بخّرَ ملابسَه العسكرية ببخورِهِ المفضّلة، إذْ كانَ حريصاً على ممارسةِ طقوسهِ العتيقةِ وكأنَّه ما زالَ في ذلكَ الزمنِ الجميلِ أيّامَ الخيرِ والبساطةِ كما أعتادَ أن يسمِّيها الجدُّ الحنونُ الذي يجتمعُ حوله أحفادُه ينتظرونَ الحلوى التي ملأتْ جيوبَه وهو يروي لهم قصصَ البطولةِ القديمة, عندها بادرَ أحد أحفادهِ بسؤال:

ـ جدِّي لمَ لا تحكي لنا قصَّتَكْ ؟ 

أجابَه بصوتٍ شجيْ

ـ قصَّتي يا ولدي لن تُحْكى اليومْ.. قصَّتي ستُروى غداً إنْ شاءَ ربي لي الشهادة.

بادره بسؤالٍ آخرْ.. لكنْ هذه المرة كانتْ عيناهُ تسألُ قبلَ لسانِهِ:

ـ ألستَ بطلاً ؟

بابتسامةٍ مازجَها حزنٌ عميقٌ وكأنَّ الكلامَ هربَ من لسانِهِ , لمْ ينطقْ الجَدُّ حينها أبدآ, اكتفى بأن يمسحَ على رأسِهِ ويُكملَ الحكاية .

ها هو الوقتُ يمضي مُعلِناً موعدَ الرحيلِ إلى أرضِ الكرامةِ ومهدِ الرجولةِ.., كانَ يتطيَّبُ ويُهيِّئ أغراضَه في حقيبتهِ, اجتمعتْ حوله عائلتُه الكبيرة تدعو له ولرفاقِهِ بالنصرِ المؤزَّرِ.. كانوا يَتوَسَّلونَ إلى الله أن يَحفظَه لهم ويرجِعَه سالماً ليشرقَ دارَهم بنورِ وجههِ وبشيبتهِ الوقورة.

وفي الطريقِ لمْ تَغفُ عيناهُ رغمَ ساعاتِ السفرِ الطويلة.. كانَ يتأمَّلُ أرضَ العراقِ شارداً بجمالِ النخيلِ وزرقةِ السماءِ, وهو يقرأُ مناجاةً وأدعيةً اعتادَ أن يقرأها في كتابِ مفاتيحِ الجنانِ حيثُ كانَ رفيقُه الأمثلْ .

ما إنْ وصلَ بدأ يطلقُ بلهجتِهِ الجنوبيّة عباراتِ الحماسِ وأهازيجَ الثورة, فيستقبله المقاتلون الشجعان بحفاوةِ اللقاءِ... يسرعونَ لتقبيلِ رأسِهِ باحترام... كانَ بمثابةِ أبٍّ روحِيٍّ للجميع فعُرِفَ بلقبِ عمِّ المجاهدين أو الشيخ, خبرتُه بالحياةِ لمْ تقترنْ بعقودهِ السبعة، بلْ اقترنتْ بأيمانهِ وعقيدتهِ, كانَ يشعُّ شباباً كما ابن العشرين لكنه مع ذلك لم يتخلَّ عن وقارهِ.. كانَ مزيجاً رائعاً من الرجولةِ والعطفِ والهيبة, له عبارة اشتهرَ بها بين الجنودِ, قالها لهم مراراً وتكراراً أنتمْ الجيلُ المُفرحُ الحزين, لم يفهمها كثيرون مع أنها لا تَتَعَدَّى بضعَ كلماتٍ لكنْ دلالتَها أعمقُ من كونِها جملةٌ عابرة .

إصرارُه على أن يَستلمَ واجبَه في الخطوطِ الأمامية كان رغبةً منه في لقاءِ الشهادةِ فهوَ يتسابقُ عليها ويقولُ للجميعِ بينَ الجِدِّ والمُزاحِ: أنا أحقُّ منكمْ بالشهادةِ فقدْ يُفاجِئني الموتُ على فراشي ويُخاطبني بحزمِ: ألم تَكْتَفِ بكلِّ هذهِ السنين؟

في ساعةٍ من ساعاتِ الليلِ الطويلِ كانَ الأقسى في برودتِهِ ووحشتهِ جالسَه أحدُ الشبابِ الذي التحقَ حديثاً للدفاعِ عن الأعراضِ والمقدساتِ.. لم يتعدَّ عمرُه الستةَ عشرَ عاماً.. كانَ جميلاً بلباسِهِ العسكريِّ فيبدو للوهلةِ الأولى لمنْ يراهُ أنّه رجلاً بطلتِهِ المهيبة رغمَ أنّه بالكادِ كانَ شاربُه يرتسمُ على وجهِهِ، تبادَلا أطرافَ الحديثِ فأنسَ الشابُ لحديثِ الشيخْ... كانتْ ثقتُه تزدادُ بهِ وكأنَّه يتحدّثُ معَ والدِهِ الحقيقي... فأسرَّه بما يخالجُ نفسَه من شعورٍ جعله يلجَأُ إليهِ ويتركُ مجالسةَ الشبابِ القريبينَ من عمرِه فأخبرَه بأنَّ رفاقَه يزعجونَه بالتَندِّرِ عليه ويُصرُّونَ على ممازحتهِ بكلماتٍ تُشيرُ إلى إنّه مازالَ صغيراً وإنّ شكله وهيْأتَه لا ترهبُ العدوَ, أصْغَى الشيخُ إلى شكوى الشابِ باهتمامٍ ثمَّ أجابَه وهو يبتسمُ بحذرٍ كي لا يزعِجه:

ـ يا ولدي إنهم أخوتُكَ ويمزحونَ معكْ.. أنتَ كفؤٌ لها بعزمِكَ وأرادتِكَ ومع ذلك يمكنكَ أن تردَّ عليهم بالقولِ: إنَّ الرجالَ بأفعالِها لا بأشكالِها.. ومن يعلمْ فقد تسبِقُهم إلى الشهادةِ فتُولدُ حيَّاً عند ربكَ وتبلغُ من المنزلةِ الرفيعةِ عندَ اللهِ فيغبطُك عليها أشدُّ الرجال, فالموتُ درجاتٌ ولا يلقّاها إلّا ذو حظٍ عظيم.

كانتْ هذه الكلماتُ تحسِّسه بالطمأنينةِ وتُهدِّأ من فورتهِ وما إن انتهى الشيخُ من كلامهِ حتى أحسَّ الشابُ بأنه بين عائلتهِ بين أبيهِ الشيخِ وأخوتهِ المقاتلينَ الذينَ يمازحُونَه لحبِّهمْ له وعطفِهم عليه.. فبرقتْ عينُه بابتسامةٍ مرحةٍ ونهضَ وقال: يا عمّ أثلجتَ صدري.. ثم مشى خطوتينِ فناداه الشيخُ وكأنّه نسيَ شيئاً: لا تكُنْ واثقاً جداً.. فالعلمُ عندَ اللهِ.. قد تموتُ في فراشِك وأنتَ مُتقدِّمٌ بالعمرِ فالنصرُ قريبٌ وسينعمُ شبابُنا بمستقبلٍ زاهٍ وحياةٍ أفضلْ,  ابتسمَ الشابُ وهزَّ رأسَه مؤيِّداً كلامَه ومضى.. راقبَه الشيخُ وقد أحسَّ بأنَّه كانَ قاسياً عليهِ بذكرِ الموتِ وإنه ربما سيستشهد.. لكنه فُوجِئ بالشابِ وقدْ استدارَ وقال: لا يا عم أنا اخترتُ الميْتةَ الأولى وأنا راضٍ بِها إن كَتبها لي ربي.. أريدُ أن أموتَ موتَ الإبطالِ فأنا ما جئتُ إلّا لأكونَ شهيدا.

بعدَ ساعاتٍ وعند إطلالةِ الفجرِ الأولى بدأتْ مناوراتٌ متبادَلة وأطلقتْ إطلاقاتٌ نارية كثيفة من الجهتينِ أشعلتْ السماءَ وملأتْ الأرضَ برائحةِ البارود, بدأ عمُّ المجاهدين بالدعاءِ بأعلى صوتِهِ يبشِّرُ بالنصرِ ويذكّرُ المقاتلين بمشاهدِ الفجيعةِ لظهيرةِ عاشوراء فيرفعُ معنوياتِهم ويُلهبُ حماسَهم فيستبسلُ المقاتلونَ  بكلِّ ما أوتوا من قوة.. هدأتْ شدَّة الهجماتِ المتبادَلة بعد فترةٍ ليستْ بالقصيرة.. هرَع المُسعفُون لإسعافِ الجرحى وتجهيزِ العتادِ تَحَسُباً لهجمةٍ أخرى، وفي تلك الأثناءِ علا صوتٌ مُختنقٌ بين المُحتشدين, صاح أحدُ الجنود: هنيئاً لكَ يا قاسم الشهادة..  ثم أردفَ قائلاً: يدُه بيدِ عِرّيسِ كربلاء.. وفي تلك اللحظة تجمّدتْ الدماءُ في عروقِ الشيخِ, أرادَ أن يصرخَ لكن صوتَه خرجَ ضعيفاً أرادَ أن يستفسرْ:

ـ مَنْ..؟ ثمَّ أردفَ ليتأكّد:

ـ قاسم ابن الستة عشر عاماً ..؟

أرادَ أن يَهوي لجثمانِهِ الغَضِّ لكن خطواتِهِ لم تُعنه, أحكمَ قبضتَه بيدِ أحدِ الجنودِ وقال له بصوتٍ مُتَقَطِعْ:

ــ أوصلني للشهيدِ ..

أحسّ كأنَّ قلبَه يريدُ أنْ يخرجَ من بينِ أضلاعِهِ وحينما وصلَ جَثا على ركبتيهِ ويداه ترتجفان, رفعَ العلمَ العراقي من وجهِ الشهيدِ فأنفجرَتْ دموعُه, آهٍ إنه قاسم.... آهٍ يا قاسم.. ما أسرعَ تلبيةِ ندائِك وما أسرعَ امتثالِ الشهادة لرغبتِكَ وما أعظمَ منزلتِك عندَ الله, أوجعتَ قلبي.. كيفَ تسبقُني لها..؟ أردتُ أن أكونَ هناكَ لحظةَ وصولِك لأستقبلك.. أمَّا الآن أنتَ ستستقبِلُني, ثم صاحَ بوجعٍ:

ــ لا يا قاسم أخبرتُكَ بأنّكَ ستعيشُ بأمان.. أردتُ أن أفدي الشبابَ جميعَهم بروحي.. أردتُ أنْ يكونَ لكمْ مستقبلٌ جميل... لقد كذبتُ عليكَ.. نعم كذبتُ عليك, إنكَ لا تزالُ صغيراً على الحربِ لمْ تُنصفكَ الحياة, آهٍ ... لو لم تحادثني... لو لم تجالسني, عشتُ عمري لم أفهمْ أنَّ الزُّهدَ في الحياةِ أجملُ ما فيها، وأنَّ الموتَ يحترمُ الصادقين علْمّتني بفراقِكَ وبتلكَ الدقيقة التي خُطفتَ بها من الحياةِ الفانية لتعرجَ بأعالي السماءِ حيَّاً عندَ ربِك قيمة ما قرأتُ وتعلمتُ في كلِّ حياتي ... الوداعُ يا ولدي وهنيئاً لكَ الشهادة...

أرادَ أن يودِّعه بابتسامةٍ لكنَّ ملامحَه لمْ تُعنْه على رسمِها لفرطِ الوجعْ, خضّبَ شيبتَه بدماءِ قاسمْ وغطّى وجهَه وجلسَ عندَ رأسِهِ يتلو آياتٍ من القرآنِ الكريم.. أمَّا باقي الجنود كانتْ الدهشةُ تعتري ملامِحَهم وهمْ يتساءلون بحيرةٍ:

ـ متى عرفَ الشيخُ قاسم واليوم كان لقاؤهما الأول ؟!

 

إيمان كاظم الحجيمي