للأم مكانة خاصة لا يمكن أن تعوّض بغيرها في نَفَس الإنسان، فهي الحضن الدافئ والملاذ الآمن له صغيراً، والجذر والمعنى له كبيراً، فهي منبع العطاء المتدفّق بالحنان الذي يرتشف منه أبناؤها أصفى وأنبل وأرق وأصدق المشاعر، وقد أجمعت كل الديانات والحضارات على تقديس الأُم وإجلالها وعَدِّها رمزاً للخصوبة والانجاب ومنبعاً للخير والبركة، فالأم في اللغة تعني الأصل والأساس والجذر والمنبع والمنبت والمنشأ، وقد أطلق القدماء على الأرض التي ينبثق من ترابها كل الخير اسم الأم فقال الشاعر:

أُمُّنا الأرضُ من ثراها خُلقنا   ***   وإليها بعد المَمَاتِ نعودُ

 

وقلما عرفت لغات الأرض كلمة مشتركة بينها تضاهي كلمة الأم ففي بنية هذه الكلمة قاسم مشترك بين لغات الأمم يدور على ألسنتها ولاسيما ألسنة أطفالها على الدوام مع اختلاف يسير في حروف الكلمة، حيث تشيع عبارة (لغة الأم) في الكثير من اللغات لأن الأصالة الحقيقية إنما تسري إلى الطفل من خلال أمه لأنه مولود من رحمها وملتصق بها وملازم إياها في طور تكوينه ونموه فكأن الإنسان في طفولته يرضع اللغة من فم أمه مع رضاعة اللبن من ثديها.

وقد أحلّ الإسلامُ الأمَ منزلة سامية وأولاها احتراماً وتبجيلا في جانبه الإنساني والأخلاقي والتربوي فهناك الكثير من الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة التي تحظ على برِّ الوالدين، كما احتلت الأم حيزاً كبيراً في تراثنا الأدبي فقد حفظت دواوين الشعر العربي الكثير من القصائد التي حملت سمة الوفاء للأم وارتقت إلى مستوى الحب العظيم والاحترام الكبير وعرفان الجميل لها من الشعراء الذين استلهموا من معاني الأم الروح الإنسانية الكبيرة فتدفّق شعرهم عطاءً صادقاً وفكراً إنسانياً نبيلاً.

يقول أبو الطيب المتنبي في رثاء أمه وهو يبكي في لوعته التي تضجّ بصوته الإنساني الحزين فيفيض حباً ووفاءً لمن ماتت شوقاً إليه:

أتاها كتابي بعد يأسٍ وترحةٍ   ***   فماتتْ سروراً بي فمتُّ بها غَمَّا

وما انسدتِ الدنيا عليّ لضيقِها   ***   ولكنَّ طرفاً لا أراكِ به أعمى

فوا أسفا الاّ أكون مقبِّلاً   ***   لرأسكِ والصدرِ الذي مُلئا حزما

 

إن الحزن الذي التهب بصدر المتنبي لفقدان أمّه في هذه الأبيات قد التهب بصدر ابن الرومي قبله في قصيدة طويلة تجاوزت المائتين بيت فارتفع أنينه مجسداً ما يعتمل في نفسه من أحزان وآلام لفقده أمه فيحث عينيه على البكاء:

أفيضا دماً إن الرزايا لها قيمْ   ***   فليس كثيراً أن تجودا لها بدمْ

ولا تستريحا من بكاءٍ إلى كرى   ***   فلا حمد ما لم تسعداني على السأمْ

ويا لذة العيش الذي كنت أرتضي   ***   تقطّع ما بيني وبينك فانصرمْ

 

وحق له أن يبكي بدم لرزيته بفقد أمه التي كان يحيا بروحها ويستدفع البلوى بها فكان نداؤه انعكاساً لداخله فحزن ابن الرومي لا يقتصر على البكاء كونها أمه فقط، فثمة مصادر أخرى يبكيها الشاعر توفرت في أُمه التي كانت من العابدات ومن رفيقات المحاريب في الليل ومن ذوات الطباع الكريمة فيشير إلى عبادتها وزهدها:

فلا تعدمي أنسَ المحلِّ فطالما   ***   عكفتِ وآنستِ المحاريبَ في الظلمْ

كستْ قبرَك الغرُّ المباكيرِ حُلة   ***   مفوَّقة من صنعةِ الوبلِ والديمْ

رجعنا وافردناكِ غير فريدةٍ   ***   من البرِّ والمعروفِ والخيرِ والكرمْ

 

أما الشريف الرضي فقد توحّد في حزنه الذات والموضوع معاً لفقدانه أمه حيث يستبدّ به الحزن فيشخص بمادة الشعر معلناً تعزِّيه بالصبر الجميل:

أبكيكِ لو نفعَ الغليلُ بكائي   ***   وأقولُ: لو ذهبَ المقالُ بدائي

وأعوذُ بالصبرِ الجميلِ تعزِّياً   ***   لو كان بالصبرِ الجميلِ عزائي

طوراً تكاثرني الدموعُ وتارةً   ***   آوي إلى أكرومتي وحيائي

 

أما المعري فيرثي أمه بقصيدتين يقول في واحدة منهما:

سمعت نعيّها صمّاً صمامِ   ***   وإن قالَ العواذلُ لا همامِ

وأمّتني إلى الأجداثِ أمٌ   ***   يعزّ عليّ أن سارت أمامي

 

وهناك شعراء آخرون صبوا عواطفهم وفاءً لامهاتهم وسفحوا دموعهم بغزارة لفقدانها وتعددت الأسماء: أبو فراس الحمداني، وابن سناء الملك، وغيرهما أما من الشعراء المعاصرين فهناك الكثير من القصائد لشعراء بكوا أمهاتهم بلوعة وحسرة عميقتين وتجلى حبهم لها في أرق مشاعرهم منهم:  شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري، معروف الرصافي، وشبلي الملاط، وخليل مطران، رياض المعلوف، وأحمد شوقي، وأبو القاسم الشابي، وفدوى طوقان، وبدر شاكر السياب، ومحمود درويش، وقد أفرد بعض الشعراء دواوين كاملة خصَّ بها موضوع الأم منها (ملحمة الأمومة) للشاعر محمد العدناني، وديوان (أمي) للشاعر عمر بهاء الأميري، كما كتب عن موضوع الأم والأمومة جبران خليل جبران، وميخائيل نعيمة، وإيليا ابو ماضي، وأمين مشرق، والقروي، وغيرهم، ولكن تبقى الأم تلهم الشعراء بروحها الملائكية السامية فهي ينبوع حنان يتدفق.

 

محمد طاهر الصفار