الحلقة الثانية


شاهدت فاطمة بنت الحسين (عليهما السلام) في كربلاء ما يجل عن الوصف ويكبر على الفهم..، لقد رأت بعينيها تفاصيل تلك الفاجعة التي أبكت ملائكة السماء وعاشتها لحظة بلحظة..، كانت شاهدة على ذلك اليوم الدامي وتلك الجريمة الشنيعة التي ارتكبها الأمويون في كربلاء، كانت تنظر إلى مقتل أصحاب أبيها وأهل بيته فرأت أخوتها وعمومتها وبني عمومتها وهم يقتلون الواحد تلو الآخر!! ثم رأت ما لا طاقة لبشر على تحمله.. رأت وريث النبوة وهو يسقط صريعاً ويقطع رأسه ومن ثم يسحق جسده بسنابك الخيل!!!
كربلاء في عيني فاطمة
وتصف فاطمة (عليها السلام) ما رأته بعينيها في ذلك اليوم فتقول: (كنتُ واقفة بباب الخيمة وأنا انظر إلى أبي وأصحابه مجزَّرين كالأضاحي على الرمال والخيول على أجسادهم تجول وأنا أفكر فيما يقع علينا بعد أبي من بني أمية أيقتلوننا أو يأسروننا..) !!
لقد رأت بعينيها كل ذلك ثم رأت ما هو أفظع وأفظع فما إن قتل أبوها حتى هجم الجيش الأموي على الخيام لسلب النسوة وترويعهن:
تقول (سلام الله عليها): (وقد أخذ رجل حليّها وبكى، فقالت له: لم تبكي؟ فقال: أأسلب بنت رسول الله (صلى الله عليه واله) ولا أبكي؟ قالت: فدعه، قال: أخاف أن يأخذه غيري، وانتهبوا ما في الابنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورنا..)!!
لقد غربت الشمس على ذلك اليوم وكأنها تؤذن بالرحيل الأزلي، فالسماء تمطر دماً، وعلامات الغضب الإلهي تحل على الأرض بعد قتل ابن بنت نبيها وسر الله في أرضه، الريح تنذر بالفناء والرهبة وهي تسفي على تلك الأجساد الطاهرة المغطاة بالدماء. وهاجت بها لوعة الحزن والأسى وهي تنظر إلى هذه المشاهد التي تفطر القلب فقالت وهي تخاطب نفسها من هول المنظر ومن شدة المأساة:

نَعَقَ الغرابُ. فقلتُ: مَن * تنعاهُ.. ويحكَ يا غرابْ ؟
قالَ: الإمامَ. فقلتُ مَن ؟ * قالَ: المُوفّقَ للصوابْ
قلتُ: الحسينَ؟ فقالَ ليْ * بمقالِ محزونٍ أجابْ
إنَّ الحسينَ بكربلا * بينَ الأسِنَّةِ والحِرابْ
أبكِ الحسينَ بعبرةٍ * ترضي الإلهَ مع الثوابْ
ثم استقلَّ به الجناحُ * فلمْ يَطقْ ردَّ الجوابْ
فبكيتُ مَّمَا حلَّ بي * بعد الرضاءِ المستجابْ
كانت هذه الأبيات هي رثاء البنت المفجوعة بأبيها وقد خلقت من حزنها مخاطباً لها وهو الغراب لكي تعبر عما ألم بها من ألم في حوار درامي يبرز عمق الفاجعة, وقد خاطبت الغراب لأنه يدل على الشؤم والفقد، وهذا النمط في شعر الرثاء كان متداولاً في الشعر العربي كقول فاطمة بنت طريف ترثي أخاها الوليد:
أيا شجر الخابور مالك مورقاً * كأنك لم تحزن على ابن طريفِ
وقول ابنة حجر بن عدي ترثي أباها:
ترفّع أيها القمرُ المنيرُ * تبصّر هل ترى حجراً يسيرُ
جلست فاطمة إلى جنب عمتها عقيلة الطالبيين تلوذ بها مما هي عليه وهي تبكي، وتجمّع حولهما النساء والأطفال وهم يبكون وقد أصبحوا الآن ثكالى وأرامل ويتامى، رأت في وجه عمتها ما أذهلها!! لقد رأت وجهها يفيض بالطمأنينة واليقين وكأنها لم تر كل هذه المآسي والفواجع!! رأتها نهضت وراحت تخطو وسط الجيش إلى حيث جسد الحسين..! حتى الذي لم يعرفها رأى في مشيتها صفات علي فأخذته الرهبة وتراجع..!!
أكملت زينب مشيها حتى وقفت على جسد أخيها فجلست ورفعت رأس الحسين بيدها ووضعته في حجرها واستقبلت السماء وقالت:

ــ اللهم تقبل منا هذا القربان...
ثم رجعت إلى مكانها استعداداً لرحلة السبي إلى الكوفة...
في الكوفة
لا يمكن وصف ذلك المشهد المأساوي، فالكلمات تعجز عن إدراك تلك المشاعر الملتهبة والأنفاس المحترقة باللوعة والأسى كان فجراً أسوداً طلع على حرائر الوحي وهن على الإبل يطاف بهن على قتلاهن..., دماء.., وأشلاء مقطعة.. وأيادٍ وأرجل مطروحة على الأرض... ورؤوس مرفوعة على الرماح ... وهن ينظرن إليها ويبكين..
ها هي القافلة التي جاءت معها فاطمة من المدينة إلى كربلاء معززة مكرمة تعود بها إلى الكوفة أسيرة مسبية مع النساء والأطفال فقط، وها هم رجال القافلة على الأرض صرعى.
سمعت عمّتَها زينب تندب: يا محمّداه.. هذا حسينٌ بالعَراء، مُرَمَّلٌ بالدماء، مُقطَّع الأعضاء، وبناتُك سبايا وذريّتُك مُقتَّلة.
وسارت القافلة وسط صياح القتلة وأسواطهم وهم يصعّدون الأطفال والنساء على الإبل بالعنف والقسوة، ولكن فاطمة لم تفارق عيناها جسد أبيها حتى غاب عنها فاختنقت بعبرتها والدموع ملء عينيها.
وبعد رحلة مضنية دخلت فاطمة مع قافلة الحزن إلى الكوفة المدينة التي كانت عاصمة جدها أمير المؤمنين ها هي تتنكر لهم وتصفهم بالخوارج!!
هل سلبت السياسة الأموية الناس دينهم كما سلبتهم حريتهم وكرامتهم فتنكروا لآل النبي!! النبي الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور وحررهم من الذل والعبودية للإنسان إلى حرية الطاعة لله فرجعوا الآن إلى استعباد بعضهم لبعض ليكونوا تحت نير العبودية الأموية!!
خطبت السيدة زينب بخطبتها الخالدة التي شابهت كلام أبيها سيد البلغاء والمتكلمين، ثم خطبت بعدها أختها أمّ كلثوم، ثم جاء دور فاطمة بنت الحسين لتقرع بخطبتها رؤوس أهل الكوفة بالتقريع واللوم على قتلهم سيد شباب أهل الجنة وخذلانه ورجوعهم إلى الجاهلية الأولى بنسختها الأموية فقالت في خطبتها:
(الحمد لله عَدَدَ الرَّمل والحصى، وزِنةَ العرش إلى الثَّرى، أحمَدُه وأُؤمن به وأتوكّل عليه، وأشهد أن لا إله إلاّ اللهُ وحدَه لا شريك له، وأنّ محمّداً عبدُه ورسوله، وأنّ أولاده ذُبِحوا بشطّ الفرات، بغير ذَحْلٍ ولا تِرات!
اللهمّ إنّي أعوذ بك أن أفتريَ عليك الكَذِب، أو أن أقول عليك خلافَ ما أنزلتَ عليه مِن أخذ العهود لوصيّه عليّ بن أبي طالبٍ عليه السّلام، المسلوبِ حقُّه، المقتولِ مِن غير ذَنْب ـ كما قُتِل وَلَدُه بالأمس ـ في بيتٍ من بيوت الله فيه معشرٌ مُسلِمةٌ بألسنتهم، تَعْساً لرؤوسهم! ما دَفَعَتْ عنه ضَيماً في حياته ولا عند مماته، حتّى قبَضْتَه إليك محمودَ النَّقيبة، طيّبَ العَريكة، معروفَ المناقب، مشهورَ المذاهب، لم تأخُذْه فيك اللهمّ لَوْمَةُ لائم، ولا عَذْلُ عاذِل، هدَيْتَه اللهمّ للإسلام صغيراً، وحَمِدتَ مَناقبَه كبيراً، ولم يَزَل ناصحاً لك ولرسولك صلّى الله عليه وآله، حتّى قبضتَه إليك زاهداً في الدنيا غيرَ حريص عليها، راغباً في الآخرة، مجاهداً لك في سبيلك، رَضِيتَه فاختَرتَه فهدَيتَه إلى صراطٍ مستقيم.
أما بعدُ يا أهل الكوفة! يا أهل المَكْرِ والغَدر والخُيَلاء، فإنّا أهلُ بيتٍ ابتلانا اللهُ بكم وابتلاكم بنا، فجعَلَ بلاءنا حَسَناً، وجعَلَ عِلمَه عندنا وفَهمَه لدينا، فنحن عَيْبَةُ عِلْمِه، ووعاءُ فهمه وحكمته، وحجّتُه على الأرض في بلاده لعباده، أكرَمَنا الله بكرامته، وفَضَّلَنا بنبيّه محمّدٍ صلّى الله عليه وآله على كثيرٍ ممّن خلَقَ تفضيلاً بيّناً، فكذّبتمونا وكفّرتمونا، ورأيتم قِتالَنا حلالاً، وأموالَنا نَهْباً، كأنّنا أولادُ تُركٍ وكابُل كما قتلتُم جَدَّنا بالأمس، وسيوفُكم تَقطرُ مِن دمائنا أهلَ البيت؛ لحقدٍ متقدّم! قَرَّت لذلك عيونُكم، وفَرِحتْ قلوبكم، افتراءً على الله ومكراً مكرتُم، واللهُ خيرُ الماكرين. فلا تَدْعُوَنّكُم أنفسُكُم إلى الجَذَل بما أصَبتُم مِن دمائنا، ونالتْ أيديكم مِن أموالنا؛ فإنّ ما أصابنا من المصائب الجليلة، والرَّزايا العظيمة، في كتابٍ مِن قَبلِ أن نَبْرأها، إنّ ذلك على الله يسير، لكي لا تأسَوا على ما فاتكم، ولا تفرحوا بما آتاكم، واللهُ لا يحبّ كلَّ مُختالٍ فَخور.
تَبّاً لكم! فانتظِروا اللعنةَ والعذاب، فكأنْ قد حَلَّ بكم، وتَواترَت من السماء نَقِماتٌ فيُسْحِتَكم بعذاب، ويُذيقَ بعضَكم بأسَ بعض، ثمّ تُخَلَّدون في العذاب الأليم يوم القيامة بما ظلمتُمونا، ألا لعنةُ الله على الظالمين!
وَيْلكم! أتَدرون أيّةُ يدٍ طاعَنَتْنا منكم، وأيّةُ نَفْس نَزَعَتْ إلى قتالنا، أم بأيّة رِجْلٍ مَشَيتُم إلينا تَبغُون مُحاربتَنا ؟! واللهِ قَسَتْ قلوبُكم، وغَلظتْ أكبادُكم، وطُبع على أفئدتكم، وخُتم على سمعكم وبصركم، وسَوّلَ لكمُ الشيطانُ وأملى لكم، وجعل على أبصاركم غِشاوةً فأنتم لا تهتدون.
فتَبّاً لكم أهلَ الكوفة! أيَّ تِراتٍ لرسول الله صلّى الله عليه وآله قِبَلَكُم! وذُحولٍ لديكم بما صَنَعتم بأخيه عليِّ بن أبي طالبٍ جَدّي، وبَنيه وعِترتهِ الطيّبين الأخيار، فافتخرَ بذلك مفتخِرُكم فقال:
قد قَتَلْنا عليّـاً وبني عليٍّ * بسيوفٍ هنديّـةٍ ورمـاحِ
وسَبَينا نساءهم سَبْيَ تُرْكٍ * ونَطَحناهُـمُ فـأيّ نِطاحِ!
بفِيك أيُّها القائلُ الكَثْكَثُ والإثْلِب! افتَخَرتَ بقتلِ قومٍ زكّاهمُ الله وطَهّرَهم الله، وأذهَبَ عنهم الرِّجس ؟! فاكْظِمْ، وأقْعِ كما أقعى أبوك، فإنّما لكلّ امرئٍ ما كسَبَ وما قَدَّمتْ يداه.
وحَسَدتمونا ـ وَيْلاً لكم ـ على ما فضَّلَنا الله!
فما ذَنْبُنا إنْ جاشَ ـ دهراً ـ بُحورُنا * وبَحرُكَ سـاجٍ ما يُواري الدَّعـامِصا
ذلكَ فَضْلُ اللهِ يُؤتيهِ مَن يشاءُ واللهُ ذو الفضلِ العظيم، ومَن لم يَجعَلِ اللهُ له نُوراً فما له مِن نُورٍ).
لقد تكلمت بكل هذه الفصاحة والبلاغة وهي في تلك الحالة من الأسر والسبي فضجت المدينة بالبكاء والنحيب وقالوا:
(حَسْبُكِ يا ابنةَ الطيّبين؛ فقد أحرَقْتِ قلوبَنا، وأنضَحْتِ نُحوَرنا، وأضْرَمتِ أجوافَنا)
فقطعت خطبتها لكن وقع المأساة التي جرت عليهم والجريمة النكراء التي ارتكبت في كربلاء لم تنقطع صورها عن مخيلتها فقالت:
أيقتل ظمآناً حسين بـ كربلا * ومن نحره البيضُ الصقالُ لها وردُ
وتضحي كريماتُ الحسينِ حواسراً * يلاحظها في سيرِها الحرُ والعبدُ
فياله من رزءٍ عظيمٍ مصابه * يشق الحشا منه ويلتدمُ الخدُ

 

محمد طاهر الصفار