(( شاء الله ان يراهنّ سبايا )) ، هكذا أجاب الإمام الحسين عليه السلام أخيه محمد الذي اعترض عليه لاصطحابه عائلته في مسيره إلى العراق حيث قال له محتجا : " فما معنى حملك هؤلاء النساء وأنت تخرج على مثل هذه الحال ؟" ، وكذلك اعترض عليه ابن عباس لخطورة الرحلة التي لا ينبغي أن يكون فيها نساء وأطفال قائلا له : " جُعلت فداك يا حسين ، إذا كان لا بد من المسير إلى الكوفة فلا تسر بأهلك ونسائك وصبيتك ، فإني والله لخائف أن تُقتل وهم ينظرون إليك " ، لكن السيدة زينب عاتبته قائلة : "  يا بن عباس ، تشير على شيخنا ، وسيّدنا أن يخلّفنا ها هنا ، ويمضي وحده ، لا ولله بل نحيا معه ونموت معه ، وهل أبقى الزمان لنا غيره ؟ " .

لقد أعلن الإمام الحسين عليه السلام رفضه القاطع لبيعة يزيد ، وبدأ مسيرة الجهاد والشهادة ، ودعا أخته الحوراء ، وعرّفها بعزمه ، وطلب منها مشاركته في نهضته ، كما دعا  عليها السلام  أولاده ، وزوجاته ، وأخوته ، وبني عمومته فلبّوا جميعا ولم يتخلّف منهم أحد إلا لعذر قاهر ، وكانت الوجهة الأولى مكة .

 

السيدة زينب ترافق الحسين عليه السلام في مسيرته ...

اختارت السيدة زينب عليها السلام مرافقة الحسين عليه السلام في طريق شائك مملوء بالتضحية ، والفداء في سبيل إحياء الدين والشريعة التي أراد الحكم الأموي طمسهما ، وساندته وشاركته في جهاده خطوة بخطوة ، ولكن دورها الحقيقي بدأ بعد استشهاده ؛ فمما لا شك فيه إن حفظ واقعة كربلاء ، وبقاء أهدافها ، واستمراريتها وقع على أكتاف السيدة زينب ، وأكتاف العائلة التي شاركتها مسيرة الأسر ؛ إذ لو لا النساء لمحي بنو أمية اسم كربلاء من التأريخ ، وأنسوا الأجيال واقعتها الأليمة وأهدافها السامية ! فمع الخداع والتضليل الديني والإعلامي الذي قام به الأمويون كان لا بد للحسين عليه السلام أن يفكر في مستقبل ثورته المقدّسة ، وكيفية حمايتها من تأثير الإعلام المعادي ؛ فالأمويون لن يكتفوا بقتله ، بل سيلجئون لتشويه ثورته ، وإسقاط شخصيّته بمختلف أساليبهم الماكرة .

لقد تصدّى الحسين عليه السلام لإيصال أهداف ثورته إلى أسماع الجمهور في المدينة ، وفي مكة مع جموع الحجيج ، وإثناء مسيره إلى العراق ، ثم في كربلاء وحتى قُبيل استشهاده كان يخاطب الجيش الأموي محرّضا وموجّها ، ولكن الثورة تحتاج إلى إعلام بعد شهادته بصورة أشد وأكثر تأثيرا ، فماذا سيكون الحال لو قُتل الحسين عليه السلام ومن معه من الرجال وسجّل التاريخ هذا الحادث الخطير من وجهة نظر أعدائه ؛فيضيع كل أثر لقضيته مع دمه المسفوك في الصحراء؟

 

السيدة زينب (عليها السلام) في بلاط يزيد ...

وصل موكب الأسرى إلى الشام ، ويزيد في أحد مصايف دمشق يدعى جيرون يتنزّه مع ندمائه ، فلما لاحت له الرؤوس على الرماح أنشد يقول :

لم ابدت تلك الرؤوس وأشرقت                         تلك الشموس على رُبى جيرون

نعِبَ الغرابُ فقلتُ صح أو لا تصح       فلقد قضيتُ من الحسين ديوني

وأراد كيفية خاصة لدخول السبايا ليكون دخولهم مهرجانا يحتفل فيه بانتصاره ، فدعى قادة الجيش ، وزعماء الشام ، والسفراء ، والأمراء ، إضافة إلى عامة الناس ، وأحاط نفسه بأجواء من الهيبة المُصطنعة ، وأمر بإجراءات بالغة الصعوبة على الأسرى ؛ الغرض منها إيقاع أكبر قدر من الإذلال ، والهوان في نفوسهم ؛ حيث أوقفوهم على باب المسجد مكان إيقاف سبي الكفر وقد أوثقوهم كتافا يقول الإمام السجاد عليه السلام : " لم اوفدنا على يزيد بن معاوية ، أتوا بحبال وربقونا مثل الأغنام ، وكان الحبل في كتفي وعنق أم كلثوم ، وبكتف زينب والبنات ، وكلما قصرنا عن المشي ضربونا حتى أوقفونا بين يدي يزيد وهو على سرير ملكه " .

وتمادى يزيد لعنه الله  في إظهار شماتته فراح ينكث ثنايا الحسين عليه السلام بعصاه ، وينشد :

ليت أشياخي ببدر شهدوا        جزع الخزرجِ من وقع الأسل

لأهلّوا واستهلّوا فرحا           ثم قالوا يا يزيد لا تُشل

قد قتلنا القرم من ساداتهم        وعدلناه ببدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا           خبر جاء ولا وحي نزل

عندها قررت السيدة زينب عليها السلام أن تمارس دورها الرسالي في إظهار الحق ، وأن تتحمل مسؤوليتها في مواجهة الكفر ، فأفسدت ما دبُره يزيد لعنه الله  ، وأفشلت مهرجانه ؛ فحين وقع نظرها على رأس الحسين عليه السلام نادت : " يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا ابن مكة ومنى ،يا ابن فاطمة الزهراء سيدة النساء ،يا ابن المصطفى " يقول الراوي : " فأبكت والله من كان في المجلس ويزيد ساكت " .

هنا استخدمت السيدة زينب عليها السلام  سلاح المظلوميّة ، وتحريك العاطفة والوجدان ، وإلهاب المشاعر ، وهي من أهم الأسلحة التي استخدمتها السيدة زينب ، وبعد أن هيأت الحضور عاطفيا قامت بإلقاء خطابها الذي يُعتبر من متممات النهضة الحسينية ، ومن روائع الخطب دمرت من خلاله جبروت يزيد ، وعرّفته عظمة الأسرة النبوية التي لا تنحني أمام الطغاة ، كما يعتبر أهم وثيقة فكرية سياسية تسلط الأضواء على خلفيات المعركة بين أهل البيت والأمويين ، وتناقش بعض التفاصيل الهامّة لتلك المعركة ، وتقدم استشرافا وتصورا مستقبليا لآثار المعركة ونتائجها ، وبعد أن أنهت السيدة زينب خطابها الناري انعكس الأمر ، وتحول مجلس يزيد لعنه الله  إلى ساحة محاكمة وميدان معركة تكبّد فيها هزيمة نكراء ، وفوجئ بما لم يتوقّعه .

وفي نظرة متأملة على الخطاب نجد :

ـــ          خاطبت السيدة زينب عليها السلام  يزيد لعنه الله  باسمه الصريح وبدون ألقاب لتوضح عدم اعترافها بخلافته ، وتذكره ان السلطة والقوة التي يمتلكهما ليستا دليلا على المشروعية والرضا الإلهي ، فقد يمهل الله الكافرين لتزداد قوتهم وإمكانيتهم ، وليكون ذلك سببا لانحطاطهم وعذابهم .

ـــ          أدانت يزيد لعنه الله  في مجلسه ، وأمام حاشيته ، وبيّنت أن سياسته المنحرفة الفاسدة هي استمرار لسلوك أسلافه المشركين ، حيث ذكّرته بأجداده الطلقاء ، فيزيد لم يأت بجديد ما دام هو الخلف لذلك السلف ، كما توعّدته بالعذاب ، وأن مصيره الهلاك الوشيك كمصير أجداده ، فهو لاحق بهم وشيكا .

ـــ          أشادت بأهل البيت وفي مجلس قد انعقد للشماتة بهم ، وفي مجتمع قد تربّى على بغضهم ولم يعرف يوما سوى أعدائهم ، وبيّنت أن الإسلام بُني بأسيافهم وأن ما يتمتع به يزيد من ملك وسلطان يعود إليهم فهم القادة الحقيقيون لهذه الأمة ، كما أشادت بشهداء كربلاء ووصفتهم بأحسن الأوصاف وأن الحسين عليه السلام سيد شباب أهل الجنة ، واعتزّت بأسرتها وأمجادها العظيمة .

ـــ          وأخيرا ؛ نسفت السيدة زينب عليها السلام أوهام يزيد بالنصر الذي شاعه عبر أبواقه الإعلامية بين الجماهير الجاهلة ، فهي تقرر أمام مجلسه بأنه قد انهزم وسقط بالحضيض وإن ادّعى النصر ، ثم تتحداه أن يتمكن من طمس الحق المتمثل بأهل البيت ، ومحو ذكرهم الذي يجسّده الوحي الإلهي ، وعبّرت عن احتقارها لمظاهر قوته الزائفة ، وأنها أسمى من أن تخاطبه لو لا ما فرضته عليها الظروف .

وهكذا أقامت السيدة زينب عليها السلام الدنيا ولم تقعدها على يزيد لعنه الله  ؛ فسادت النقمة والاستياء في العاصمة الأموية ، وارتفعت أصوات المعارضة حتى داخل قصره من زوجته ، وابنه معاوية بن يزيد الذي رفض الخلافة الأموية معلنا تنديده بسياسة جده وأبيه ؛ مما جعل يزيد يظهر البراءة من قتل الحسين عليه السلام ، وينسبه إلى ابن زياد في محاولة فاشلة لامتصاص النقمة الشعبية حيث أعلن قائلا : " يا حسين لو كنت صاحبك ما قتلتك " ، أو على الأقل تمنى لو لم يدفعه حقده وحماقته إلى نشر جريمته على رؤوس الأشهاد عبر قافلة السبايا، كما أسرع بترحيل أهل البيت من الشام حذرا من أن تأتي الثورة على ملكه ، بل وردّ عليهم كل ما سُلب منهم ، وسيّر معهم الخدم والحرس ليقوموا بخدمتهم في طريق العودة بعد أن طلبوا منه السماح لهم بإقامة العزاء ؛ فأخلى لهم أحدى قاعات القصر ليقيموا فيها مأتمهم ؛ وبهذا تحول عيد الشام إلى مأتم وفي القصر الأموي .

لقد كان هدف السلطة الأموية من خلال التشهير بالسبايا إرعاب الناس حتى لا يفكروا بمعارضة السلطة أولا ، وثانيا تعبئة الجمهور ضد الحسين عليه السلام بإظهاره خارجيا متمرّدا ولكن موقف السيدة زينب عليها السلام الرسالي والإعلامي الذي قامت به مع بقية العائلة أفشل مخطط السلطة وعكس نتائجه .

لقد دفعت السيدة زينب  عليها السلام وعائلة الحسين ثمن بقاء نهضته وأهدافها الإصلاحية عن طريق الأسر ؛ فكان اصطحاب النسوة معه معجزته الكبرى والدليل على إمامته  .

المصادر:

ـــ          الخصائص الزينبية / نور الدين الجزائري .

ـــ          المرأة العظيمة / الشيخ حسن الصفار .

ـــ          الخصائص الحسينية / السيد نور الدين الجزائري .

ـــ          حياة السيدة زينب بطلة التاريخ ورائدة الجهاد / الشيخ باقر شريف القرشي  .

 

 

خديجة أحمد موسى