الأم في اللغة هي الأساس والجذر ، ولذا سميّت سورة الحمد( أم الكتاب ) لأن فيها عرضاً ملخصاً لكل محتويات القرآن ( التوحيد ، صفات الله ،المعاد ، اليوم الآخر ) ، والأم هي أساس الأسرة وهي بدورها أساس المجتمع لذا فإن الإسلام أولى المرأة والأم بالتحديد أهمية كبرى ؛ وذلك لأن المجتمع الكبير يتشكل من مجتمعات صغيرة وتمثلها( العائلة) فاذا لم يوجد عنصر الرأفة بين أعضاء الأسرة فإن علاقات التعاون والمحبة لا تقوم أبداً بين أفراد المجتمع الكبير .

إن أهم عوامل إشاعة روح الرأفة والرحمة والإيثاروالتضحية بين أفراد المجتمع هو تجلي روح الأم بين أعضاء الأسرة ، صحيح أن الأب هو من يتولى الأعمال الإدارية تحت عنوان (الرجال قوامون على النساء) ولكن أساس العائلة يُبنى على الرأفة والرحمة والوفاء والارتباط وكلها بعهدة الأم فهي من تلد أبناء يرتبط كل منهم بالآخر ، وهذه الرابطة الفطرية تنمو في ظل التعاليم الدينية ، والإسلام يعد هذه الرابطة وعدم إهمالها أو نسيانها من الواجبات المهمة في الدين ؛ وإذا قطع أي إنسان هذه الرابطة الفطرية فسيُحرم من الرحمة الإلهية ؛ لأن الرَحِم من الأشياء التي أمر الله بها أن توصل وقاطعها خاسر قال تعالى : ( الذين ينقِضون عهدَ اللهِ من بعد ِ ميثاقهِ ويقطعون ما أمر اللهُ بهِ أن يُوصلَ ويٌفسدون في الارض أُولئك همُ الخاسرون ) البقرة آية (27)  توضّح الآية أن قطع الرحم - وهو من الأمور التي أمر الله أن توصل - سيؤدي إلى الإفساد في الأرض وقد يسأل سائل ما هي العلاقة بين قطع الرحم والإفساد في الأرَض ؟

لعل العلاقة هي أن الأفراد الذين نموا وترعرعوا في عوائل متدينة وأدركوا أهمية صلة الرحم عندما ينخرطون في المجتمع لن يفسدوا في الأرض لأنهم دخلوا إلى المجتمع بروح الترابط والإيثار ، بعكس الأفراد الذين ترعرعوا في عوائل غير متدينة فإن علاقة الرحم الفطرية قد أُهملت وكل ما يتصل بها من إيثار وتعاون لذا عندما يدخلون المجتمع ستظهر عليهم صفة( الإفساد) .

وكما أن المرأة هي السبب في إيجاد علاقة الرحم بين أعضاء الأسرة الواحدة وهي علاقة النسب ، فهي أيضاً لها دور في إيجاد العلاقة السببية ؛ لأن الأقارب السببيين في نظر الإسلام كالأقارب النسبيين يتمتعون برحم خاصة ، قال تعالى : ( وهو الذي خلقَ من الماءِ بشراً فجعلَهُ نسَباً وصهراً ) الفرقان آية( 54)

وهنا يتّضح دور المرأة الأم فهي التي توجد الرابطة بين الرجل والأبناء الذي سيولدون من صلبه ، لأنها تستقطب الرجل أولاً، وتنمي فيه الرأفة والعاطفة ، وتسكنّه ، وتحوله إلى شخص مطمئن ومستقر وهادئ ، وتكوّن معه أسرة هادئة وأرحاماً رؤوفين ، كما إنها تربط بين أسرتين بعلاقة المصاهرة ثانياً ، وتحرم من الرضاع ما يُحرّم من النسب ثالثاً .

ومن هنا نقرأ في القرآن الكريم عندما يوصي بتكريم الوالدين يركز على دور الأم قال تعالى : ( ووصينا الإنسانَ بوالديهِ إحساناً حملتهُ أمّهُ كُرهاً ووضعتهُ كُرهاً )  الأحقاف آية (15)

الآية تتحدث عن الوصية الإلهية للإنسان بوالديه ولكن الآية لا تذكر شيئاً عن الأب بل تركز على دور الأم وحملها ، ففترة (الوحام) تحدث للأم نتيجة لقلة المواد في جسمها لإيثارها ولدها على نفسها ثم تأتي مرحلة (الولادة) والآمها ، ثم التربية حيث إن فترة الطفولة في الإنسان هي أطول فترة طفولة في الكائنات، والآية كما تتحدث عن الحمل تتحدث عن الرضاعة وتحدد مدتها ، وكلا الأمرين (الحمل ، والرضاع ) هما مسؤولية الأم .  

-نماذج قرآنية للأم:

قال تعالى :( وأوحينا إلى أمِّ موسى أن أرضعيه فإذا خفتِ عليهِ فألقيه في اليمِّ ولا تخافي ولاتحزني إنّا رادّوه إليكِ وجاعلوه منَ المٌرسلين) تبين كلمة ( أوحينا ) أن المرأة عندما تكون أمّاً ومرضعة تكون في مرحلة قريبة من الله وتكون مستعدة ومستحقة للفيض والرحمة الإلهيين ... إن الوحي الإلهي لأم موسى ( عليه السلام ) قد رسم لها (خارطة الطريق) لإنقاذ موسى ، وجعلها تتحرك بوعي وإرادة ناتجين عن العلم الذي تلقته عن طريق ذلك الوحي، فالآية تحتوي على أمرين ( أرضعيه ، وألقيه في اليم ) وهما لازمان ليعيش موسى ( عليه السلام ) ويسلم من القتل ، ونهيين ( لا تخافي ولا تحزني ) حتى لا ترتبك وتضطرب فتخطىء في قراراتها ، أما البشارتان ( إنّا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ) فوعد مستقبلي سيشعرها بالثقة  تلك الثقة التي جعلتها توسع دائرة تحركها وتجنّد عنصراً آخر في عملية إنقاذ موسى ( عليه السلام ) وهي أخت موسى التي بعثتها في مهمة بغاية الخطورة وهي قولها :( قصّيه)  أي تتبعي أثره انتهاء بوصول الصندوق إلى قصر (فرعون) ، ثم التدخل في مشكلة إرضاع الطفل الجائع ، واقتراح مرضعة من بني إسرائيل في جو مشحون بالعداء والظلم لبني إسرائيل .

وهناك قصة أخرى في القرآن هي قصة عيسى (عليه السلام) نجد فيها أن القرآن يصرُّ على أن نقطة الانطلاق الأولى هي (الأم )قال تعالى : ( إذ قالتِ امرأةُ عمرانَ ربِّ إنّي نذرتُ لك ما في بطني مُحرراً فتقبّل منّي إنّكَ أنتَ السميعُ العليم ) عمران آية (35) فزوجة عمران كانت حاملاً ، وهذا يدل أيضاً ويؤكد أن المرأة في مرحلة الحمل والرضاع تكون في ذروة القرب من الله تعالى ... إن زوجة (عمران) قد وصلت إلى درجة من القرب الإلهي بحيث كانت أهلاً لأن تلد أم نبي ، وأن تنذر جنينها لله ، وعندما ولدت أنثى قالت : ( ربِّ إنّي وضعتها أُنثى واللهُ أعلمُ بما وضعتْ وليس الذكرُ كالأُنثى وإنّي سميتها مريمَ وإنّي أُعيذها بكَ وذريّتها من الشيطانِ الرجيم) آل عمران آية (36) وقد تقبل الله نذرها بقبول حسن ، وهيأ الظروف المناسبة لتتربى هذه البنت وتصل إلى أعلى الكمالات ، وبالرغم من أن القرآن يخبرنا أن زكريا (عليه السلام ) هو من كفل مريم ، ولكن تربيتها في السنوات الأولى من عمرها كانت على يد أمها فعندما نتكلم على مقامات مريم (عليها السلام ) كاصطفاء الله لها ، ورؤيتها للملائكة وتكليمهم إياها ، وكونها صديقة ، وحملها لنبي الله عيسى ( عليه السلام ) من غير أب ، كل تلك المقامات الخاصة كان لأمها الدور المهم والكبير فيها .

هذان نموذجان قرآنيان يلقيان الضوء - وباختصار- على نظرة الإسلام للأم ، أما في السنة النبوية وروايات أهل البيت (عليهم السلام) فهناك تأكيد لأهمية الأم ووجوب طاعتها ، وحرمة عقوقها ولزوم برها ، ومن تلك الروايات :  روى هشام بن سالم عن أبي عبدالله (عليه السلام) أنه قال :  جاء رجل إلى النبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال : يا رسول الله مَن أبرُّ ؟ قال : أمك ، قال : ثم مَنْ ؟ قال : أمك ، قال : ثم مَن ؟ قال : أمك: قال : ثم مَنْ ؟ قال : أبوك .

وورد في رسالة الحقوق للإمام السجاد (عليه السلام  ) :  (وأما حق أمك عليك أن تعلم أنها حملتك حين لا يتحمل أحدٌ أحداً ، وأعطتك من ثمرة قلبها ما لا يعطي أحدٌ أحداً ، وَوَقَتكَ بجميع جوارحها ولم تبال أن تجوع وتطعمك وتعطش وتسقيك ، وتعرى وتكسوك وتضحى وتضلك وتهجر النوم لأجلك وَوَقتك الحر والبرد لتكون لها فإنك لا تطيق شكرها إلّا بعون الله وتوفيقه ) .

خديجة أحمد موسى

المصادر :

جمال المرأة وجلالها / الشيخ جوادي آملي 

تفسير الأمثل / الشيخ ناصر مكارم الشيرازي