الحديث عن الاميرة الجارية وسيدة الإماء يطول ويحتاج إلى حيز يتجاوز هذه الكلمات المحدودة ، أذ أنه ثري بثراء قضيتها في ولادة مخّلصنا ومنقذنا ، وخصب بخصوبة آلام المعذبين المنتظرين خلاصهم من خلاله ، لهذا وذاك كان لنا إشارات بسيطة لتحليل متواضع في هذا المقال ، مرورا ببعض الرؤى التاريخية التي لا تنفك عن افكار من يريد ان يكتب في هكذا موضوع .

فمن منا لا يَدْفَعُه الشوق والحنين لإمام زمانه ؟ وإلى معرفة تفاصيل ولادته ونشأته ؟ ومعرفة ارومته أولا ، ورحم اكتنفه ونال كرامة احتضانه كخاتم للأولياء والأوصياء ؟

قد لا نستطيع الإلمام بدقائق او كلمات ، لطف الفعل الإلهي في قصة زواج الإمام العسكري عليه الصلاة والسلام وجزئيات ذلك كمقدمات ومآلات له، إلا أننا نستعرض بعضاً منها، علها تروي عطش المتلهفين لنفحات من أجواء الولادة المباركة لصاحب العصر (عجل الله فرجه) .

السيدة نَرجِس هو الاسم المعروف لوالدة الإمام المهدي المنتظر (عجل الله تعالى فرجه الشريف)، هذا الاسم الذي يتبرك به الكثيرون من مُحِبي الإمام الحجة ومواليه، فيُسمون بناتهم به؛ تيمناً بها وبوليدها منقذ البشرية ، وما جاء ذلك الا لأن قصتها مليئة بالأسرار والعجائب، محفوفة بالعناية الإلهية والمشيئة الربانية، فعندما يكون الإمام المهدي أرواحنا فداه هو محقق الوعد الإلهي، ومُتمم مشروع الأنبياء والأئمة (عليهم السلام) بقيام الدولة العالمية، ، فأن لازمة ذلك وضرورته تستوجب ان يكون له إيجاد لا كغيره من الإيجادات ، بدءا من التخطيط ، وصولا للمرأة التي ستعقد فيها نطفة الإمام العسكري ليكون وليدا  مباركا، يغذيهِ لبنها، ويَضُمه كنفها، وهي لا محالة منزلة عظيمة لإمرأة تتناسب مع هذا القدر من عظمة المولود، وعالمية مشروعه الإلهي!  .

فقد اختار الله سبحانه وتعالى والدة خاتم الأوصياء (عليهم السلام (من بلاد الروم، فهي حفيدة قيصر ملك الإمبراطورية الرومية، وهو جدها لأبيها, واسمها في بلادها ( مليكة (، ابنة يشوعا بن قيصر ملك الروم  ، وتنحدر من نسل الحواريين، وهم أتباع نبي الله عيسى بن مريم (عليه السلام)، الذي أدخره الله تعالى، لكي يؤدي دوره العظيم في هداية أتباعه وعُبّاده، في مرحلة حساسة من التاريخ، يظهر فيها الإمام المهدي (عجل الله فرجه) ويقيم دولته وحضارته الإلهية في اجواء من الانتظار من جهة المحبين والتجسس من جهة عسس الشر ، وهو ما حتم ان تحاط قصة السيدة (نرجس) بسرية تامة، بدءا من تَنَقُلها من بلاد الروم، إلى بلاد المسلمين، ومن ثم إلى منزل الإمام علي الهادي (عليه السلام)، لِتزف عروساً لولده الإمام الحسن العسكري (عليه السلام)، وترزق بمولودها المبارك بعد ذلك .

جميع مشاهد هذه الفصول تسير بتخطيط دقيق وحذر، والبداية كانت من اللحظة التي أوعز فيها مولانا الإمام الهادي (عليه السلام) إلى بشر بن سليمان النخاس ( وهو أحد التقاة الموالين ) مهمة الذهاب إلى بغداد، لشراء جارية رومية،
معبراً (عليه السلام) عن حساسيّة هذه المهمة وأهميتها، بأنها شرفٌ وتزكيةٌ لمن يقوم بها ، بل لمن يطلع على حقيقة سرها وفضيلة ينال صاحبها سابقة في موالاة أهل البيت (عليهم السلام ) ، قائلا له : " يا بشر ، إني مزكيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها شأو الشيعة في الموالاة بها " .

ومِن هذه المشاهد التي تستحق أن يقف عندها الفكر بتدبر ومناقشة وايمان غيبي عميقا ، منها ما يتعلق بأرسال الإمام الهادي (عليه السلام) مع بشر كتاباً ملصقاً بخط رومي، ولغة رومية، ومطبوع عليه بخاتمه الشريف وتسليمه مبلغا من المال وافق ذات المقدار الذي استقر عليه النخاس (صاحب الجارية الرومية) بعد المساومة بخصوص ثمن الجارية ! ، بعد ان حدد له اسم النخاس واسم أبيه وبين له أوصاف الجارية المراد ابتياعها، وأوصاف لباسها أيضاً، وما تمتز به من صفات خُلقية كالعفة والحياء، فضلا عن إتقانها للعربية، وامتناعها عن قبول بيعها لعدة أشخاص رغبوا فيها غيره ، ليسلم بشر كتاب الإمام الهادي للنخاس ويعرفه عن نفسه بعنوان وكيل عن أحد الأشراف، وأن هذا الكتاب منه ، لتقرأ الجارية وتقبل ابتاعها له ، وبإصرار كبير وبوجه مستبشر كأنها ستحقق أمنية عمرها، ليكون هذا الكتاب رفيقها تخرجه من حين إلى آخر ، تقرأه ، تَلثمه ، تضعه على خدها ، تُطبقه على جِفنها ، تمسحه على بدنها تبركاً بمن أرسله  .

وللتدخل الغيبي علاماته الكثيرة في هذا الموضوع ، منها ، أن الله سبحانه وتعالى بقدرته وحكمته منع مشروع زواج السيدة نرجس من ابن عمها مرتين ادخارا لها كزوجة للإمام الحسن العسكري ووالدةً للإمام المهدي (سلام الله عليهما ) ، لتبتدأ بعد ذلك رحلة قدومها من بلاد الروم إلى بلاد المسلمين، وبشكلٍ طبيعي لا يثير الشك والريبة، بعد ان انضمت إلى عداد جيوش رومية أعدها والدها لغزو المسلمين ، وتنكرت بزي الخدم مع عدة من الوصائف وتنكرها بإسم نرجس كونه اسم يطلق على الجواري فقط ، لتقع في الأسر بأيدي طلائع المسلمين، دون أن يشعر أحد بأنها ابنة ملك الروم ، خصوصا وأنها عرفت بإلمامها للغة العربية، من خلال الاهتمام البالغ الذي تحصلت عليه من خلال جدها القيصر بعد ان كلف امرأة تقصدها صباحاً ومساء لتعليمها العربية حتى اتقنتها بل وبتعليمها لمختلف العلوم والآداب .

اما بعد وصولها منزل الإمام الهادي (عليه السلام)، فوجئت بحياة جديدة ، حيث الكنف الحاني في بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة وما تحصلت عليه خلال ذلك من رعاية واهتمام ، مما اعجزها عن وصف فرحتها البالغة عندما سألها الإمام الهادي (عليه السلام) عن حالها، وعبرت بقولها :" كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني" ، خصوصا بعدما سرها ببشرى إنجابها ولداً يملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً ، لتستقر بعد ذلك عند السيدة حكيمة أخت الإمام الهادي (عليه السلام) التي امتازت بكونها سيدة لها منزلة عظيمة جعلت منها من الخواص الذين أطلعهم الإمام على قصة السيدة نرجس وعلى ولادة الإمام المهدي (عجل الله فرجه)، لتكون بعد ذلك الشاهد الأهم على الولادة المباركة بعد ان استدعاها تلك الليلة وعبر عن ذلك بقوله لها : "يا مباركة، إن الله تبارك وتعالى أحب أن يشركك في الأجر ويجعل لكِ في الخير نصيباً " ، إذ مكثت عندها مع عداد من الجواري - أي متنكرة – لتحظى بذلك بخصوصية ميزتها عن غيرها من الجواري بتولي السيدة حكيمة لرعايتها وتربيتها وتعليمها الفرائض والسنن ، بل واستأذنت لها بعد فترة ، أخاها الإمام الهادي (عليه السلام) في أمر زواجها من الإمام العسكري (عليه السلام) .

ولا يفوتنا ان نذكر ما امتازت به السيدة نرجس ( عليها السلام ) من مائز خلقي كريم هو عدم ظهور علامات حملها بالإمام المهدي (عجل الله فرجه) حتى موعد الولادة المباركة ، وهو احد اوجه الشبه بين الإمام الحجة (عجل الله تعالى فرجه) والنبي موسى (عليه السلام( خصوصا بعد ان اعتادت السلطة الجائرة آنذاك على مداهمة منزل الإمام العسكري (عليه السلام)، وبشكل مكرر ومستمر وبأكثر من صورة ، فتارة كانت تغير بالخيول، وتارة تنهب وتسلب؛ بغية الحؤول دون ولادة الإمام المهدي بقتل الإمام العسكري (سلام الله عليهما) وإبادة نسله، أو قتل الإمام المهدي (عجل الله فرجه) إن وُلد ، لتتدخل العناية الإلهية بأجلى صورها لأفشال مخططهم من خلال حضور اللحظة المفصلية في مسار الإنسانية بالولادة الميمونة في المنتصف من شعبان الخير إذ طلب الإمام العسكري (عليه السلام) من السيدة حكيمة ليلتها أن تُفطر وتبيت عنده ، قائلا لها : " إن القائم من آل محمد يولد في هذه الليلة" ، لتنعم عندئذ السيدة نرجس ومن بعدها كل المغيبين والمظلومين بإشراقة نور الإمام المهدي (عجل الله فرجه الشريف) وتفيض بحبه قلوب المحبين بالبشارة والسرور التي نقلها الإمام العسكري (عليه السلام) إلى كل قريب وولي .

 

أُلفت الفتلاوي