السلام عليك يا أبا عبد الله... السلام عليك يا ابن رسول الله.....


بهذه الكلمات السرمدية التي أطلقها ما لا يحصى من الناس وهي تقف خاشعة أمام هذا الجلال المقدّس، طرقتُ بقلبي بابه قبل كفّي..، ملايين من الزوّار سكبت دموعها هنا في هذا المكان عبر الأجيال وعبر قرون طويلة وما زال كعبة للقلوب ومهوى لأفئدةٍ عاشقة.
كنت أقرأ هذه الكلمات من كتاب الزيارة وأكادُ أمسكُ أنفاسي وأحبس دموعي وأنا أستحضر الجراح التي رسمت في هذه البقعة المقدسة صلة الأرض بالسماء وأحالتها من قفر موحش إلى روضة من رياض الجنة.
تجاوبت الدموع مع شجن الكلمات بعد ترتيلي لطقوس الاستئذان:
أتأذن لي بالدخول...
الدموع تقطع تذكرة المرور للدخول إلى حرمه المقدس..، فقد اقترنت باسمه منذ تلك الظهيرة العاشورائية الدامية..، استغرقتُ مرة أخرى مع الزيارة وأفعمني شذى النبوة من هذا العالم القدسي، كان شعوري يسري حالماً حول الضريح ويسبح مع هالات النور في أرجائه.. تلك الهالات النورانية التي تطرق أبواب القلوب الموصدة بالغفلة لتنبلج بالضياء.
الخشوع يغشو المكان وهمس مناجاتي يأخذني... يأخذني إلى مسرح ذلك اليوم الدامي فاستوحي منه المشهد الذي أبكى السماء... استذكرت زينب وهي ترفع رأس أخيها المسجّى قرباناً متوهّجاً بالدماء لتقدمه بين يدي لله.... وضعتُ كفّي على فمي لأمنعَ عاصفة البكاء في داخلي.. ولتنطق بدلها عيناي.. فتلألأت الدموع مع الأضواء لتضيء النفس وتغسل القلب وتطهر الضمير من أدران الحياة.
أحسست وأنا مستغرقة بتلاوة الزيارة بأنفاس تحاول لفت انتباهي، ويد تلمسني بلطف بالغ، وصوت غلبته السكينة والوقار يسألني متوسّلاً:
ــ أرجوكِ أن ترفعي من صوتكِ قليلاً لكي أشارككِ الزيارة...
كانت امرأة يظهر من تجاعيد وجهها أنها تجاوزت العقد السادس من عمرها، وتبدو عليها سيماء الصلاح والعبادة، وقد ازداد وجهها بهاءً بابتسامتها اللطيفة ونظرتها المتوسّلة...،
فوجئتُ في البداية فقد كنتُ معتادة على إداء زيارتي في مكان منزوٍ بعيداً عن الأماكن المكتظة بالناس وأصوات التراتيل والبكاء، ولم أكن أتوقّع هذا اللقاء بهذه السيدة، وكأن شخصاً قد أشار لها بالمجيء إليّ...
استطردتْ وكأنها تحاول أن تخفي خجلها بالحديث...
ــ اعلمي يا ابنتي أنني أجيد القراءة لكن ــ عافاك الله من ضعف البصر ـــ كلما فتحت كتاباً لا أرى فيه غير خطوطٍ سوداء فأتركه واعتمدُ على ذاكرتي الضعيفة وما تحفظه من آياتٍ وأذكار لأقرأها....
اختفت آثار دهشتي سريعاً عندما نظرتُ إلى وجهها الباسم وأحسستُ بالطمأنينة نحوها.. فقابلتُ ابتسامتها بمثلها وقلت لها وأنا أدعوها بالجلوس قربي:
ــ سأكون أنا بمثابة عينيك لدقائق.. فأسمحي لي بذلك ولنتشارك فضل الزيارة..
كانت علامات الحزن وألم السنين ترتسم على ملامحها وأثر أحداث جسام أكادُ أقرأه في عينيها وبان على جسدها، فجلست بصعوبة وهي تشكو من ألم قدميها...
شرعتُ بقراءة الزيارة وحاولتُ أن أبطِئ قليلاً في قراءتي لكي لا تفوتها كلمة، وعندما وصلت إلى زيارة الشهداء بدأت بالقول:
ـــ السلام عليكم يا أنصار فاطمة سيدة نساء العالمين.....
راودني إحساس بأن السيدة كانت تبكي بمرارة رغم انهماكي في القراءة ثم سمعتُ نشيجها المؤلم ورأيتها رفعت يديها نحو السماء وهي تدعو:
ــ ربِّ اجعله منهم.. ربِّ اجعله منهم...
أثارتْ فضولي هذه الكلمات، ولكنني تابعتُ قراءتي للزيارة.. وما إن أنهيتها حتى صافحتني بحرارة وهي تدعو لي بالتوفيق والسعادة والخير... ولكنني لم أنسَ أن أسألها عن بكائها المفاجئ ومغزى كلماتها عندما قرأتُ زيارة الشهداء... تفرّستْ في وجهي كمن يريد أن يبوح بشيء ثقيل في صدره ..ثم أغمضتْ عينيها قليلاً وكأنها تحاول أن تطبقهما على شخص ما لتستحضر صورته ثم قالت:
ــ أنا أم شهيد في الحشد الشعبي المقدّس وكنت أدعو الله أن يحتسبه عنده ويجعله من أنصار فاطمة الزهراء (عليها السلام) وتكون روحه مع أرواح السعداء..
أحسستُ بقشعريرة وانتابني إحساس بالبكاء.. حاولتُ أن أتكلم.. لكنّ آهة أطلقتها السيدة من أعماقها منعتني من الحديث وجعلتني أنظر إليها وأنا واجمة.. لقد زادتْ هيبة وقداسة المكان من أثر هذا الكلام في نفسي...
إنها أُمٌّ ثكلى فقدت ولدها وجاءت تتأسى بنساء بيت النبوة في حضرة الحسين... إنها تبكي على الأجساد الطاهرة التي تركت في العراء قبل أن تبكي على ولدها ..إنها الأم التي اقتدت بسيدة الكبرياء وجبل الصبر والمثل الأعلى فيهما... فكل فاجعة هي دون فاجعتها.. تتأسى بها المؤمنات الثكالى وتقتدي بها الأمّهات الصابرات..
كانت هذه السيدة تتوسّل إلى الله بما تحمله نفسها المليئة بالعواطف والمشحونة بالمشاعر والمتدفّقة بالحنان تجاه ولدها أن يحشره مع أنصار الحسين... فأيّ مشاعر نقية وصافية ونبيلة وصادقة تحمل هذه السيدة؟
ابتسمتُ بوجهها وهدّأتُ من انفعالاتها وطلبتُ منها بلطف أن تتحدّث إليّ عن ولدها الشهيد وأخبرتها بأنني مهتمة جداً لسماع قصص أبطال الحشد الشعبي المقدّس, وبأنني أوثّق بطولاتهم لتبقى صفحات مشرقة وسطور بيضاء في سجلات التاريخ ولتحظى الأجيال القادمة بشرف القراءة عنهم والاستلهام من بطولاتهم....
ابتسمت عند سماعها كلماتي ثم بدأت تحكي لي عن (أمير) ولدها الشهيد البطل....
ــ أنجبتُ أمير بعد طول انتظار ليكون قرة عيني وذخري، فقد أنجبتُ قبله أربع بنات فكانت سعادتي به لا توصف لدرجة أنني كنتُ أفضله على بناتي في المعاملة، وكثيراً ما كان أبوه ينبهني ويقول لي: أنتِ امرأة مؤمنة فلا تفرّقي في حنانكِ واهتمامكِ بين أبنائكِ. لكن شعوري بالحب له كان يغلبني....
توقفت السيدة قليلا وأطلقت آهة والتقطت أنفاسها ثم واصلت الحديث...
ـــ لم يكن هذا شعوري وحدي بل كان شعور أخواته أيضاً فقد كنَّ يُحطنه بعناية واهتمام بالغين، وبالمقابل كان هو يقدّر لنا هذا الحب والإحترام والرعاية فيقابلها بالمثل..... لقد ربيته تربية دينية وأرضعته حب النبي وآله.. فنشأ شاباً مؤمناً مواظباً على الفرائض وزيارة الأئمة (عليهم السلام)، وكان سلوكه مستقيماً مع الناس يحترم كبيرهم ويعطف على صغيرهم ويساعد الفقراء والمحتاجين وصادقاً مع نفسه ومع الآخرين ولم تكن الابتسامة تفارق وجهه الجميل، وكان يفرض على الجميع محبته واحترامه...
ـــ آه لم يغضبني أبداً في حياته ولم يكن يتركني ويخرج إلا وأنا مبتسمة وراضية عنه... كم قبّل يديّ هاتين ... قالت ذلك وهي تقلب كفّيها...
ـــ وأخيراً جاءت لحظة الفراق ليلتحق بركب الحشد.. عندما أخبرني ذات يوم عن عزمه على تلبيته نداء المرجعية.... لا أعرف ما أصابني كانت مشاعري تخرج عن إرادتي ولا أستطيع السيطرة عليها.. كنت فرحة وحزينة في نفس الوقت! حينها شعرتُ بأن الحياة ستنتهي, كيف ستشرق الشمس في الصباح دون أن أرى وجه أمير؟
هل يمكن ذلك!! وهل سيكون صباحاً دون أن يقول لي: صباح الخير... وأجهز له الفطور؟
وهل سأستنشق الهواء دون أن أحظى بقبلة منه اعتاد عليها جبيني؟ .
كان الشعور في تلك اللحظات مخيف وقاسٍ لا يوصف لم أدرِ ما أقول له!! لكن كلماته هدأت من روعي وأعادتني إلى رشدي كمن يشير للتائه في الصحراء إلى واحة نضرة ... لقد وجهتني بوصلة كلماته إلى ما خفي عني.. لن أنسى ما عشتُ تلك الكلمات... إنها محفورة في روحي تفجّر مواويل أحزاني وتنصهر مع أحزان أم البنين:
ــ أمي هل تبخلين بولد واحد ومولاتي أم البنين قدّمت أربعة أولاد بين يدي أبي عبد الله الحسين؟....,
لطالما سمعتُ منكِ في المجالس التي تحييها في دارنا عبارة: (يا ليتنا كنا معكم فنفوز والله فوزاً عظيماً)... أتعلمين أنه لو أكرمني الله بالشهادة فسأكون رفيقاً لأصحاب الحسين، وسأحظى بمنزلة رفيعة عند ربي وسأنتظركِ هناك وأفخر بكِ وأقول: هذه أمي اقتدت بأمِّ البنين (عليها السلام)، وهي من ألبستني لباس الجنود وودّعتني بأطيب الكلمات... قالت لي امضِ يا ولدي وانصر مولاكَ الحسين....
ثم أردف قائلاً يا أمي سأحامي مع رفاقي عن المراقد والعتبات المقدسة وعن عقيدتنا وعن شيعة أمير المؤمنين الذي أسميتني باسمه عشقاً وولاءً له وسأدافع عن المستضعفين والمظلومين فهذا ما دعا إليه مولاي أبو عبد الله في ثورته .
توقفت عن الكلام قليلا وهي ساهمة العينين وكأنها تسترجع صورته وهو يحدثها بهذا الحديث ثم قالت:
أخجلتني كلماته وأرهقت تفكيري.. لم أشعر إلّا والدموع تلسع وجهي آآآآه يا بني أنتَ فخري وذخري.... حمدتُ ربي على أني أحسنتُ تربيته.... لقد كانت روحه مفعمة بالحب والولاء لأهل البيت (عليهم السلام) .
بعد أيام ذهب أمير لأرض الجهاد.., كاد أن يختطف قلبي معه.. لم أعرف كيف صبرتُ على فراقه؟ كنتُ جسداً دون روح حتى عاد إليّ في إجازته الأولى.. كانت الأيام تمضي سريعاً عندما يعود, وعند التحاقه يقتلني الانتظار ويخطف بسمتي وعندما ذهب آخر مرة أحسستُ بقلبي يتمزّق لكنني وكلت أمري إلى الله وقرأت شيئاً من القرآن... وبقيت أنتظر عودته كعادتي كل مرة.
وأخيراً عاد أمير... عاد ولكن ليس ككل مرة لقد عاد محمولاً على أكتاف رفاقه وهو مغطىً بالعلم, يُزفّ حول مرقد إمامه وحبيبه الحسين وحول مرقد أبي الفضل العباس (عليهما السلام)....,
منذ ذلك اليوم وأنا أحضر هنا يومياً للزيارة فأشعر بروح ولدي هنا مع أرواح الشهداء... أشعر بها ترفرف مع السعداء فأدعو الله ليكون شعوري وظني في محله... وأن يتقبّل الله روحه مع أنصار سيدة نساء العالمين..
سكتت قليلاً ونظرت إلى ضريح الشهداء وبدت عليها سيماء الطمأنينة ثم قالت: هذه قصة ولدي الشهيد.
في هذه اللحظة لم أجد كلمات تواسي مصابها, فهويتُ على يدها لتقبيلها رغم ممانعتها... قلتُ لها: إن اليد التي تربي رجالاً أبطالاً مثل ولدكِ تستحق التقبيل وأكثر... عانقتني وقبلتْ رأسي فودّعتها والعبرة تكاد تخنقني, ولا تزال صورة هذه السيدة تسكنني.

 

إيمان كاظم الحجيمي