شامخة كنخيل بلادها، تعلو سيماء وجهها الطيبة والسماحة ، نهلت الفكر الواعي الملتزم من تربية والديها اللذين تشرباه مسبقاً من مدينتهما (النجف) بوابة العلم، ثم جاء دورها بعد ذلك لتسلحه بالعلم والعمل المضني فارتأت أن يكون القلم منبرها للفضيلة، وقررت امتطاء صهوة الإعلام الذي أصبح بيدها مطرقة للحق، تدبُ فيه الروح متى ما حركت أناملها لنصرة مجتمعها ودينها، وبه أصبحت وبجدارة خير خليفة للشهيدة (بنت الهدى)، التي اتخذت منها قدوةً وقائدة في ذات الرحلة لا يفصل فكريهما سوى توقيت الزمان.

لفتت الانتباه إليها وكانت في الطليعة دوماً بشخصيتها الفريدة الطيبة والمتواضعة جداً رغم هالة الوقار التي أحاطت بها واستلهمتها فكراً وروحاً من مآثر التأريخ وهي تستحضر بطلة كربلاء في واقعة الطف مع كل حرفٍ وكلمة، لذا فرضت سجاياها السمحة على الجميع ودها واحترامها حتى أصبح تكليفاً الزامياً لا تستطيع القلوب إلا الإذعان إلى صوته.

خلال مشوارها الطويل وحربها الضروس على صفحات الأيام مع تلك المهنة الشاقة المرهقة لمن يجل الدين ويرتكز على الفضائل، خاصةً في مجتمعٍ يغص بالرشوة والانتهازية والتملق ناهيك عن أوضاعه المتقلقلة، استطاعت نقش اسمها بين اللافتات الكبيرة وزاحمت النجوم المتلألئة في سماء الإعلام العراقي.

تلك هي الدكتورة بيان عبيد عبد الحسين العرّيض، وليدة النجف الأشرف عام 1958م، التي امتزجت طينتها وطباعها بتراب تلك المدينة السامقة الزاخرة بالعلماء والأدباء وما زالت تشد إليها الرحال، وقد وصفتها في مقال بأنها "غير كل المدن التي يسكنها أناسها" وربما استمدت مدينتها ذلك السحر العجيب من فيض نور عميدها (أمير المؤمنين عليه السلام).

انتقلت العريّض فيما بعد مع عائلتها الى محافظة بغداد فكانت موطنها الثاني وحاضنة سني صباها وشبابها، ثم اتخذتها لا حقاً قبلةً أخيرة لإكمال نصف الدين فأثمرت شجرتها بنتين وابناً وحيداً أقر عينها بأول الأحفاد(مهدي).

والعريّض امرأة تتربع عرش الأمومة بكل مقاييس المعنى، فبيولوجياً لها ثلاثة أبناء فقط ولكن على الصعيد المعنوي في التعامل لم نعرف عدد أبنائها وما هو تأريخ أمومتها، فكل الإعلاميين ممن يصغرونها سناً صاروا أبناءها وبناتها وهي بدورها أماً للجميع بحنانها وطيب خلقها، لم تترك للتعالي والتصنع حرفاً في قاموس يومياتها ليزاحمها في علاقاتها الاجتماعية، فأجلها الكل لصدقها وعفويتها، وما بين كل لقاءٍ ورحيل يجمعنا ويفرقنا حتى موعدٍ آخر لا نزداد إلا امتناناً لها حيث وضعها الباري في طريقنا بوصلة إعلامية، كي نحذو حذوها في تمثيل الشخصية الإعلامية الإسلامية الحقة، ذلك أنها خلفت لنا أرثاً إعلاميا متميزاً وخبرة تراكمية لا يمكن المرور بها دون الوقوف لاستعراض بعض ما جادت به قريحتها الإعلامية والأدبية. فقد برعت في كتابة أغلب الفنون الصحفية وعلى وجه الخصوص (التحقيق) ولها العديد من القصص القصيرة والقصائد الشعرية وبعد رحلتها الدؤوب في الدراسة والبحث أكملت رسالة الدكتوراه عن تأريخ الإعلام المعاصر في العراق وبتقدير(امتياز)، وعملت كمحررة في العديد من المجلات والصحف العراقية والعربية ونخص بالذكر سنيّها الطويلة وعملها المتميز في مجلة (ألف باء) كمحررة تحقيقات ومسؤولة عن التدريب الصيفي لطلبة كلية الإعلام لعدة سنوات.

شاركت الدكتورة بيان في عدة مؤتمرات ومهرجانات اسلامية عراقية وعربية بتقديم أوراق بحثية، كما لديها عدة مؤلفات منها: (تاريخ العلاقات العمانية-الأمريكية 1970- 1990) صادر عن دار الجواهري 2013، و(علي والنساء) صادر عن العتبة العلوية المقدسة، و(الحسن والنساء) صادر عن العتبة العباسية المقدسة وأيضاً (ريادة الخطاب النسوي الإسلامي في العراق).

ومن مؤلفاتها ما يزال قيد الانتظار وتحت الطبع مثل: (الزهراء والنقاب) و(أنا الربيع النجفي) و(النجف مدينتي) وغيرها.

خلال هذه المسيرة الإبداعية حصدت الكثير من كتب الشكر والتقدير والجوائز من عدة جهات منها نائب رئيس الجمهورية وبعض الوزراء والعديد المؤسسات العراقية والعربية والعتبات المقدسة في العراق، وأيضاً احتفاء وزارة الثقافة عام 2014 في حفل تكريم اقامته امتناناً وتقديراً لجهودها المتفانية ولأن كتابها (الحسن والنساء) حاز على جائزة أفضل مؤلف كُتِبَ بحق الإمام الحسن عليه السلام، ومن الجدير بالذكر حصولها على لقب الموظف المثالي، بالإضافة الى منحها شهادات تقديرية كرائدة اعلامية من نقابة الصحفيين العراقيين.

في معترك العمل ولأن كلمة الحق هي النافذة الوحيدة المطلة على عملها تعرضت الدكتورة بيان العريض للاستهداف والمضايقة حتى اضطرت إلى مغادرة العراق وطلب اللجوء الانساني من مكتب عمان للأمم المتحدة، كما تعرضت للتهجير أكثر من مرة حتى عادت إلى موطنها من جديد بعد طول غياب، وخلال سني العمل الطويلة شغلت العديد من المسؤوليات الوظيفية بجدارة في وزارة الثقافة وآخرها (معاون المستشار الثقافي لوزارة الثقافة).

عند سؤالها عن الشخص الذي نحت شخصيتها وأثر بها في تقويم مسارها العملي أجابت: "أبي العزيز هو الذي رسم ونحت شخصيتي لأنه منحني ثقته قبل محبته فحاولت أن أكون جديرة بهذه الثقة اللامتناهية، فلولا أمي وأبي وعائلتي ما كنت أبدعت ولا كونت أسرة .. لهم أدين بكل هذا النجاح".

وعن العقبات التي واجهتها في مسيرتها الإعلامية تقول: في البداية كان الرفض من مجتمعي الصغير وبيئتي المحافظة في أن أكون صحفية أحد العقبات، خاصة وأن طريق الصحافة ملغوم بكل الصعوبات والابتلاءات التي قد تخطر في البال، ولكن حفظ الله وفتح مولاتي الزهراء عليها السلام لي هذه الكوة على الاغتراف من فيض محبتهم ومعرفتهم الحقة عوضني عن كل الخسائر والانتكاسات.

 

نغم المسلماني