ترسم صورة لعدل علي

 

لم تنتهِ حرب صفين بانتهاء مواجهاتها العسكرية، بل بقيت ألسنتها ترسل شواظ الحق على رؤوس الباطل والطغيان في عقر دارها، سودة بنت عمارة بن الاشتر الهمدانية، ممن شهد لها التاريخ بموقف مشرّف وهي تواجه بلسانها الطاغية معاوية بكل جرأة وبسالة، كانت سودة من كرام نساء الشيعة وقد عُرفت بفصاحتها وبيانها، وكانت ممن حضر مع أمير المؤمنين (عليه السلام) في صفين، استدعاها معاوية بعد استشهاد أمير المؤمنين فلما دخلت عليه قال لها: هيه يا بنت الأشتر ألستِ القائلة لأخيك يوم صفين:
شمِّر كفعلِ أبيكَ يا ابنَ عمارةٍ * يومَ الطعانِ وملتقى الأقرانِ
واُنصر علياً والحسين ورهطه * واقصد لهندٍ وابنها بهوانِ
إن الإمام أخا النبي محمدٍ * علم الهدى ومنارة الإيمانِ
فَقُدِ الجيوشَ وسرّ أمامَ لوائهِ * قدماً بأبيضِ صارمٍ وسنانِ
فقالت سودة بكل شجاعة: أي والله ما مثلي من رغب عن الحق أو اعتذر بالكذب.
فقال لها معاوية: فما حملك على ذلك؟. قالت: حب علي واتباع الحق.
قال: فو الله لا أرى عليك من أثر علي شيئاً. فقالت: اُنشدك الله وإعادة ما مضى، وتذكار ما قد نُسي. فقال: هيهات، ما مثل مقام أخيك يُنسى، وما لقيت من أحد ما لقيت من قومك وأخيك. فقالت: صدق قولك، لم يكن أخي ذميم المقام ولا خفي المكان، كان والله كقول الخنساء:
وإن صخراً لتأتمُّ الهداةُ به * كأنه علمٌ في رأسهِ نارُ
قال: صدقتِ، لقد كان كذلك. فقالت: مات الرأس وبتر الذنب، وبالله أسألك إعفائي مما استعفيت منه. قال: قد فعلت ما حاجتك؟.
فقالت: إن الله سائلك من أمرنا وما افترض عليك من حقنا، ولا تزال تقدم علينا من ينوء بعزك ويبسط بسلطانك، فيحصدنا حصد السنبل، ويدوسنا دوس البقر، ويسومنا الخسيسة، ويسلبنا الجليلة. هذا بُسر بن أرطاة قدم علينا من قبلك، فقتل رجالي، وأخذ مالي، ولولا الطاعة لكان فينا عز ومنعة. فإما عزلته عنا فشكرناك، وإما لا فعرفناك.
فقال معاوية: أتهددني بقومك، لقد هممت أن أحملك على قتب أشرس، فأردك إليه ينفذ حكمه فيك. فأطرقت تبكي، ثم أنشأت تقول:
صلى الإلهُ على جسمٍ تضمّنه * قبرٌ فأصبحَ فيه العدلُ مدفونا
قد حالفَ الحقَ لا يبغي به ثمناً * فصار بالحقِ والإيمانِ مقرونا
قال لها معاوية: ومن ذاك؟. قالت: علي بن أبي طالب (عليه السلام) فقال: وما صنع بك حتى صار عندك كذلك؟. فقالت: قدمت عليه في رجل ولاه صدقتنا فكان بيني وبينه ما بين الغث والسمين، فأتيت علياً (عليه ‌السلام) لأشكو إليه ما صنع بنا، فوجدته قائماً يصلي، فلما نظر إلي أنفتل من صلاته، ثم قال لي برأفة وتعطف: (ألك حاجة) ؟ فأخبرته الخبر، فبكى ثم قال: (اللهم أنت الشاهد علي وعليهم اني لم آمرهم بظلم خلقك ولا بترك حقك).
ثم أخرج من جيبه قطعة جلد كهيئة طرف الجراب فكتب فيها: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ ﴿قَدْ جَاءَتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَاتَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ﴾ (وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) ﴿بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ ﴾، (إذا قرأت كتابي فاحتفظ بما في يديك عن عملنا حتى يقدم عليك من يقبضه منك والسلام﴾. فأخذته منه، والله ما ختمه بطين ولا خزمه بخزام فقرأته.
فقال لها معاوية: لقد لمظكم ـ أي عوّدكم ـ ابن أبي طالب على السلطان فبطيئاً ما تفطمون، ثم قال: اكتبوا لها برد مالها والعدل اليها.
قالت: ألي خاصة، أم لقومي عامة؟. قال: وما أنت وقومك؟ قالت: هي والله اذاً الفحشاء واللؤم إن لم يكن عدلاً شاملاً، وإلا فأنا كسائر قومي. قال: أكتبوا لها ولقومها.

محمد طاهر الصفار