ها هو فصل الخريف جمع في جراره كل ورقة تساقطت بعد أن سلب بريقها فصيرها شبيهةً بلونه الباهت، هو ذا العدو حين سلب البراءة من أحداقها ولوى أيدي العفة كي تنصاع خاضعة لسطوة إلحاده، فقطف الزهور الواحدة تلو الأخرى وقطع طريق الحلم بانبلاج صباح لا يشوبه غمام رياحه، هكذا بدأ .. ثم ظن أنها النهاية .. لكن أنى له ذلك؟! مع رجال نصروا الحسين عليه السلام ووفوا مع الله بما عاهدوه.. إنهم رجالٌ رحلوا على متن التضحية وعادوا وهم يحتضنون علم العراق ويفوح منهم شذا المرجعية وهم مكللون بالقداسة مجللون بالبهاء، فهم شهداؤنا.. أبطالنا والأمل الذي لم يستطع داعش إجهاضه، حملتهم الغيرة وعقيدتهم الصادقة أن يكونوا في الصفوف الأولى فقاتلوا وقتلوا .. ووجدوا ما عند الله خير وأبقى وهم أحياء يرزقون.

في مسيرتي الطويلة منذ عامين وأنا أنقب عن آثار خطى الأبطال على طريق هدي المرجعية، وكأنني أنقب عن كنوز هذه الأرض وخيرها، قادتني أقدامي الى منجم آخر للتضحية والفداء..

الشهيد عامر الحجيمي.. بطل مغوار حيٌ في فردوس الله، وصلت الى عائلته كعادتي متأهبة لدخول عالمه المقدس فحتى لصورته المعلقة على احدى أضلاع الغرفة جلالٌ وهيبة، حيث بدا لي أنهم لا يملكون سواها في بيت خالهم الذي تكفل رعايتهم، تلك الغرفة البسيطة فحسب، التي لم تحتوِ أبسط ما يمكن أن تحتاجه أي عائلة ما خلا تلفاز صغير مقابل الباب يستند على منضدة صغيرة وضع عليها ساعة ومصحفٌ صغير، ومن الجهة اليمنى قطعة مكسورة من مرآة معلقة على الحائط حشر بينه وبينها مشط، وخلف الباب شمَاعة ملابس كانت بالنسبة لهم خزانة الملابس الأساسية، رحبت بي زوجته وأجلستني على بساط قديم توسط ارضية الغرفة، أنظر الى صورته أمامي ملأت حيزاً جيدا من جانب الحائط الأيسر للغرفة، مررت قبل ذلك بأصوات ضحكات أطفاله الثلاثة في باحة المنزل وهم يرسمون بأصواتهم البريئة وضحكات طفولتهم نسمات من الفرح على أنفاس المنزل الصامتة، سألت الفتاة:

- ما اسمكِ صغيرتي؟

- أمل.. أجابتني بعد ان توقفت عن الدوران لتتعرف إلي بنظرتها الطفولية كان يبدو عليها انها أتمت السنوات الأربع من عمرها، ومن بعدها أجابني أحد الولدين قبل ان اسأله ذات السؤال: وانا علي وهذا أخي كرار، كان الولدان يكبرانها، لكنهما لم يكفا عن الدوران حولها وتطويقها كأنهما يحميانها فبدت لي مثل فراشة تختبئ في أحضان الزهر، نظرت إليهم بالقلب قبل العين لبراءتهم التي كانت بعيدة عن فداحة الواقع.

الغرفة.. التي مثلت لهم منزلاً صغيراً يحتمون به من بعد غياب عامر لم تحوِ الأثاث الفاخر وإنما حوت صور البسالة وطيب زوجته التي رأيتها تلتف حول أطفالها تحميهم، راضية بحكم الله وقضائه وفخورة بزوجها، حيث كلمتني كثيراً عن أخلاقه وسجاياه كشجاعته التي أوصلته الى شرف الشهادة، لم تكن جزعة أو خائفة من المصير المجهول ولم تشتكِ من ضيق الحال بل تحمد الله وتشكره على عظيم نعمه، حتى خالطت عيني بين الحقيقة والسراب، وظننت انني ربما لم أرَ ما تتكلم عنه من ميسور الحال وتوفر كل شيء أو ربما دخلت منزلاً آخر غير الذي باتت تتحدث عنه، كانت توصل نهاية كل جملة بحمد الباري وشكره أن رزقها رجلاً غيوراً صير نفسه فخراً لها ولأولاده يد الدهر، وحباها الباري رزقاً آخر يستحق الحمد وهو أن أقر عينها بأطفال سالمين، أخبرتني أنها لم تخف عليه ولم تعارضه البته، بل كانت كما أم البينين التي قدمت اولادها الأربعة ولم تسأل عنهم دون الحسين عليه السلام سيما أنها طلبت أن ترافقه وبعد توسلها اليه.  

أجابها: ليس على النساء جهاد في الجبهات فجهادهن من نوع آخر، بالصبر والعفة تأسياً بالعقيلة زينب عليها السلام.

- أعلم أن لا جهاد على المرأة في الجبهات ولكنني أطلب رضاك في أن ارحل معك وأكون خلفك في إعداد الطعام للمقاتلين، أريد مشاركتك والبقاء قربك صابرة وأولادنا لا تخف عليهم إن لهم من خلقهم فهو لا ينسى عباده.

رفض أن ترافقه وأوصاها بأطفاله الثلاثة والصبر على المحن لأن الأيام القادمة ستكون قاسية عليها وعليهم، ودعها أمانته والتحق إلى منطقة الرفيع بالقرب من عون ثم إلى جرف الصخر ومن ثم إلى سامراء التي كانت محط رحلهِ الأخير  وعلى أرضها نطق الشهادة ووفى العهد.

 

نغم المسلماني / مركز الحوراء (عليها السلام )