ ــ 437

2 ــ نفس المصدر ص 296 ــ 303

3 ــ نفس المصدر 465 ــ 468

4 ــ الكنى والألقاب ج ٢ ص ١٩ / الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج ٩ ص ٦٩ / في معارف الرجال ج ٢ ص ١٦١ / مراقد المعارف ج ١ ص ١٣٨ / مقدمة الديوان ص 17 / موسوعة الشعراء الكاظميين ج 8 ص 197

5 ــ مقدمة الديوان ص 17 ــ 18

6 ــ ديوانه ص 411 من قصيدة تبلغ (57) بيتاً

7 ــ نفس المصدر ص 69 من قصيدة تبلغ (59) بيتاً

8 ــ نفس المصدر ص 177 من قصيدة تبلغ (20) بيتاً

9 ــ معارف الرجال ج 2 ص 162 / مقدمة الأزرية للشيخ الأزري ــ دار الأضواء 1409 ه‍ 1989 م.ص ٦

10 ــ أعيان الشيعة ج ٩ ص ١١

11 ــ تكملة أمل الآمل ج 4 ص 263

12 ــ الطليعة من شعراء الشيعة ج 2 ص 136

13 ــ معجم المؤلفين ج 8 ص 139

14 ــ معارف الرجال / ج 2 ص 161

15 ــ مقدمة الأزرية ص 7 ــ 11

16 ــ ديوانه ص 108

17 ــ أعيان الشيعة ج ٩ ص 12

18 ــ مقدمة الديوان ص 21

19 ــ نفس المصدر ص 45

20 ــ ديوانه ص 331 ــ 332

21 ــ نفس المصدر ص 178 ــ 182

22 ــ نفس المصدر ص 257 ــ 258

23 ــ نفس المصدر ص 478 ــ 481

24 ــ طبعت مع التخميس دار الأضواء للطباعة والنشر والتوزيع حقوق الطبع محفوظة للناشر الطبعة الأولى 1409 ه‍ 1989 م.

25 ــ مقدمة الملحمة ص 6

وترجم له أيضاً:

الزركلي / الأعلام ج 5 ص 215

أغا بزرك الطهراني / الذريعة إلى تصانيف الشيعة ج 9 ص 69

عباس القمي / الكنى والألقاب ح 2 ص 23

عبد الكريم الدباغ / موسوعة الشعراء الكاظميين ج 8 ص 197 ــ 213

كواكب مشهد الكاظمين ج 8 ص 46 ــ 49

عباس العزاوي / تاريخ الأدب العربي في العراق ج 2 ص 296

جواد شبر / أدب الطف ج 6 ص 29

إميل يعقوب / معجم الشعراء منذ بدء عصر النهضة ج 3 ص 990

معجم المؤلفين / رضا كحالة ج 8 ص 139

عباس القمي / الفوائد الرضوية ص 365 ــ 366

الأستاذ عبد الكريم الدباغ / موسوعة الشعراء الكاظميين ج 8 ص 197 ــ 213

الدليل العراقي الرسمي ص 951 ــ 952

كامل سلمان الجبوري / معجم الشعراء ج 4 ص 218 ــ 219

معجم الشعراء العرب ص 399

gate.attachment

كاتب : محمد طاهر الصفار